لا ولادة بلا حريّة.. ولا حريّة بلا ولادة
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
عند ولادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسرعت "ثويبة السّلمية" التي كانت جاريةً مملوكةً إلى سيّدها ومالكها عبد العزّى بن عبد المطّلب "أبو لهب"، تبشّره أنّ آمنة بنت وهب زوجة أخيه عبد الله قد أنجبت ولداً ذكراً.
فرحَ أبو لهب فرحاً غامراً ومضاعفاً بهذا الخبر؛ وأعلن أنّه أعتقَ ثويبةَ مكافأة لها على هذه البشارة الكبيرة.
وهكذا غدت ثويبة حُرّةً من الرّقّ والعبوديّة، ونالت حريّتها في مجتمعٍ لا يراها إلّا متاعاً يباع ويشترى، لا إرادة لها ولا حقّ في الحياة، بل لا حقّ لها في إبداء أدنى رأي في أبسط تفاصيل حياتها.
لقد كانت هذه الحادثة إيذاناً ببدء مسيرة انعتاق الإنسان من نير العبوديّة، وإعلاناً بأنّ ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم هي شارة الانطلاق في ميدان تحرير الإنسان من أغلال الرّقّ لاستعادة إنسانيّته المهدورة.
وهكذا كان أوّل إنجاز تحقّق بولادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو تحرير العبيد من الرّقّ، ونيل الإنسان أغلى ما يطلبه في هذه الحياة: الحريّة.
من أراد أن يعيش ولادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعليه أن يتحسّس الحريّة في نفسه؛ ومدى تشبّع روحه بمعاني الحريّة والكرامة، وعليه أن يقف مع نفسه وقفة مصارحةٍ يسائِلُها عن مدى تحقّق حريّته هو قبلَ الآخرين من قيود الطّغاة والمجرمين، وعن مدى انعتاقه من الخضوع لاستبداد المستبدّين على اختلاف أشكالهم ووجوههم وأقنعتهم، ويسائل نفسه أيضاً عن مدى عمله وسعيه من أجل تحرير الإنسان؛ أيّ إنسان بغضّ بعضّ النّظر عن انتمائه وعرقه وجنسه ولونه وجنسيّته ومعتقده من الخضوع لأغلال الرّقّ والاستعباد بصورها المختلفة وأوجهها المتداخلة والمتعدّدة.
ولا يمكن أن تتحقّق فينا الولادة الحقيقيّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا بمقدار عتقنا من أغلال الخضوع للمخلوقين وكسرِنا قيود تأليه البشر وتحطيمنا أصنام ظلمهم وعدوانهم واستكبارِهم، وانطلاقنا في فضاء الحريّة الأرحب.
وقد أبدع الشّاعر اليمني عبد الله البردّوني أيّما إبداع حين بيّن في قصيدته البديعة "بشرى النّبوءة" مدى اغتمام الطّغاة من ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وكيف أنّها أضاءت فضاءات الحريّة للإنسان؛ فيقول في بعض أبيات قصيدته البديعة كلّها:
بُشرى النُّبوَّة طافَتْ كالشَّذى سَحَراً
وأعْلنَتْ في الرُّبى مِيْلادَ أنْوارِ
وَهَدْهَدَتْ "مكَّةَ" الوَسْنَى أناملهُا
وهزَّتِ الفجرَ إِيذاناً بإِسْفَارِ
فأقبل الفجرُ من خَلْفِ التِّلالِ وفي
عَيْنَيْهِ أسْرار عشَّاقٍ وسُمَّارِ
وشبَّ طفلُ الهدى المنشودُ متِّزِراً
بالحقِّ متَّشحاً بالنُّور والنَّارِ
وفاضَ بالنُّور فاغتمَّ الطُّغاةُ بِهِ
واللِّصُّ يخْشَى الكوكبِ السَّاري
والوعْيُ كالنُّورِ يُخْزِي الظَّالمين كما
يُخْزِى لصوصَ الدّجى إِشراقُ أقمارِ
رأى اليتيمُ أبو الأيتامِ غايتَه
قُصْوَى فشقَّ إليها كلَّ مِضمارِ
مضى إِلى الفتحِ لا بَغياً ولا طمعاً
لكن حناناً وتطهيراً لأوْزارِ
فأنزلَ الجورَ قبراً وابتنى زمناً
عَدْلاً؛ تدبِّرهُ أفكار أحرارِ
أمّا الطّغاة المستبدّون الذين يتصدّرون احتفالات المولد النبويّ، ويتعاملون معها بوصفها جزءاً من البروتوكولات التي تدلّل على انتمائهم للإسلام بغية إيصال رسائل إعلاميّة عن مدى ارتباطهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى الجماهير الغافلة؛ فهؤلاء حالهم كحال فرعون الذي يتلبّسُ برداء المصلح ليسوّغ ألوهيّته، فهم يلبسون ثوب حبّ النبيّ والاحتفال بذكرى ولادته ليسوّغوا استعبادهم للنّاس وإنزال بطشهم وظلمهم على عباد الله تعالى؛ انظروا إلى قوله تعالى: "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ".
