طاهر المصري يكتب.. غزة: الكارثة والبطولة.. ولحظة العرب الفارقة..!
تاريخ النشر: 6th, November 2023 GMT
#سواليف
كتب … * #طاهر_المصري
أكتب هذه الكلمات وأنا أتابع #انتحار #حضارة_العالم المتحضر في #غزة: انتحار قانونه الدولي، وميثاق حقوق إنسانه الذي أقره المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية.
غزة وإنسانها وكائناتها، لا يقتلون في هذه اللحظات في حرب عادية، بل يبادون بأعتى #أسلحة_الدمار الغربي التي عرفها الإنسان، والتي حرمها بقانونه الدولي: يسحق بشر غزة، وعائلاتها، وعمرانها وهواؤها وبحرها: يجوع الناس ويعطشون، وتدك بنايات وبيوت وأبراج سكنية على رؤوس ساكنيها؛ تمسح أحياء عن بكرة أبيها؛ وتقصف المستشفيات ورجال الإنقاذ والدفاع المدني والأطباء، بلا قوانين حروب أو إنسان أو ضمائر؛ ويهدد الأمين العام لأمم العالم المتحدة، فقط لأنه حاول توصيف ما يحدث من جريمة كارثية.
كل هذا حدث ويستمر في الحدوث أمام أبصارنا وضمائرنا، منذ نحو أربعة أسابيع مرشحة للتطاول.
لماذا..؟
لأن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لهذا العام، جاء على غير عادته من التكرار المحلي والإقليمي والدولي على حين غفلة منا جميعا، وفاجأ أصدقاءه قبل أن يفاجئ أعداءه، وفي أصغر وأكثف بقعة مأهولة في الدنيا، وأكثرها معاناة وفقرا وجوعا وحرمانا وظلما، وفي أحشاء أعتى ترسانة عسكرية للوجود الغربي خارج الولايات المتحدة الأميركية؛ إسرائيل.
ولعل من أول تداعيات هذا (الأكتوبر)، هو التكشف السافر لوجه الغرب الأميركي وتابعه الأوروبي، وسقوط كثير من القوانين والعناوين المتعلقة بالحروب وحماية المدنيين وحقوق الإنسان والأطفال والنساء، واختصار جوهر القضية الفلسطينية في سؤال ساذج وخاطئ يقول: من بدأ العدوان في 7 أكتوبر؟! مطالبين العالم والمظلومين بإقفال العقل والنفس والروح عن 75 عاما من العدوان المتواصل على شعب أعزل ومحاصر في أبارتهايدات عنصرية كريهة ومقيتة.
أما عرب الزمان المعاصر، الرسميون، فسائرون في تبعيتهم وعجزهم السياسي والفكري والإنساني إلى مديات لم يعد يصدقها ناس المنطقة العاديون، على الرغم من وصول نيران اللهيب والتلاشي إلى أثوابهم الشخصية والداخلية.
لا أريد لكلامي أن يسترسل في تصوير حدود فجيعة الحال السياسية العربية. بل يعنيني أكثر أن أحاول رسم ملامح ما صنعه هذا (الأكتوبر) الفارق في دنيا العرب، راهنا ومستقبلا، لعل أحدا يرى معي ما أرى، وبعيدا عن أي عاطفة أو شعبوية أو أوهام.
أولا: بتمكن فتية آمنوا بربهم ووطنهم وأمتهم من اقتحام المستعمرات الصهيونية المقامة على أرض آبائهم، واقتحام مركز قيادة فرقة المنطقة العسكرية الجنوبية المدججة بالتكنولوجيا المسلحة؛ بتمكنهم ذاك، حدث، ومن دون مبالغة. إن فكرة إسرائيل، كوطن قومي آمن ليهود العالم، بدت هشة وغير قابلة للحياة ، وهو انهيار أحس به من زرعوا هذا الكيان في منطقتنا منذ نحو مائة عام، وقبل أصحاب الكيان نفسه. فتحركت حاملات الطائرات والبوارج الحربية لحماية الفكرة قبل حماية أصحابها.
