سامح قاسم يكتب.. أدب المقاومة في مواجهة الاحتلال
تاريخ النشر: 2nd, November 2023 GMT
ليست المقاومة المسلحة مجرد قشرة، هي ثمرة لزراعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، وإرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف. ومثل هذا النوع من المقاومة يتخذ شكله الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل واحدهما الآخر الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحتضنها وتضمن استمرار مسيرتها وتحيطها بالضمانات، ومن هنا فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها، وبالتالي فإن رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلح.
لذا نجد أنه في الفترة التي امتدت بين 1948 و1968 قدم المثقفون العرب في فلسطين المحتلة من خلال أقسى ظروف القمع والأسر الثقافي نموذجا تاريخيا للثقافة المقاومة بكل ما فيها من وعي وصمود وصلابة وأهم من ذلك بكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق. وفي الواقع فإن أدب المقاومة على وجه الخصوص لم يكن أبدا ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية وفي هذا النطاق فإن المقاومة الفلسطينية قدمت على الصعيدين الثقافي والمسلح نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة.
وحفل التاريخ الفلسطيني منذ الثلاثينيات على الأقل بمظاهر المقاومة الثقافية والمسلحة على السواء وإذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها شعب فلسطين قد أنتجت أسماء من طراز عز الدين القسام مثلا، فإن أدب المقاومة قد أنتج قبل ذلك ومعه وبعده أسماء ما زال المواطن العربي يذكرها بكثير نت الاعتزاز ومن أبرزها ابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي وغيرهم ومن هذه الناحية فإن أدب المقاومة الفلسطيني الراهن مثله مثل المقاومة المسلحة سشكل حلقة جديدة في سلسلة تاريخية لم تنقطع عمليا خلال نصف القرن الماضي من حياة الشعب الفلسطيني.
وما يميز الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948 حتى 1968 هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة التي تحداها وعاشاها وكانت الأتون الذي خبز فيه انتاجه الفني يوما وراء يوم.
تكمن أهمية الدراسة التي نتناولها الآن في تقديم نماذح ربما تكون مجهولة للكثيرين. نماذج عبرت بشكل رائع عن المقاومة في قالب أدبي أو قل كانت مدارس في أدب المقاومة لقد قدم هذه الدراسة ورصد نماذجها وتناول ما قدموه بالتحليل الوافي واحد من أهم الكتاب الذين ضربوا مثلا رائعا في المقاومة بالعمل والمقاومة بالأدب. إنه غسان كنفاني صاحب هذه الدراسة التي بين أيدينا والتي جاءت تحت عنوان: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968.
في بداية الدراسة يقول غسان كنفاني عن الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة: إن عرب فلسطين المحتلة يبذلون نضالا حقيقيا للحفاظ على لغتهم وثقافتهم وتراشهم وفي الواقع فإن المعركة هذه تمثل واحدة من أبشع وسائل الاستعمار الاسكاني في سحق الحركة الوطنية ومحاولة اجتثاثها من جذورها وكي ندرك فعلا ما هي قيمة أدب المقاومة الفلسطيني المحتلة من خلال النتاج الذي أعطانا في العشرين سنة الماضية لابد من إدراك حجم المصاعب التي تشكل التحديات اليومية في الحياة الثقافية العربية في الأرض المحتلة.
ويقول الكتاب لقد بات من المعروف ان المستوى التعليمي في المدارس العربية أضعف منه بكثير في المدارس اليهودية وكذلك فصل المعلمين الأكفاء وتعيين معلمين انهوا المدارس الابتدائية فقط مكانهم.
ان سياسة التجهيل المتعمد هي سمة بارزة من سمات الاضطهاد الثقافي الصهيوني لعرب الأرض المحتلة. وفي هذا النطاق تبرز مسألة التعليم وانخفاض مستواه في الوسط العربي كشيء أساسي.
