كيف يتحرك السيسي في غزة؟
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
كيف يتحرك السيسي في غزة؟
هل ستقبل الأجهزة المصرية الوصول إلى أن تكون مصر منبوذة عربيا إذا قمعت الفلسطينيين أو لم توفر الاحتياجات اليومية لسكان المخيمات؟
ورغم كل مخططات تصفية قضية فلسطين، وإفراغ الأرض من أهلهاا، يبقى الأمل معقودا على صمود الشعب الفلسطيني، وتماسك المقاومة أمام وحشية المحتل.
يتحرك السيسي بوجهه المألوف فيشارك في حصار الفلسطينيين ويرفض إدخال المساعدات إلا بقدر ما يسمح الإسرائيليون، ويرفض خروج المرضى إلا كما يُحدَّد العدو.
إذا لم يكن سلوك السيسي على مدار سِنِيّه العشر مؤديا إلى ما يسميه "تصفية قضية فلسطين"، فما المطلوب لتصفيتها سوى أن يشارك بنفسه في عدوان عسكري على القطاع المحاصر؟!
* * *
كتبتُ في هذا المكان ملاحظة تتعلق بتدخل الأجهزة المصرية في بداية معركة طوفان الأقصى، وكان التدخل موضع ثناء ممزوج بأمل ألا تُنحَّى هذه الأجهزة عن المشهد لصالح رأس النظام، وهو ما لم يتحقق للأسف وبدت سيطرة السيسي على مسار الحراك المصري في أخطر منعطفات القضية الفلسطينية بعد الاحتلال عام 1948.
لا جدال في أن موقف السيسي الثابت هو الولاء للدعم الصهيوني له، والولاء توصيف دقيق للعلاقة بينه وبين حكومة الاحتلال، فمنذ 2013 يقوم السيسي بخدمة الاحتلال في عدة جهات، بدأت من السماح لطيرانه بقصف مجموعة في شمال سيناء بذريعة أنها مجموعة متطرفة، ما أعطى ملمحا لشكل العلاقة التي يريدها مع العدو التاريخي لشعوب المنطقة، والتي وصفها فيما بعد بـ"السلام الدافئ"، في رسالة واضحة منه بأن عصره سيختلف عن عصر مبارك الذي وُصِفَت العلاقة فيه بـ"السلام البارد" سواء على المستوى الرسمي، وبالطبع الشعبي.
استمر ولاء السيسي ثابتا في عدوان عام 2014، وكان الإعلام محرضا بشدة على قتل الفلسطينيين والحركات المقاومة، والملاحظة هنا أنه كان تحريضا على القتل، لا مجرد إلقاء اللوم على المقاومة أو تشويهها كما كان يحدث قبل ثورة الكرامة في 25 يناير 2011، وبقي الولاء ثابتا في عدوان عام 2021 أيضا.
خلال العشرية السوداء لتولي السيسي الحكم وقعت أحداث جِسام، فكانت هبّة الأسباط وباب العمود وتهجير أهالي الشيخ جراح وتكثيف الاستيطان، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وفوق كل ذلك نقل دول لمقار سفاراتها إلى القدس الشريف، في خطوة أخرى تقضي على حقوق الفلسطينيين في أرضهم.
توَّج السيسي سلوكه في عشريته بإعلانه أمام ترامب بـ"دعمه الشديد" لـ"صفقة القرن"، التي لم تظهر ملامحها الرسمية أبدا لأي من شعوب المنطقة، لكن كان من بين التسريبات إقامة منطقة عازلة لتهجير فلسطينيين من غزة إلى شمال سيناء، وكانت الشكوك تتزايد عندما هُجِّر أهالي شمال سيناء من المناطق الحدودية مع قطاع غزة بذريعة محاربة داعش، وبعد الإعلان عن فرض السيطرة الأمنية هناك، رُفضت عودة الأهالي واعتُقل المعترضون على إبقائهم خارج مناطق سكنهم قبل العملية العسكرية على داعش.
والسؤال هنا، إذا لم يكن سلوك السيسي على مدار سِنِيّه العشر مؤديا إلى ما يقول عنه "تصفية قضية فلسطين"، فما درجة التنازلات المطلوبة لتصفيتها سوى أن يقوم بالمشاركة بنفسه في عدوان عسكري على القطاع المحاصر؟
هذا التاريخ الممتد لعشر سنوات جعل سلوك النظام السياسي في بداية الأزمة محل تساؤل عن وجود تغيُّر دَفَعَ إلى هذا الموقف "المختلف لا القوي" عما كان يصدر طوال عشرية السيسي، وكانت الإجابة بوضوح أن الخارجية المصرية والمخابرات العامة تحركتا وفقا للمواقف الثابتة تاريخيا داخل المؤسستين.