ثانيا: وفي بطن تلك الطائرات المسلحة وحاملاتها، توافد حجيج الرعاة إلى ثكنتهم العسكرية في فلسطين المحتلة، على هيئة رؤساء للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وتوابعهم، وهؤلاء هم الدول الاستعمارية التي سيطرت على مقادير العالم، مختبئين تحت شعارهم الأبدي الأثير: (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)؛ وفي الأثناء، تهشمت كل القيم المتحضرة والإنسانية، التي أنتجها الغرب على هيئة قوانين، وضربت بعرض الحائط، أمام هول صدمة وترويع الدولة الثكنة التي رعوها وما يزالون منذ عقود طويلة.
ثالثا: أما في دولة العدوان نفسها، فقد أخذ الانهيار شكلا أكثر وضوحا، وعلى نحو لم يحدث من قبل: خلافات وتلاوم وإرباك بين كل مستويات القيادة العسكرية والسياسية. ونزوح نحو نصف مليون من جوار غزة، ومن مستوطنات الشمال، نحو أماكن آمنة في النقب وإيلات.
وصعوبة في تجنيد الاحتياط، ورفض وتمرد للتجنيد في بعض المواقع، وتصاعد وتيرة سؤال جدوى الحرب، مع تأزم قضية الأسرى والمحتجزين.
رابعا: وكان على الغرب، صاحب المصلحة الأولى بوجود دولة العدوان تلك، أن يحمي ويطمئن، وأن يتدخل بشكل عسكري مباشر؛ وكان أول التدخل هو حماية دولة العدوان من نفسها، ومن قادتها، فأزيحت ديمقراطيتها المزعومة جانبا، وفرض الأميركي عليها مجلس حرب، يكون فيه من يمثل رؤية السيد الأميركي فاعلا ومؤثرا.
خامسا: حضور أميركي في مجلس حرب، بغرض ضبط ومنع دولة العدوان من المغامرة والمخاطرة بكل مصالح الغرب في الإقليم والمنطقة؛وحتى اللحظة، ما يزال مجلس الحرب هذا فوق كل حكومة وقيادة في إسرائيل. وما تزال قدرته على التحكم في تدحرج الكارثة على الأرض محدودة، ومن دون أهداف واضحة وقابلة للتطبيق، باستثناء التدمير الهمجي المتحلل من كل القوانين والقيود والمعايير؛ ولا بد من التسجيل هنا بأن هذا غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية، ولم يحدث منذ العام 1948.
في الجانب الآخر- ويا للمفارقات، فقد تدحرجت خسائر إدارة الأزمة إلى داخل الولايات المتحدة نفسها، وإلى الغرب الأوروبي المذعور. فتهاوت مصداقية الإعلام هناك، وتهاوت السياسة والدبلوماسية معا، وتهاوت مصداقية الزعماء، وشعاراتهم وكلامهم، أمام ما يراه الأوروبي والأميركي العادي من هول المجازر والمذابح للأطفال والنساء والعمران والحياة في غزة، ناهيك عن القيم والقوانين الإنسانية التي تشكل محتوى ثقافة الناس العاديين هناك.
ولعل أبشع أشكال الانتهاك التي توافق عليها قادة دولة العدوان ورعاتها في الغرب، هو الحديث العلني، ومن دون حياء، عن التهجير القسري لسكان غزة والضفة الغربية، وما طلبه الرئيس الأميركي (جو بايدن) من الكونغرس من اعتماد مالي لتمويل ذلك التهجير، ما يعني تهديدا سافرا ووقحا ومباشرا للأمنين الوطنيين المصري والأردني، ناهيك عن كارثيته للشعب الفلسطيني نفسه. وهو ما تبجح به علنا أكثر من مسؤول غربي وإسرائيلي.
أما العجز العربي والدولي، الأكثر فداحة، فقد تمثل بالقصف الإسرائيلي لمعبر رفح وإغلاقه والتحكم به، بكل ما يعنيه ذلك من انتهاك للسيادة المصرية، إضافة إلى إغلاق الاحتلال، من جانب واحد، في اليوم الأول للحرب، لكل الجسور والمعابر التي تربط بين إسرائيل والأردن والأردن والضفة الغربية الفلسطينية المحتلة.