ويورد الكتاب اعتراف لـ "ز. آران" في مقال له بكتاب "اسرائيل اليوم" إن 53 % من المعلمين العرب في اسرائيل غير مؤهلين. ويقول "م. أساف" في الكتاب نفسه: إن عدم توفر أساتذة وكتب وتخطيط بالنسبة للمدارس الثانوية العربية في اسرائيل يؤدي إلى اخفاق كبير في امتحانات الثانوية وإن المجتمع اليهودي لم يستطع امتصاص المتخرجين العرب من المدارس الثانوية ولا طلاب الجامعات العرب، وانه يوجد مشكلة أكبر بالنسبة للعرب الذين يضطرون لترك دراستهم الثانوية. ويعترف أساف بان نسبة تخرج العرب من الجامعات في اسرائيل نسبة منخفضة الاانه يورد أرقاما ومع ذلك فبوسعنا ان نتصور هذه النسبة حين يصل إلى اعتراف أخطر في قوله ان مجموع الطلاب العرب في الجامعات في اسرائيل عام 1967 كان 200 طالب فقط مقابل 19 ألف اسرائيلي.
ويقول الكتاب ان هناك احصاء مروع اخر فمن الجيل العربي الذي بدأ التعليم في الصف الأول سنة 1957 ترك المدرسة 45% منهم في سنة 1964 أي قبل أن ينهوا الصف الثامن.
فإذا كان هذا هو الحل بالنسبة للمدارس الابتدائية فإن الوضع لابد أن يكون أقسى بكثير في المدارس الثانوية والجامعية، فأساف يقول وفقا للكتاب ان 10 % فقط من العرب الذين تقدموا لامتحانات الشهادة الثانوية عام 1964 نجحوا اما في عام 1963 فقد كان الناجحون 12 %.
يؤكد الكتاب على تدني المستوى التعليمي الذي كان يحصل عليه الطلاب الفلسطنينين تحت حكم الاحتلال الاسرائيلي وهو ما أدركه ادباء المقاومة بل وأدركوا هذه الحقيقة بارتباطاتها السياسية والثقافية المختلفة وقد أدى ذلك إلى تطور في اسلوب التعبير حيث تكيف في الاساس مع متطلبات جبهة القتال الثقافية. فقد لجأ الشاعر مثلا إلى الطريقة الرمزية فالقصيدة الشعرية هي ميدان فسيح للكتابة الرمزية يعبر فيها الشاعر عما يخالجه من شعور قومي دون أن يفصح عن ذلك وكم من مرة خاطب الشعراء أحباءهم قاصدين الوطن فإذا ما كتب الشاعر في قصيدته" الويل للظالم" لا يمكن للسلطات أن تعرف قصده لتتخذ ضده الاجراءات القانونية أما القارىء اللبق فيفهم مرمى الشاعر ويحس بنفس احساساته.
ويقول الكتاب إن الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية والبدنية التي تشنها السلطات الاسرائيلية على الثقافة العربية والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدبي العربي في فلسطين المحتلة ومن ذلك اللجوء للرمز ولم يحدث هذا اللجوء إلا لأن تفسيره موجود في أكثر من سجن واحد وفي فصل أكثر من معلم عربي واحد.
وقد وصل هذا القمع في أبشع صوره وأكثرها اتساعا وقسوة في حزيران 1967 فقد تلقى مئات من المثقفين العرب أوامر تحديد الاقامة بناء على المادة (109) من قانون الطوارئ الاسرائيلي المعمول به بالنسبة للعرب منذ 1948.
يحكي الكتاب قصة الشاعر حبيب قهوجي كنموذج لما يحدث للمثقف العربي في فلسطين المحتلة فقد اعتقل في الخامس من حزيران ووجهت له تهمة التجسس وبعد شهور قليلة اعتقلت زوجته ووجهت له نفس التهمة ومع ذلك فقد اقترحت السلطات الاسرائيلية على الزوجين الاعتراف مقابل السماح لهما بمغادرة البلاد الا انهما رفضا الاقتراح بشدة.
وفي موعد محكامتهما فوجىء محاميهما بأنهما لم يحضرا وعندما اتصل بالشرطة أبلغ أن الزوجين قد اعتقلا لمدة ثلاثة أشهر أخرى بموجب أوامر إدارية.
