عن تنازل عبود عن العرش (26 أكتوبر 1964): يوم قال الرائد محمد الباقر أحمد للواء حسن بشير لست تحت قيادتك الآن. لم آت هنا لآخذ أوامر منك. (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
(لا أدري كيف مُسخت هذه الدراما أو التراجيديا العجيبة لتنازل عبود مما ربما سطرها قلم الطيب صالح نفسه إلى "حدوته" عن عبود الطيبان الذي أشاع الطيب أنه سمع الهتاف ضده ولبى النداء وذهب إلى بيته يتمطى.
أعرض فيما يلي ما كتبه الدكتور كليف تومسون في كتابه "ثورة اكتوبر في السودان" (المصورات) عن ملابسات تنازل الرئيس عبود عن السلطان في يوم الاثنين 26 أكتوبر 1964. وجرى التنازل في ملابسات ظاهرة معروفة بالمروق (defection) أي تنصل القوى النظامية بصورة كاملة أو جزئية عن الحاكم فلا يجد مهرباً من مغادرة الحكم. فإلى التلخيص:
وقفنا في الجزء الأول عند دخول الرائد محمد الباقر أحمد، الذي صار نائباً لرئيس الجمهورية جعفر نميري، ليطمئن أن الضباط الكبار الذين جاؤوا للقصر الجمهوري لحمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة حل نفسه ومغادرة الحكم لم يصابوا بسوء. وكان الباقر جاء بقوة عسكرية أحاطت بالقصر. وكان جاء هؤلاء الضباط إلى لقصر وصفوة الحكم تتفاكر فيما ينبغي عليها عمله للخروج من المأزق.
جاء حسن بشير خلال حديث عبود للقائمقام محمد إدريس عبد الله، الذي جاء في ثلاثة من زملائه مندوباً عن الضباط المطالبين بتنازل الجيش عن الحكم، وقال للرئيس إنه أقنع الوزراء بحل مجلس الوزراء، بعد عرضه للموقف عليهم. فقال له عبود إنه يرغب في الحديث إليهم أيضاً. فأتجه الضباط الثلاثة إلى حيث كان الوزراء. ولم تجر مناقشة. فقد جادل حسن بشير أمام عبود والوزراء أن الموقف واضح فالشعب غير سعيد بهم ويجب عليهم أن يرحلوا ويتم تعيين مجلس عسكري جديد. ورد عليه عبود بأن التقارير من جهة الجيش ليست متشائمة مثله. كان يريد أن يخفف من غلواء حسن بشير لكتابة نهاية النظام ليسمع لمزيد من الآراء من الوزراء. وتكلم القائمقام محمد إدريس بعبارة متعاطفة بدأها مع عبود حين اختليا ولكنها صريحة في حل المجلس ومجلس الوزراء. فقال عبود: "لا، لن أخون أصدقائي". فقال له القائمقام إنها ليست خيانة حين يقول لك صديق مثله لعشرين عاماً قم بالشيء الصاح.
انفصل عبود عن تلك المناقشة ليدور بين أعضاء المجلس والوزراء يتسقط آراءهم بل خلجات آرائهم. فوجدهم تساورهم الشكوك حول الأمر جميعه واستغرب عبود بالمقارنة لقوة عارضة اللواء حسن بشير في اعتقاده الجازم في سداد حل المجلسين، العسكري والمركزي النيابي. وتساءل إن كان ضباط الخرطوم بالفعل طلبوا حل المجلس كما فهم اللواء حسن بشير. وكان واضحاً أن أولئك الضباط بيتوا أمراً بوجود القائمقام الذي هو منهم.
وظل عبود يدور بين الحضور الرسمي يتحدث إلى واحد بعد واحد عن الموقف في حين كان طاقم إذاعة أم درمان قد جمع عدته بعد تسجيله حديث الرئيس عن انعقاد المجلس المركزي. ولكن غلب على الحضور أن ذلك البيان ربما لم يعد صالحاً لأن المسألة التي جد طرحها هي ذهاب المجلس العسكري نفسه ناهيك عن توابعه. لقد صارت المقاومة لإرادة الشارع تتناقص كلما دخل الليل.
كان عبود قد انتحى بعدد من كبار الضباط في غرفة لمزيد من التشاور. ولم يكد يجلسون على كراسيهم حتى دخل عليهم الرائد الباقر غير مأذون. فما دخل حتى أنتهره اللواء حسن بشير قائلاً:
-ماذا تفعل هنا؟
وأضاف بعد صمت قصير:
-ما تفعله غلط.
فرد الباقر معاجلاً":
-لست تحت قيادتك الآن. لم آت هنا لآخذ أوامر منك.