توقفت السياس وشلت الدبلوماسية. ورن على رؤوسهم الطير.لم تنته الحرب، وغزة ما تزال، برغم دمارها تقاوم وتؤلمهم. والحرب مرشحة لمزيد من الجرائم والمجازر الوحشية. وأطراف الإقليم الفاعلة غير العربية، إيران وتركيا، تستعد لتوظيف اللحظة العربية الجيوسياسية السائلة والدامية والكارثية لمصالحها السياسية والإستراتيجية، وهذا أمر طبيعي في علم مصالح الدول والأمم، فالسياسة كما الطبيعة، ترفض الفراغ وتتعارض معه. والفراغ العربي اليوم كبير كبير.
أما أميركيا، فلم يكن تمسك جزء كبيرا من النخبة السياسية الأميركية بحل الدولتين، نابعا من اعتقاد بعدالة القضية الفلسطينية، بل اقتناعا بضرورة حلها (بشكل غير منصف، ومع أكبر قدر من التنازل عن الحقوق التاريخية)، لتثبيت إسرائيل في المنطقة العربية، ولضمان مستقبلها. إذ لم تكتمل عملية التطهير العرقي للسكان الأصليين في أرض فلسطين بمحوهم تمامــــــــا، وكان لمقاومتهم الإبادة الاستعمارية الاستيطانية أثرها في توليــــد وجهتي نظــــر
صهيونيتين داخل المعسكر الاستعماري: واحدة تقول بضرورة استكمال التطهير العرقي بالقيام “نكبة جديدة”، إذ إن ترك هؤلاء يعيشون ويقاومون، هو خطر ماحق على مشروع الاستيطان الصهيوني، ولا يمكن لدولة “يهودية” خالصة، أن تستقر دون محوهم، ولو بالتدريج والقضم البطيء لأرضهم، وهو ما حاوله بعض المستوطنين في هذه الحرب، بتوزيع منشورات في الضفة الغربية، تهدد الفلسطينيين وتدعوهم للهجرة إلى الأردن، تحت طائلة مهاجمة المستوطنين لهم واستباحة بيوتهم. فيما وجهة النظر الأخرى، ترى الخطر على مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني في المكابرة وعدم قراءة الواقع، وتجد في إنهاء قضية السكان الأصليين عبر منحهم “ربع دولة”، وشرعنة وجود إسرائيل في محيط عربي متربص بها، حلا واقعيا لتأمين مستقبل الكيان الصهيوني، واستمراره في القيام بوظيفته الاستعمارية.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى الاستقالة التاريخية لـ(كريج مخيبر)، مدير مكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان التي وجهها إلى المفوض السامي، هي أفضل مدخل دبلوماسي لمواجهة الخطاب السياسي الأميركي والأوروبي الفج، الذي يهيمن اليوم على مؤسسات الأمم المتحدة. فلحظة غزة الراهنة، هي كما وصفها السيد كريمر حرفيا: بأنها (حالة نصية للإبادة الجماعية. حيث دخل المشروع الاستعماري الاستيطاني الأوروبي القومي العرقي في فلسطين مرحلته النهائية، نحو التدمير السريع لآخر بقايا الحياة الفلسطينية الأصلية في فلسطين). أما عن حل الدولتين، فقد قال الرجل صادقا: لقد (أصبح شعار حل الدولتين، مزحة مفتوحة في أروقة الأمم المتحدة، سواء بسبب استحالته المطلقة في الواقع، أو بسبب فشله التام في مراعاة حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. ولم تعد اللجنة الرباعيـة المزعومة، أكثر من مجرد ورقة توت للتقاعس عن العمل والخضوع للوضع الراهن الوحشي. إن الإذعان (حسب نصوص الولايات المتحدة) لـ (الاتفاقات بين الطرفين أنفسهم)، (بدلا من القانون الدولي)، كان دائما بمنزلة إهانة شفافة، وكان الهدف منه تعزيز قوة إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال والمحرومين).
لم تنته الحرب..
ومصالح الجميع العربي مهددة بأخطار جدية وغير مسبوقة. كما أن جميع الخطط والمشاريع الإسرائيلية والغربية لتصفية القضية الفلسطينية التي كانت في الأدراج، يجري اليوم إخراجها ووضعها على طاولة التجريب والاختبار، وعلى رأسها خطط تهجير الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو ما نراه اليوم أمام أعيننا، وتاليا تهجير أهالي الضفة الغربية، وما يترتب على ذلك من تغيير جيواستراتيجي قسري لملامح الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية تحديدا.