وأمّا الذين يترنّمون بحبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويحتفلون بمولده، من المنتسبين إلى العلم الشرعيّ وحقل الدّعوة وشباب المساجد واللابسين أثواب التنسّك والتعبّد وحبّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم وهم خاضعون بإرادتهم لاستبداد هؤلاء المجرمين ومستسلمون للرقّ برغبتهم ومستمتعون بالأغلال في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، ويرون في المستبدّين ورّاث النّور المحمّدي؛ فمثلهم كمثل الغارق في مستنقع من النّجاسة باختياره لكنّه لا يكفّ عن إنشاد الأشعار في جمال الطّهرِ والنّقاء، إنّهم تماماً كما قال الله تعالى فيمن لا يفيدون من النّور الذي بين أيديهم: "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".
إنّ ذكرى ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلّم فرصةٌ حقيقيّة لتحقيق الولادة من جديد في عالم الحريّة وتجديد العهد على رفض الخضوع لرقّ الطّغاة والعبوديّة للمستبدّين أيّاً كانوا، وإلّا فإنّنا مهما ردّدنا من أناشيد الحبّ والشّوق لرسول الله صلى الله عليه وسلّم سنبقى في أقبية الرقّ المظلمة نبحثُ عن النّور وهو نصب أعيننا لكنّنا لا نراه ولا نجده؛ فلا حريّة بغير ولادة، ولا ولادة بغير حريّة.
twitter.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاسلام الحرية المولد النبوي الطغيان مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسل م عن مدى
إقرأ أيضاً:
حكم الإنابة في الحج لمن تعذر عليه أداء الفريضة.. يسري جبر يجيب
قال الدكتور يسري جبر، من علماء الأزهر الشريف، إن حديث المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟"، وأجابها النبي ﷺ: "نعم"، يحمل في طياته دلالات عظيمة في البلاغة، والفقه، والأدب، وأصول الاستنباط.
هل صوت المرأة عورة؟.. يسري جبر يوضح الرأي الشرعي
يسري جبر: زيارة المريض مستحبة شرعًا.. لا يثقل عليه ولا يحرجه أو يزعجه
يسري جبر: اتباع الجنازات مندوب شرعًا وواجب في هذه الحالة
هل يصح لأي إنسان أن يستفتي قلبه؟.. يسري جبر يجيب
وأوضح الدكتور يسري جبر، خلال تصريحات تلفزيونية، اليوم الجمعة، أن هذه المرأة ضربت مثالًا في الإيجاز والبلاغة، إذ جمعت المعنى بعبارات قصيرة واضحة، فقالت كلمات معدودة لكنها حملت معانٍ دقيقة: "فريضة"، "أبي شيخًا"، "لا يثبت على الراحلة"، "أفأحج عنه؟"، مما يعكس فصاحة العرب ووعيهم بمقام النبوة وعدم الإطالة في الخطاب.
وأضاف: “من الأدب مع النبي أنها لم تُطل في السؤال، بل أوجزت وأنجزت، وهذا يدل على فقه المرأة وأدبها مع رسول الله ﷺ، كما أن النبي أجابها بكلمة واحدة: (نعم)، وهذا غاية في البلاغة والوضوح”.
وأشار إلى أن هذا الحديث يُعد أصلًا في جواز الإنابة في الحج، وأن الأئمة الأربعة تناولوه بتفسيرات مختلفة، حيث قال المالكية إن الإنابة لا تجوز في الفريضة لمن لم تتحقق فيه الاستطاعة، لأن والدها في الحديث لم يكن قادرًا بدنيًا، وبالتالي لا تجب عليه الحجة أصلاً، فتكون النيابة عنه في حج نافلة.
أما الشافعية والأحناف والحنابلة، فقد فهموا من الحديث أن الإنابة جائزة في الحج الفرض والنافلة على السواء، بدليل أن النبي ﷺ لم ينكر على المرأة قولها "فريضة" بل أقرها، وقال لها: "نعم"، مما يدل على قبول الحج عنها كفريضة، لا كنافلة فقط.
وأوضح أن المالكية استندوا إلى قاعدة فقهية تقول إن "العبادات البدنية المحضة لا تقبل النيابة"، مثل الصلاة والصوم، في حين أن الزكاة - باعتبارها عبادة مالية - يجوز فيها التوكيل، أما الحج فعبادة مركبة: بدنية ومالية، ومن نظر إلى تغليب البدن قال بعدم جواز الإنابة، ومن نظر إلى اجتماع الجانبين أجازها بشروط.