لؤي الموسوي
لكل فردٌ منا هواية خاصة به او يعشق لعبة بحد ذاتها، يعمل جاهداً لتحقيقها، كركوب الامواج في البحار على سبيل المثال، اما ان تكون حرق الكتب السماوية هوايته، فانه لآمرٌ عجيب!
مهما كانت الأسباب التي دفعت الجاني، لاقتراف جريمة نكراء بحق الإسلام والإنسانية، بحرقه المصحف الشريف فلا يمكن غض الطرف عنها.
نقف قليلاً عن السبب الذي دفع البعض، لإرتكاب جريمة يندى لها جبين كل منصف، وربما سبب ذلك يعود إلى دُعاة السوء اصحاب الفتاوى التكفيرية، الذين يأمرون بقتل كل من يخالفهم بالرأي، وأن كان من نفس مذهبهم.. وهذا ما حصل على يد داعش الإرهابي والمجاميع الظلامية، مما ولد نظرة سوداوية لدى الفرد غير المسلم، والذي لم يطلع على مأثر الإسلام، وما فهم منه سوى ما يراه من تصرفات البعض، بأن الدين الإسلامي دين قائم على سفك الدماء!
هو لا يعلم أن الإسلام بريء، كبراءة الذئب من دم يوسف النبي، و من كل فعل لا يراعي فيها حرمة الإنسان وما يعتقد به، فهو دين رحمة ومودة وتسامح…
مثلما هنالك قوانين جلية وقرارات تصدر من الأمم المتحدة، تراعي الإنسانية وتحفظ حقوقها، بالمقابل تجد بعض القائمين فيها، يرتكبون المجازر بحق شعوب بأكملها، هل نقول أن الخلل في المنظومة الأممية ام في القائمين فيها؟ بلا شك الخلل ليس في المنظومة، كذلك بالنسبة لرسالة الإسلام، هنالك من أساء من المسلمين أنفسهم وليس للدين ذنبٌ في ذلك.
أرتكاب جريمة حرق المصحف الشريف لن تنال من قدسيته وعظمته، ولكن سينعكس ذلك على المسلمين، وسيولد تبعات قد لا تحمد عقباها في المستقبل.
جريمة النكراء لم تكن الأولى والأخيرة، بل سبقتها عمليات مماثلة، في بلدان تدعي أحترام الآخر وعدم المساس به وبما يعتقد!
ما ذنب المصحف الشريف، إن كان هنالك من داخل المنظومة الإسلامية، من يسيء بأفعاله للإسلام، فيتخذها البعض ذريعة من قِبل المتربصين بشريعة السماء السمحاء، ليصب جام غضبه عليه!
لا شك من وراء ذلك أجندات خاصة، تعمل ليل نهار على إستثمارها وتوظيفها، لضرب عقيدة المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى إثارة النعرات بين الأديان السماوية، التي ما جاءت إلا من أجل التعايش السلمي، والمودة والرحمة والهداية.
من أمن العقوبة أساء الأدب، فبطبيعة الإنسان لا يحب ان يكون مقيداً، وانما يحب ان يكون حر بأفعاله واقواله، وان لا يقف عند حد معين، ولهذا السبب الخالق “جل وعلا“ بعث الأنبياء والرسل، يحملون رسالته اليهم؛ لهدايتهم وتنظيم حياتهم اليومية، مع اسرهم ومجتمعهم، ضمن حدود تحفظ للفرد والمجتمع حقوقه، دون التعدي على الآخر..
القانون الوضعي او ما يسمى بالقانون المدني صنيعة الإنسان، وضع لتنظيم حياته ضمن أليات، تحفظ وترعى فيها الحقوق والواجبات، وإلا بدونها تصبح الدنيا عبارة عن غابة، يكون الغالب فيها القوي على حِساب الضعيف، فالقانون يعمل على ردع المخالف.. على سبيل المثال حركة سير المركبات، من دون وجود نظام مروري، يؤدي بنا إلى فوضى بالطرقات، فضلاً عن حوادث السير المميتة، لهذا وجدت قوانين لتنظيم حركة السير، وعدم الإلتزام بها تعرض اصحابها إلى العقوبة الرادعة، ولهذا وجدت لخدمته من جانب ومن جانب آخر، ولردعه في حال اراد تكرار الفعل مرة أخرى.