فما العمل..؟
قد يبدو السؤال صعبا، ولكن الإجابة قد تكون أسهل من السؤال، وكما يراها المواطن العربي العادي:
1 – ذات سياسية عربية جديدة، لا بد من تكوينها الآن فورا، وخارج مؤسسة الجامعة العربية، وخارج كل المؤسسات الإقليمية العربية، وبمبادرة فاعلة من مصر والسعودية والأردن، وذلك في سياق المتغيرات الجذرية التي يشهده الإقليم والعالم.
2 – وضع اتفاقيات: كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة، وأبراهام، على طاولة جريمة القتل الهمجي في غزة للمراجعة، علنا، وأمام الجميع.
3 – وضع موارد النفط والغاز والطاقة والتجارة وخطوط النقل البري والبحري على الطاولة الدامية نفسها للمراجعة.
4 – قمة إقليمية ثانية، أطرافها: قادة عرب تفرزهم القمة الأولى، وإيران وتركيا، بمضامين إعادة ترتيب أمن الإقليم ومصالحة واستقلاله.
عندها يمكن لحديث وقف العدوان البربري على غزة، وفتح كل المعابر إلى غزة العرب، برا وبحرا وجوا، أن يكون ممكنا وحقيقيا وإنسانيا. كما أن تحرك الدبلوماسية الأردنية خلال الأسابيع الماضية بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني بدا الأكثر قربا من المطالب الفعلية التي تخدم الناس وتسعى إلى حل عملي للكارثة المتصاعدة.
أما تفاصيل ذلك، فله حديث آخر
ذلك أن إنهاء القضية الفلسطينية بالشكل الذي تتم ممارسته الآن في غزة، وتاليا في الضفة الغربية، لن تكون وبالا على الفلسطينيين وحدهم، بل على الشعوب العربية ودولهم أيضا، مجتمعين ومنفردين. إذ لن تكون علاقة أي دولة عربية مع دولة الاحتلال، فيما إذا تمت تصفية القضية الفلسطينية، علاقة ندية عادية أو سوية، بل ستكون علاقة الغالب بالمغلوب، وعلاقة المهيمن بالمهيمن عليه.
والله، والأمة، وغزة من وراء القصد.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف طاهر المصري انتحار حضارة العالم غزة أسلحة الدمار القضیة الفلسطینیة دولة العدوان
إقرأ أيضاً:
كتاب مقومات النظرية اللغوية العربية.. قراءة تحليلية دقيقة للتراث النحوي
يعد التراث النحوي العربي أحد أبرز إنجازات الحضارة الإسلامية في مجال المعرفة، حيث قدم النحاة العرب تصورات عميقة حول بنية اللغة وآليات اشتغالها، لم تزل تثير اهتمام الباحثين والمشتغلين بالدراسات اللسانية المعاصرة. غير أن هذا التراث غالبا ما يتناول إما بروح تمجيدية تغفل منطلقاته المعرفية، أو من منظور نقدي يستند إلى نماذج تفسيرية مستوردة، مما يفضي إلى اختزاله أو إساءة فهمه.
في هذا السياق، يبرز كتاب "مقومات النظرية اللغوية العربية" للدكتور رمزي منير بعلبكي كمحاولة رصينة لإعادة قراءة التراث النحوي العربي من الداخل، بوصفه نظرية لغوية متكاملة، لا مجموعة من القواعد والمفاهيم المنفصلة المجتزأة، نظرية قائمة على جملة من المفاهيم الكبرى التي وجهت الفكر النحوي العربي.
فالكتاب، الصادر عن دار النشر في الجامعة الأميركية في بيروت، ضمن سلسلة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يمثل إسهاما معرفيا نوعيا، يهدف إلى إعادة الاعتبار للنظرية اللغوية العربية، من خلال تفكيك مفاهيمها الكبرى، وقراءة أنساقها المنهجية، في ضوء رؤية تحليلية دقيقة، تتجنب الإسقاط وتستنطق النصوص من داخلها.
والمؤلف رمزي منير بعلبكي هو أكاديمي لبناني، حائز درجة الدكتوراه في النحو العربي وعلم الساميات المقارن من جامعة لندن، وحاصل على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب عام 2010، يعمل رئيسا لدائرة اللغة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان أستاذا زائرا في جامعات كامبردج وشيكاغو، وأستاذا مقيما في جامعة جورج تاون، وهو رئيس المجمع العلمي لمعجم الدوحة التاريخي.