ويورد الكتاب على لسان منصور كردوش أحد أبرز العناصر الوطنية في الأرض المحتلة: الفن والثقافة سلاحان اذا ما سارا على النهج الهادق رفعا من مفاهيم أمة بكاملها أما الفن والثقافة المجردان فباعتقادي أنهما من مفاهيم عصور الاقطاع والبذخ والرفاهية السطحية ولذلك أرى أن الواجب القومي والاجتماعي والتاريخي لكل من حمل القلم والفرشاة أن يعمل في الاتجاه الهادف كي يكون صاحب رسالة سامية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: فی فلسطین المحتلة المقاومة المسلحة فی اسرائیل
إقرأ أيضاً:
أحمد الأشعل يكتب: مصر في مواجهة الاستهداف المركب.. قافلة السموم اسم خادع ومشروع خبيث
في اللحظة التي تتأهب فيها مصر لعبور مرحلة فارقة في مسيرتها الوطنية، وتتقدم بخطى ثابتة نحو بناء الدولة الحديثة، وتثبيت أركان الاستقرار في محيط إقليمي مضطرب، تخرج علينا بين الحين والآخر محاولات يائسة للنيل من وحدة المصريين وزعزعة الثقة بين الشعب ومؤسساته، ومحاولة ضرب معنويات الدولة من الداخل باستخدام أدوات جديدة تتخفى خلف شعارات براقة وأسماء عاطفية، لكنها تحمل في جوهرها سُمًّا مدسوسًا يُراد به هدم ما تبنيه الدولة، وزعزعة ما استقرت عليه البلاد بعد سنوات طويلة من الفوضى والدم.
ولم تكن ما تُسمى بـ”قافلة الصمود” سوى واحدة من هذه الأدوات الجديدة، التي خرجت تحت لافتة إنسانية، بينما كانت في حقيقتها جزءًا من هندسة إعلامية خبيثة تستهدف تشويه صورة الدولة المصرية، والتشكيك في موقفها من القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، تلك التي لم تتخلَّ عنها مصر يومًا، وظلت دومًا حاضرة في وجدان سياستها الخارجية، وعقيدتها الوطنية، ومواقفها التاريخية التي لا تحتاج إلى شهادة من أحد.
لقد تابعنا، كما تابع كل مصري غيور، كيف تم الترويج لهذه القافلة، وكيف سعت أطراف بعينها، داخل وخارج مصر، إلى تضخيم وجودها، ومنحها طابعًا نضاليًا مصطنعًا، بينما كان الهدف واضحًا منذ اللحظة الأولى: استفزاز الدولة المصرية، والإساءة إلى مؤسساتها، ودفع الرأي العام المصري إلى حالة من الشك والبلبلة تجاه قرارات قيادته. إن ما حدث لم يكن تعبيرًا عن تضامن مع الشعب الفلسطيني كما ادعى منظمو هذه القافلة، بل كان محاولة مكشوفة لتصدير صورة زائفة بأن مصر لا تقوم بدورها، أو أنها تتعمد إغلاق الباب أمام مساعدة الأشقاء، وهي ادعاءات لا تصمد أمام حقيقة أن مصر وحدها – دون غيرها – فتحت معبر رفح رغم المخاطر، وقدّمت المساعدات الإنسانية والطبية، وتحملت وحدها عبء استقبال عشرات الآلاف من النازحين، بينما الآخرون يتاجرون بالقضية على المنصات.
الواقع أن ما جرى هو جزء من سيناريو أوسع، يعيد تدوير أدوات الفوضى القديمة في ثوب جديد. لم تعد المؤامرة تُخاطب العواصم، بل تُخاطب الشعوب عبر بوابات العاطفة، مستخدمة في ذلك اللغة الإنسانية، والوجدان الجمعي، والرموز الدينية والثقافية، لكنها تسعى في جوهرها إلى تفكيك الثقة بين المواطن ودولته. نحن أمام محاولة ممنهجة لاختراق وعي المصريين، وشحنهم ضد وطنهم، وتقديم الدولة على أنها خصم لا حامٍ، وهي حيلة مكشوفة جُرّبت من قبل وسقطت، وستسقط الآن أيضًا لأن مصر تغيّرت… وشعبها تغيّر.