إحرق المصحف الشريف مراراً وتكراراً دون ان يردع الجاني لهذه الجريمة النكراء، بل الغريب في الآمر نجد من يدافع عنه، بذريعة الحرية وحقوق الإنسان!.. مما شجع من قام بهذا الفعل الشنيع متوعداً بتكرار الفعل مرة ثانية! والسبب لم يجد من يردعه ضمن الأطر القانونية والدينية، وهذا ما فتح الباب على مصراعيه، في التعدي على حرمة ومقدسات الفرد المسلم.
لهذا ينبغي على تلك الدول ان تعمل جاهدة، في الحد من ممارسة مثل هكذا أفعال، بعيدة كل البعد عن القيم السماوية والإنسانية، متوعدة بإنزال أشد العقوبات، على مرتكبي مثل هذه الأفعال الإجرامية، التي لا تختلف عن جريمة الإرهاب، لغلق الباب في وجه المتربصين بالإنسانية، والعمل على نشر روح المحبة والتسامح بين الأديان، ليعم السلام في أرجاء المعمورة، وما رسالة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني “دام ظله“ التي بعثها للأمين العام للأمم المتحدة، الا مصداق لروح الإسلام المحمدي الأصيل، التي تدعو للتعايش السلمي بين الأديان السماوية، تحت سقف الرحمة الإلهية والقيم الإنسانية.
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
الإمام محمد عبده باحثا عن النهضة
(1)
من المعلوم أن في كل أمة من الأمم وفي كل ثقافة من الثقافات أعلاما مفكرين مجدّدين مصلحين، وأئمة مخلصين يهدون الأمة ويرشدونها، وينهضون بالإصلاح والتجديد فيها، وهم -في العادة- لا يظهرون إلا في فترات من الزمن متباعدة..
ولم يكن الإمام المصلح المجدد الشيخ الجليل محمد عبده (1849-1905) مجرد رجل دين تعلم في الأزهر ودرس فيه وأصبح في زمنه أكبر علمائه وأشهر شيوخه (على الرغم من الممانعة التي واجهته بسبب جرأته وعقلانيته وملكاته الفكرية والنقدية والثقافية)، بل كان رأس الحربة في تيار الإصلاح والتجديد والنهضة التي استلم رايتها من رائد الفكر العربي الحديث رفاعة الطهطاوي (1801-1873).
قرن وربع القرن مرت على رحيله (توفي الإمام الجليل في 11 يوليو 1905) وما زال حضوره وما زالت آراؤه وما زال مشروعه الإصلاحي التجديدي النهضوي محل اهتمام ونظر وتأمل من المفكرين والمثقفين المعنيين بأزمات الفكر والنهضة والثقافة والتقدم والمستقبل.
يتفق الدارسون والمتخصصون في فكر الإمام محمد عبده على وصف خطابه بالإصلاحي التجديد الشامل، وعلى قدرته العالية على محاورة الآخر، ولو من باب السجال.
من جهة أخرى، خطاب حضاري إنساني يسعى لتأكيد قيم الحرية، والمساواة، والعدل، ويريد استنهاض الشعوب لاسترداد مجدها والسيطرة على مصيرها.
ولم يكن الخطاب الإصلاحي للشيخ محمد عبده مختلفًا في منطلقاته العامة عن خطاب أستاذه "الأفغاني"، وإن اختلف معه في التفاصيل الدقيقة، ونحن نعلم عمق تأثير الأفغاني في الشيخ محمد عبده، وهو تأثير أكثر من تأثيره في كل من أثر فيهم خلال سنوات إقامته في مصر.