إعلانيقع الكتاب في 415 صفحة تتوزع على 7 فصول يتناول فيها فيما يتناوله النظرية النحوية العربية وما تمتاز به من شمول في المادة وتماسك في الأركان.
دعائم النظرية النحويةينطلق المؤلف من فرضية مركزية عنده مفادها أن النحو العربي لم يكن نتاج ملاحظات متفرقة على كلام العرب، بل هو مشروع علمي واع تعاون عليه النحاة العرب، وتطور وتشكل من خلال جهود معرفية تراكمية بنائية منظمة، استهدفت بناء تصور شامل لطبيعة اللغة وعملها حتى شكلت نظرية لغوية متماسكة-وإن لم تدون صراحة- تقوم عليها الممارسة النحوية والمعجمية في القرون الهجرية الأولى.
فالنظرية اللغوية العربية تستوفي -كما يقول الدكتور رمزي بعلبكي- أهم شرطين لازمين لها، هما شمول المادة وسعتها، وتماسك أركانها، وذلك بفضل العناية الفائقة التي أولاها علماؤنا العرب لدراسة الأبعاد الذهنية والسياقية التي تصاحب عملية التواصل بين المتكلم والمخاطب، تلك العناية التي جعلتهم يختبرون قدرة النظرية وكفاءتها في جمل وتراكيب مصنوعة فضلا عن الجمل المنطوقة المستعملة، ويعمل الكتاب على استخلاص معالم هذه النظرية من خلال تحليل أدواتها المعرفية والمنهجية.
ومن هنا تأتي أهمية الكتاب في إعادة النظر إلى هذا المشروع المعرفي العربي من خلال تحليل المفاهيم الخمسة التي عدها المؤلف دعائم النظرية النحوية وقوامها، وهي: العمل والقياس والتقدير والتعليل والأصل.
يعتمد المؤلف في مقاربته منهجا تحليليا دقيقا، يستند إلى قراءة متأنية للنصوص اللغوية التراثية، ويبتعد عن الإسقاطات الخارجية أو التأويلات المتعسفة، فهو لا يفرض على المادة التراثية نماذج تفسيرية جاهزة، بل ينطلق من داخلها، محللا آلياتها ومفاهيمها في ضوء معايير منطقية ولسانية رصينة.
إعلانفالمعالجة الفكرية تأتي مرتبة ومنسقة، حيث يسير التحليل من المفهوم إلى الوظيفة، ومن النص إلى الفرضية، بما يكشف عن وعي منهجي لافت، يميز هذا الكتاب عن غيره من الأعمال التي تناولت التراث النحوي إما بتمجيد غفل أو بنقد يتكئ على نماذج غربية لا تلائم طبيعة المدونة العربية.
ويرى بعلبكي أن النظرية اللغوية العربية بنية فكرية متكاملة تحكمها تصورات معينة عن اللغة، نشأ معظمها في بيئة لغوية شفهية.
ويحوز مفهوم "العمل النحوي" محل الصدارة في هذه المقومات، والعمل عند النحاة مصطلح يشير باختصار إلى التأثير الذي يكون في التركيب الجملي، ويؤدي إلى الأحكام الإعرابية من رفع أو نصب أوجر أو جزم، فالعمل هو إذا الإطار النظري الذي يفسر من خلاله الإعراب والتحولات التركيبية.
ولا يكتفي بعلبكي بتعريفه الظاهري، بل يتتبع جذوره المفاهيمية، مبينا كيف أن النحاة الأوائل تصوروا العلاقات النحوية بوصفها تفاعلات بين عناصر الجملة، تحكمها قوانين داخلية دقيقة، تسند فيها وظيفة نحوية معينة إلى كل مكون في السياق.
فالعمل -كما يراه الدكتور بعلبكي- انعكاس للمنطق الوظيفي الذي انطلق منه النحاة العرب، ثم ينتقل إلى مفهوم "القياس"، موضحا الرؤية التراثية له، فهو ليس مجرد وسيلة لتوليد القواعد، بل أداة عقلية لإدراك التماثل بين الظواهر، مبنية على الاستقراء والتناظر.