وهي المواقف التي قد يكون هناك خلاف مع بعضها، لكنها في مجملها مواقف وطنية، وثابتة في اعتبار الخطر الرئيسي لمصر يأتي من الحدود الشمالية التي تقبع فيها دولة نووية شرهة للدماء العربية، ولن تتردد في استخدام هذا السلاح الفتاك تجاه أي نظام عربي يهدد بقاءها، لهذا تعاملت الأجهزة الوطنية بقِيَمِها الذاتية في بداية الأزمة مستفيدة من الانكشاف السياسي والعسكري والاستخباراتي للاحتلال.
استشعرت الراعية اللا أخلاقية لدولة الاحتلال خطورة الوضع على الكيان الإجرامي المدلل، فأرسلت عتادا وأموالا لدعمه، فضلا عن زيارات وزيري الخارجية والدفاع الأمريكييْن ثم رئيسهم إلى الكيان الفاشل في المواجهات الجادة.
ويبدو أن الرسائل وصلت واضحة إلى الموالين لهم في المنطقة، وعلى رأسهم الممسك بالحدود العربية الوحيدة مع القطاع المحاصر منذ 2007 بقرار إسرائيلي للأسف، دون أي سيادة حقيقية لمصر على حدودها والمعبر البري بين فلسطين ومصر، واستجاب المولى للرسالة وأمسك بجميع خطوط الحركة في الملف الفلسطيني.
يتحرك السيسي داخليا على مستوى واحد فقط، وهو المستوى الاقتصادي، فحملات المقاطعة الشعبية أصبحت للمرة الأولى مُرحَّبا بها، وغاب الحديث عن أثر المقاطعة على العاملين المصريين كما كان يحدث من قبل، وأغلب الظن أن السبب في ذلك يرجع إلى تخفيف عبء الدولار الذي تفاقمت أزمته بصورة مرعبة، وحملات المقاطعة ستُسهم نسبيا في تخفيف هذا العبء.
أما المستوى الإعلامي، فليس محسوبا لصالح القضية، فهو الآن داعم للمقاومة بغرض تخفيف الغضب الشعبي وتنفيس حالة الاحتقان من الموقف الرسمي المخزي، وسيتحول في اللحظة المناسبة لتلويث الوعي الاجتماعي بغرض التسويق للخطط الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة، والقطاع المحاصر، ولن يمنع هذا الانقلاب في الخطاب الإعلامي، سوى انتصار المقاومة على الأرض ومنع العدو من تحقيق أي نصر عسكري، سواء باحتلال القطاع أو العثور على أسراه.
على المستوى السياسي، يتحرك السيسي بوجهه المألوف، فهو يشارك في حصار الفلسطينيين، ويرفض إدخال المساعدات إلا بالقدر الذي يسمح به الإسرائيليون، ويرفض خروج المرضى إلا بقدر ما يُحدَّد له من الجانب المعتدي، وقد أكَّد هذا الموقف وزير الصحة المصري بتصريحاته الإعلامية لقناة "CNN".
كما كانت تصريحات السيسي أمام مسؤولين أوروبيين مرعبة تجاه حركتي حماس والجهاد، عندما طرح نقل الفلسطينيين إلى النقب بدلا من سيناء إلى حين الانتهاء من العملية العسكرية في غزة، وهي تمثل رؤيته تجاه الحركتين بشكل حقيقي، فضلا عن وصفه العمليات المقاوِمة بـ"الإرهابية"، في معرض حديثه عما إذا انتقل الفلسطينيون إلى سيناء ومهاجمتهم لإسرائيل منها.
ما يُفهم من سلوك السيسي عندما قَبِل ما سُمِّي بـ"صفقة القرن" مقارنة بالإعلان عن رفض التوطين الآن، أنه قَبِل توطين أعداد محددة من جملة سكان القطاع في مرحلة سابقة، لا مئات الآلاف كما يُطرح الآن، ويبدو أن التسريبات التي تطرح عن توطين الفلسطينيين في عدة دول عربية، كانت فكرة ترامب، ومع مفاجأة 7 تشرين الأول/ أكتوبر أصبح الخطاب العدواني سائدا في كيان الاحتلال إلى درجة مطالبة الفلسطينيين بالانتقال الفوري من القطاع إلى شمال سيناء، وهو ما سيسبب أزمة داخلية مصرية.