لقد استطاع عبده أن يحول أطروحات الأفغاني العامة إلى خطة عمل فكري ثقافي شاملة؛ ومن خلال نهجه "الإصلاحي" تتلمذ على يد الأستاذ الإمام العشرات من رجال الفكر والثقافة والدين؛ ومن عباءته الفضفاضة خرج السلفي المغرق في سلفيته "رشيد رضا"، والليبرالي الموغل في ليبراليته "منصور فهمي" و"قاسم أمين"، والوسطي المعتدل في وسطيته "الشيخ مصطفى عبد الرازق"، والاشتراكي والاجتماعي، والتنويري، والسياسي، والناقد، والمفكر، والمفسر، والفقيه، وأستاذ الجامعة... كان من تلاميذه كلٌّ من: العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، وسعد زغلول، والأخوان مصطفى وعلي عبد الرازق، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد فريد وجدي، ورشيد رضا، وعبد العزيز جاويش، وغيرهم..
(2)
وإذا كان جل أو كل من أرخ لسيرة حياة الشيخ محمد عبده قد توقف عن الأثر الكبير لجمال الدين الأفغاني في نفسه وفي روحه وتكوينه العام، فإن ثمة اتفاقا أيضا على أن الشيخ محمد عبده قد شكل شخصيته المستقلة وجوهر مشروعه الإصلاحي والنهضوي والتجديدي وفق خلاصة تكوينه وشخصيته وإرادته الحرة المستقلة، يقول أحد الدارسين حول هذه الفكرة:
"إن الشيخ محمد عبده، وإن كان متأثرا بمبادئ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، فإن مذاهبه الإصلاحية لها شخصية مستقلة، إذ كان الشيخ محمد عبده معلما مصلحا يدعو إلى النهضة والرقي في هدوء وتدرج، بينما كان السيد الأفغاني يرى أنّ الثورة هي سبيل الإصلاح الاجتماعي والسياسي".
وجدير بالذكر أنَّ الدعوات الإصلاحية للإمام محمد عبده قد وجدت طريقها إلى قلوب وعقول الناس بفضل بلاغته وقوة حجته، وقدرته على الإفهام والإقناع بما أوتي من فصاحة اللغة، وتأثير البيان.
في كتابه المهم «رائد الفكر المصري، الإمام محمد عبده»، للدكتور عثمان أمين أحد أبرز من تأثروا بمنحى الإمام فكريا ونهضويا يرى أن الأستاذ الإمام محمد عبده يحتل مكانة كبيرة في تاريخ الفكر العربي المعاصر، وفي مقدمته لهذا الكتاب الذي يعد أحد أهم الكتب التي تعرضت لدراسة فكر الشيخ محمد عبده وتحليل آرائه وتصوراته الإصلاحية والتجديدية والنهضوية، يقول أستاذ الفلسفة الإسلامية الراحل الدكتور عاطف العراقي وقد أشاد بأفكار الأستاذ الإمام الذي يعد خالدا بفكره النقدي، واتجاهه التنويري، خاصة في المرحلة المظلمة التي عاصرها، وكانت تحتاج إلى الكثير من الجهود التي تشيع النور والضياء، يقول العراقي: "عاش الأستاذ الإمام في قلب المشكلات الفكرية والاجتماعية الكبرى، وناضل من أجل حلِّها، لذا كانت جهوده الإصلاحية حية نابضة بما يتصل بالهم المصري الخاص، والهم العربي العام" خلال الفترة البسيطة التي عاشها والتي لم تزد على نصف القرن ببضع سنوات فقط.
(3)
يعتبر الدكتور نصر أبو زيد المرحلة الأخيرة من حياة الإمام محمد عبده، بالتحديد بعدما ولي مشيخة الإفتاء في الديار المصرية، هي مرحلة تبلور المشروع الإصلاحي التجديدي للفكر الإسلامي ومن ثم الفكر العربي كله. فبعد تعيينه مفتيًا للديار المصرية عام 1899 عالج الأستاذ الإمام عدة مواضيعَ اجتماعية وثقافية عملية من منظورٍ إسلامي "عقلاني"، وأنشأ برنامجًا لإصلاح التعليم العالي الإسلامي ومناهج التعليم وإعادة النظر في طريقة تدريس العلوم الشرعية.