ويبين أن النحاة العرب استخدموا القياس وفق قواعد صارمة تخضع الظاهرة لمعايير الانسجام مع النظام الكلي للغة، ويقارن المؤلف بين هذه النظرة التراثية للقياس والنظرة اللسانية الحديثة مظهرا أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين المنهجين على بعد ما بينهما من زمان.
ويأتي الدكتور بعلبكي على "التقدير" بوصفه أحد القضايا والمقومات الأساسية في النظرية اللغوية العربية، فيعرض بوصفه حلا معرفيا لظواهر لا يظهر فيها العنصر النحوي بصيغته الصريحة، واللجوء إلى التقدير لا يكون حينها اعتباطيا أو لسد ثغرة في النظام، بل يأتي نتيجة إدراك دقيق لبنية الجملة ومراميها الدلالية.
إعلانويسير الدكتور بعلبكي في تحليله لهذا المفهوم مبرزا كيف تعامل النحاة مع التراكيب اللغوية بوصفها تمثيلات ظاهرية لبنى أعمق، تستعاد بالتقدير حين تقتضي الحاجة ذلك، وفي هذا السياق، يكشف المؤلف عن عمق النظرة البنيوية للنحاة العرب، وإدراكهم للعلاقة بين المستويات السطحية والمستويات العميقة للجملة، وهو ما يشابه في أساليبه الاستدلالية المناهج اللغوية الحديثة.
ويعرض الدكتور بعلبكي مفهوم "التعليل" ضمن النظرية اللغوية العربية، بوصفه أداة لفهم النظام اللغوي لا مبررا شكليا للقواعد والظواهر، فالتعليل كان أداة منهجية لدى النحاة العرب، تعكس انشغالهم بإبراز الترابط المنطقي بين الظواهر وأسبابها وما بينها من علائق.
يقدم الكتاب رؤية متسقة للطريقة التي بنى بها النحاة قواعدهم، ويبرز كيف أن كل قاعدة نشأت عن حاجة تفسيرية، ترتبط بمستوى معين من التحليل، سواء أكان تركيبيا أم دلاليا أم صوتيا.
لا يغفل الكتاب معالجة العلاقة بين اللفظ والمعنى، فالمعنى إنما كان في مقدمة العوامل التي وضعها النحاة لتوجيه الإعراب، كما يتطرق الكتاب لمسألة الشذوذ في النحو، ويدرس طريقة ضبط النحاة لهذه المسألة، وطريقة تعاملهم معها بمرونة ضمن منطق نسقي، يوازن بين القاعدة والاستعمال، فالنحاة العرب قد طوروا أساليب جعلتهم يدمجون الحالات الخاصة في إطارهم النظري الكلي.
ويأتي الدكتور بعلبكي في كتابه على وصف المدونة اللغوية التي انصرف اللغويون لدراستها وتمحيصها والعمل عليها بعد تضخم المادة اللغوية وانتشار الغريب من الألفاظ في اللغة، مبرزا دور البيئة القبلية، وتواتر الرواية، وصحة النقل في تشكيل قاعدة الاستشهاد، ويتناول أثر الرواية الشفوية في رسم صورة اللغة الفصيحة، مبينا أن هذه العملية لم تكن عشوائية، بل خضعت لمعايير صارمة أسهمت في ضبط المادة وتحقيقها، فتوزعت مهام اللغويين بين جمع ووصف وتحليل وضبط للظواهر اللغوية بعد أن ضبطوا هذه المدونة اللغوية.
إعلانومن أهم ما يسِم تحليلات الدكتور بعلبكي في كتابه هذا أنها تشتمل على قراءة واعية للعلاقة بين التراث واللسانيات الحديثة، إذ لا يقحم مفاهيمها على التراث، ولا يعزل التراث عنها، بل يجري مقارنات مدروسة حين يكون ذلك نافعا، كما في مقاربته بين القياس النحوي العربي والنحو التوليدي. ويحرص على التمييز بين المنهج والنتائج، تفاديا للاختزال أو التشويه.
يمثل هذا العمل مساهمة مميزة في حقل النظرية اللغوية العربية، إذ يعيد للفكر النحوي تقديره بوصفه مشروعا معرفيا متكاملا، يمتلك مفاهيمه الخاصة، وآلياته الداخلية، وقيمه المنهجية.
ويظن أن يفتح هذا الكتاب آفاقا جديدة في قراءة التراث النحوي، واستثماره في تطوير النظرية اللغوية المعاصرة.