فالشعب المصري اليوم لم يعد كما كان قبل عشر سنوات. لقد خاض مع دولته تجارب بالغة القسوة، وواجه لحظات مصيرية فارقة، وخرج منها أكثر وعيًا وصلابة، وأكثر إدراكًا لطبيعة المعركة التي تخاض ضده. لم تعد العواطف وحدها قادرة على تحريكه، بل صار يمتلك رادارًا وطنيًا يميّز به بين الحق والادعاء، بين التضامن الحقيقي والتخريب المقنّع، بين من يدعم فلسطين بصدق، ومن يستغل دماء الفلسطينيين للطعن في خاصرة الدولة المصرية.
وها هي الدولة – برجالها الشرفاء ومؤسساتها التي لا تعرف التراخي – تقطع الطريق على تلك المحاولة المسمومة، وتُفشل المؤامرة الجديدة بهدوءٍ وكفاءة، وبتعاونٍ تام بين الأجهزة المختصة والإرادة الشعبية الواعية التي التقطت الرسالة وفهمت اللعبة، ورفضت الانجرار إلى أي مخطط يصب في مصلحة خصوم الوطن. لقد كانت مصر – وستظل – عصيّة على الانكسار، لا لأنها تملك جيشًا قويًا فحسب، بل لأنها تملك شعبًا أكثر وعيًا مما يتخيل خصومها، ومؤسسات أمنية ويقظة لا تُخترق بسهولة، وقيادة سياسية تقرأ الواقع جيدًا، وتُحسن إدارة اللحظة بتوازن القوياء وصبر الكبار.
وفي قلب هذا المشهد، لا بد أن نقف بإجلال أمام ما يتحمله الرئيس عبد الفتاح السيسي من ضغوط وتحديات يومية، وهو يقود سفينة الوطن وسط أمواج متلاطمة من المؤامرات، والأزمات، والتشويش. إنه لا يواجه خصمًا واضحًا بحدود جغرافية، بل يواجه كيانات إعلامية، ومنصات مدفوعة، ومجموعات ضغط، وأجهزة خارجية، وتحالفات مصالح لا تُريد لمصر أن تنهض أو تستقل أو تقرر مصيرها دون وصاية. ومع ذلك، ظل الرجل ثابتًا، لا يتعامل بمنطق الاستجابة للابتزاز، بل بمنطق الدولة التي ترى أبعد من اللحظة، وتحسب خطواتها بدقة الجراح لا بانفعال السياسي. هذا القائد الذي تحمّل عبء إعادة بناء دولة كادت أن تضيع، وصمد أمام تهديدات الإرهاب، وواجه هجمات التشكيك، وبنى مؤسسات جديدة، واستعاد ثقة العالم في بلاده، يستحق منا أن نكون في ظهره، سندًا له لا عبئًا عليه، داعمين له لا متشككين فيه، لأن بقاءه صلبًا هو جزء من بقاء الوطن مستقيمًا.
نحن أمام لحظة وطنية تستدعي أن نكون على قلب رجل واحد. أن نفهم أن المعركة ليست حول قافلة أو مبادرة أو معبر… بل حول هوية دولة، وسيادة وطن، واستقرار أمة. لا وقت للمزايدات، ولا مجال للحياد. إما أن تكون مع بلدك، أو تكون في صف من يريد هدمه. ومصر اليوم، كما كانت دومًا، لا تقبل أنصاف الولاءات، ولا تصدّق الشعارات الزائفة. مصر تقرأ النوايا قبل الكلمات، وتحاسب بالمواقف لا بالتغريدات.
وختامًا، فإن التاريخ لن يرحم من باع وطنه على عتبة قضية، ولا من تآمر على بلاده باسم النضال.
وإن مصر – رغم كل هذا الحصار الإعلامي والنفسي والميداني – ستبقى… لأنها لا تُقاس بقافلة أو حملة، بل تُقاس بتاريخها، وصبرها، ووعي شعبها، وعدالة قادتها.
ومن يراهن على سقوطها، فليقرأ التاريخ من جديد… لأن مصر لا تُحاصر، بل تُحترم… لا تُخدع، بل تُفشل… لا تنهار، بل تنهض من كل أزمة أصلب مما كانت.
ستبقى مصر، لأنها فكرة أكبر من أن تُلغى، وحضارة أقدم من أن تُشوَّه، ودولة أقوى من أن تنكسر.