وكذلك سعى الإمام محمد عبده لتطبيق هذه التغييرات العملية عام 1892 بإصلاحاتٍ مزمعة للتعليم عمومًا والأزهر على وجه الخصوص. وقد اقترح بالإضافة إلى ذلك خططًا كثيرة لإصلاح النظام القضائي. وكانت جهوده لإصلاح الأزهر في بعض النواحي موفقةً إلى حدٍّ ما.
ولكن نظرًا للمقاومة الشديدة من جانب العلماء التقليديين لذلك، فقد بدأ يولي "الإصلاح الفكري" اهتمامًا أكبر. وقد برهنَت كل هذه الأعمال على ثقته في كلٍّ من «العقل» و«الدين» باعتبارهما أفضل أساس للحيلولة دون ضلال العقل.
وقد جعَلَته قضايا الإسلام والمعرفة الحديثة التي شكَّلَت جوهر كتاباته يُعيد دراسة التراث الإسلامي. فقد دفَعَته لفتح «باب الاجتهاد» على مصراعَيه، وفي كل مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية. وحيث إنه رأى أن الدين جزءٌ أساسي من الوجود البشري، فقد كان إصلاح الفكر الإسلامي هو السبيل الوحيد لبدء إصلاحٍ حقيقي.
(4)
بعبارة أخرى، يمكن القول: إن الشيخ الإمام محمد عبده قد طرح حزمة مبادئ وأصول "فكرية" وبعض تطبيقات لإصلاحٍ إسلامي فقهي لإنشاء ما يمكن أن نسميه "حداثة إسلامية" معاصرة، لا تفرط في الإسلام، ولا تحتذي الغرب.
وبهذا الموقف المركّب، وفق المؤرخ الدكتور شريف يونس، فقد أقام نقطة تقاطع ما نسميه الآن الإسلام الرسمي والحركي والليبرالي أو التجديدي اختصارًا، إذ كان سلفيا تجديديا، وكذلك مرتبطا بالمؤسسة الدينية التقليدية: (الأزهر الشريف).
وقد تفرعت عن مواقفه، سواء المكتوبة أو الإدارية في إدارة الأزهر، وفي منصب مفتي الديار المصرية تطورات في هذه الاتجاهات الثلاث، منها ما يمتد عبر رشيد رضا إلى حسن البنا، ومنها ما امتد إلى الليبراليين المسلمين بتجديداتهم في الجامعة، قاطرة التقدم والنهضة والفكر الحر، ومنها ما استقر في إصلاح المؤسسات الدينية. وبصفة عامة تجد جميع التيارات في كتاباته أصولًا لها.
كانت الأداة الأساسية التي لجأ إليها الشيخ محمد عبده هي إدانة إغلاق باب الاجتهاد، وفتحه مجددا بالعودة إلى الأصول أو السلف، سواء بإصدار فتاوى جديدة أو الأخذ بحرية من مختلف مذاهب السنة حسب مقتضى الحال، بما يعني فعليا تفتيت المنظومة الفكرية القديمة، وفتح مجال موحد يسمى "الإسلام" (السُنِّي في واقع الأمر)، تجري فيه الصراعات بين المدارس المختلفة.
كما انعكس ذلك مؤسسيا، سواء في تجديد الإسلام الرسمي ومؤسساته (يضاف إليها الإذاعات الدينية)، أو في توجهات التيار الأصولي التي تمثلت في تنظيمات مسلحة أو غير مسلحة، فضلا عن مساحة في المجال العام (كُتب، مجلات، نشرات، فضائيات مؤخرا)، أو الإسلام التجديدي الليبرالي الممثل في مؤسسات الرأي العام المختلفة وفي الجامعات بقدر ما..