وهدّأ عبود التهارش. وسأل الباقر أن يدلي بما عنده. فتحدث بأدب إلى عبود قائلاً إنه سيخون وطنيته إن لم يطلع الرئيس على حقائق الموقف المتدهور وانزعاج زملائه لذلك. وزاد بأنهم لن يطلقوا الرصاص على من لم يعد يثق في الحكومة. وقال بأنهم لن يضمنوا سلامة أعضاء المجلس العسكري أن لم تكن هناك معالجة جذرية للمسألة. ولم يضع على مستمعيه التهديد المبطن. وطلب من عبود أن يعيد تسجيل حديثه للإذاعة ليعلن حل المجلس العسكري ومجلس الوزراء. ولم ينتظر القائمقام عبد الله الرئيس ليرد فسارع بقوله إن ثمة قوات خارج القصر مؤيدة للمطلب. وأكد الباقر وجود هذه القوات. وركبت الدهشة عبود وتعالت الأصوات وتقاطعت فأسكتها قول اللواء حسن بشير بإن المطلب بحل المجلسين هو ما ظل يدعو له طوال المساء.
كان البيان بحل المجلسين في جيب القائمقام عبد الله. فأعطاه للواء حسن بشير. وتكهرب الجو لأن حسن بشير كان كمن يلمح إلى أنه سيتلو بيان الحل إن لم يتلوه الرئيس. وأغضب ذلك عبود وتقاطعت أصوات الضباط تدلي بدلوها وغطى واحدها الآخر. وتسارعت الحجج وسخنت.
وتدخل عبود ليهدئ التصارخ قبل أن يتفرق المجلس شيعاً. وتحدث بصوت خفيض محذراً من الصدام وعليهم أن يلتزموا الهدوء. وجلس الباقر وغيره ممن كانوا وقوفاً. فقال عبود إن الحاجة وضحت إلى بيان مختلف لملاقاة الثورة الظافرة. ولكن على الجيش أن يحافظ على كرامته ولا يهرب من الساحة وأن نتفق على شيء يمنع الإساءة له. والبداية هي في ألا يبوح أحد بما جرى الليلة لأحد. قد كان تمريناً في بلوغ قرار مجمع عليه يبقى في الصدور. وجاء وقت الانسجام بعد وقت الجدال. وتتابعت الموافقة على الخطة من الحضور.
طلب عبود من وزير الاستعلامات والعمل أن يأتي بطاقم من الإذاعة لتسجيل كلمته الجديدة. وكانت كلمته الأولى عن اجتماع المجلس المركزي لمناقشة أوضاع البلاد ما تزال تذاع على الملأ. وتحدث أحد زملاء الباقر للإذاعة لتعلن عن بيان جديد فترقبوه. وجاء طاقم تسجيل الإذاعة ومضى إلى مكتب عبود ليسجل الكلمة التي كانت في جيب القائمقام سوى من بعض تعديلات طفيفة هنا وهناك.
لا أدري كيف مُسخت هذه الدراما أو التراجيديا العجيبة لتنازل عبود مما ربما سطرها قلم الطيب صالح نفسه إلى "حدوته" عن عبود الطيبان الذي سمع الهتاف ضده ولبى النداء وذهب إلى بيته يتمطى.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حل المجلس عبد الله عبود عن
إقرأ أيضاً:
حراك نسوي يمني في عدن احتجاجا على انهيار الخدمات
تعيش العاصمة اليمنية المؤقتة، عدن، جنوبي البلاد، حراكا نسويا نشطا منذ أيام، احتجاجا على تردي الخدمات وانهيار الأوضاع المعيشية من بينها انهيار شبكة الطاقة الكهربائية وسط غياب أي معالجات حكومية حقيقية لهذه الانهيارات.
وخرجت المئات من النساء في عدن، في مسيرة احتجاجية للمرة الثانية، الجمعة، بعد مسيرة حاشدة شهدتها المدينة الساحلية يوم السبت الماضي.
ورفعت المتظاهرات شعارات تطالب بإصلاحات حقيقية وانتشال عدن ، العاصمة المؤقتة للبلاد، من وحل انهيار الخدمات المختلفة، وسط هتافات مناهضة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي المنادي بانفصال جنوب البلاد عن شماله) والذي يتحكم بمعظم الإدارات الرسمية في هذه المدينة.
#عدن المظاهرة الثانية لنساء عدن للمطالبة بالكهرباء والماء وسط انهيار كامل لمنظومة الكهرباء وفشل ذريع للسلطات الموالية للتحالف السعودي الاماراتي في ايجاد الحلول المستعجلة لانقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور pic.twitter.com/xQtKdBEygU — اليمن بوست (@YemenPostN) May 16, 2025
وعلى الرغم من إعلان شرطة عدن، منعها التظاهر إلا أن هذه الانتفاضة الشعبية النسوية تجددت الجمعة، رافعة لافتات تندد بتدهور الأوضاع المعيشية وانهيار الخدمات الأساسية.
أنشرووووووووووا يا شباب
إذا انتم مش قادرين تحكموا سلموا البلاد
رسالة من أحد المتظاهرات في ساحة العروض بـ عدن تعليقاً على على الفساد وانعدام الخدمات وقرب الكارثة العظمى pic.twitter.com/tISIXyS5KR — سعيد الميسري (@S_Al_Mesiri) May 16, 2025
"سابقة وفصل جديد"
وفي السياق، قال الكاتب والمحلل السياسي اليمني، عبدالرقيب الهدياني إن المظاهرة النسوية التي شهدتها عدن، في ساحة العروض منذ السبت احتجاجا على تردي الخدمات تعد سابقة وفصلا جديدا في هذه المدينة المكلومة.
وأضاف الهدياني في تصريح خاص لـ"عربي21" إن هذه الفعاليات جاءت بترتيب نساء عدن المنضويات في اتحاد نساء اليمن.. ومعهن الناشطات في العمل المدني والتيار الرافض لسياسة المجلس الانتقالي الجنوبي ومشاركة باقي المجتمع العدني.
وأشار إلى أن المظاهرات خلت من الإعلام الانفصالية (علم دولة الجنوب قبل الوحدة مع الشمال) بل وأفشلت كل محاولات المجلس الانتقالي لاختراقها وتجييرها لصالحه وهو الذي تمكن سابقا من ركوب موجة مظاهرات مشابهة للنقابات المهنية والعمالية مثلا.
وتابع بأن المتظاهرات هتفت ضد الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي بشكل مباشر وأنزلت كل أعلام الإنفصال التي حاول المجلس الانتقالي رفعها عبر نساء تابعات له دسهن داخل المظاهرة بل وتم طردهن من المنصة و الساحة.
وبحسب الكاتب اليمني فإن هناك تغيير ملحوظ وجديد في المزاج الشعبي عبرت عنه نساء عدن المحتشدات في ساحة العروض عندما حاكمن المجلس الانتقالي شعبيا بشكل واضح وحملنه مسئولية تردي كل الخدمات في العاصمة عدن.
ولفت إلى أن هذه المظاهرة الحاشدة لنساء عدن كسرت حاجز الخوف وفتحت الطريق لفعاليات اقوى في قادم الأيام تتجاوز الخدمات إلى السياسة، علما أن هناك الكثير من الأسر منعن بناتهن من المشاركة خشية أن يتعرضن للقمع من سلطات عدن الأمنية والعسكرية التي يدرها المجلس الانتقالي.
ومنذ سنوات تشهد العاصمة اليمنية المؤقتة، عدن، أزمة في توليد الطاقة الكهربائية، إلا أنها تضاعفت مؤخرا، وصلت حد الانقطاع الكلي بسبب نفاذ الوقود.
ووصلت مدة انقطاع التيار الكهربائي في مدينة عدن، مقر الحكومة اليمنية المعترف بها، إلى ما يزيد عن 11 ساعة يوميا، وسط عجز رسمي لمعالجة هذه الأزمة التي أرقت سكان العاصمة المؤقتة.
وأدت أزمة شبكة الكهرباء إلى تزايد الغضب الشعبي والاحتجاجات المنددة بذلك، إذ شهدت مناطق مختلفة من عدن منتصف العام الماضي احتجاجات وخروج الناس إلى الشوارع تنديدا بتدهور الخدمات العامة ومنها الكهرباء.
وأضرم المحتجون حينئذ، النيران في إطارات السيارات، وأغلقوا عددا من الشوارع، احتجاجا على حالة التردي المتواصل للأوضاع المعيشية والخدمات العامة، في عجز حكومي عن حل هذه المعضلة.
وتنفق الحكومة اليمنية ما يعادل 1.200 مليار دولار سنويا بواقع 100 مليون دولار شهريا من أجل توفير الوقود واستئجار محطات توليد الكهرباء، فيما لا تصل الإيرادات إلى 50 مليون دولار سنويا، وفق ما ذكرته وكالة "رويترز" الأمريكية.
فيما يشهد الريال اليمني انهياراً غير مسبوق فاقم من الأوضاع المعيشية الصعبة وزاد من تدهور الحالة الإنسانية في البلاد، في وقت يعيش فيه معظم السكان تحت خط الفقر، ضمن أزمة صنفتها الأمم المتحدة كواحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.
وقد سجل سعر صرف الدولار الأمريكي في تداولات أمس الخميس نحو 2538 ريال يمني في مناطق سيطرة الحكومة، وهو أدنى مستوى للعملة المحلية منذ اندلاع الحرب في البلاد عام 2015، حين كان الدولار يعادل نحو 215 ريالا فقط.