ملامح الأزمة تتمثل في أن اللاجئين مسؤولية الدولة المستضيفة، وزيادة الأعداد زيادة في العبء، كذلك سيكون السيسي أمام إشكالية حقيقية فيما يتعلق بسلاح المخيمات والهجوم العسكري ضد الاحتلال، فهل سيقوم بحملات عسكرية لتصفية السلاح الفلسطيني؟ وما الذي سيترتب على ذلك من الناحية الشعبية سواء في الداخل المصري أو الجمهور العربي والإسلامي؟
هل ستقبل الأجهزة المصرية الوصول إلى هذه المرحلة بالفعل، ما يعني أن مصر ستكون منبوذة عربيا إذا قمعت الفلسطينيين أو لم توفر الاحتياجات اليومية لسكان المخيمات؟ ستكون هناك أسئلة كثيرة مطروحة عند الحديث عن مئات الآلاف من اللاجئين، بخلاف الحديث عن عدة آلاف يمكن السيطرة عليهم.
ورغم كل التصورات المرعبة التي قد تؤدي إلى تصفية قضية فلسطين، وإفراغ الأرض من سكانها الأصليين تماما، سيبقى الأمل معقودا على صمود الشعب الفلسطيني، وتماسك المقاومة أمام وحشية المحتل، وقوتها أمام الجبناء المستترين وراء السُّحب والهاربين من كل ساحٍ.
*شريف أيمن كاتب وباحث مصري
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: مصر السيسي فلسطين غزة المقاومة تصفية قضية فلسطين حصار الفلسطينيين القطاع المحاصر شمال سیناء فی عدوان
إقرأ أيضاً:
الناشط أنس حبيب لـعربي21: نظام السيسي متواطئ ضد غزة.. وحراكنا الشعبي لن يتوقف
اتهم الناشط وصانع المحتوى المصري أنس حبيب، نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بـ"التواطؤ الكامل والتآمر الصريح" ضد قطاع غزة، مُشدّدا على أن ما يمارسه النظام المصري من حصار وتضييق ومنع للمساعدات الإنسانية، يجعله شريكا مباشرا في المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين.
وفي مقابلة مصوّرة مع "عربي21"، أكد حبيب أن الحراك الشعبي في الخارج الداعم لأهل غزة لن يتوقف، وأنه يُمثل "صوت الضمير الحي" في مواجهة خذلان الأنظمة وصمتها المخزي، لافتا إلى أن "الشعوب لم ولن تنسلخ عن قضاياها، مهما حاولت السلطات تقييدها أو تغييبها".
وأشار إلى أن إقدامه على إغلاق مقر السفارة المصرية في هولندا مؤخرا، جاء "رفضا لتورّط النظام المصري في الحصار المفروض على قطاع غزة، وتواطئه المباشر في جرائم التجويع والقصف والإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون منذ نحو عامين كاملين".
View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
وفي موقف احتجاجي لافت، قام الناشط أنس حبيب، يوم الثلاثاء الماضي، بغلق بوابة سفارة بلاده في هولندا باستخدام قفل حديدي تعبيرا عن رفضه للحصار المفروض على قطاع غزة، وأثارت هذه الواقعة جدلا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط احتفاء واسع بما فعله من قِبل الكثيرين.
وأكد حبيب أن تحركه لم يكن مُخططا له أو بحثا عن الأضواء، بل جاء بدافع القهر والغضب مما يراه يوميا من مشاهد الدم والدمار في غزة، ومن الصمت العربي الذي وصفه بـ "المخزي والمشين"، مضيفا: "كنت أبحث عن أي فعل يُبرئ ضميري.. لا أريد أن أكون شاهدا صامتا على هذه الجريمة".
وشدّد صانع المحتوى المصري، على أن "تحركات النشطاء المصريين والعرب في الخارج باتت أداة ضغط حقيقية على الأنظمة المتواطئة"، مطالبا الجميع – شعوبا وأفرادا – بأن لا يقفوا موقف المتفرج، قائلا: "نحن أمام لحظة فاصلة. ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ليس كما بعده، وغزة لا تحتاج كلمات بل أفعالا تُغيّر المعادلة".
وتاليا نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
ما الذي دفعك إلى اتخاذ قرار إغلاق مقر السفارة المصرية في هولندا قبل أيام؟
السبب واضح ومباشر: النظام المصري شريك أساسي في المجازر، وفي سياسة التجويع والإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق أهلنا في غزة. هو خادم مطيع لإسرائيل، ينفذ أوامرها بلا تردّد. ومن المعيب أن يدّعي هذا النظام أن إدخال المساعدات إلى القطاع أمر مستحيل، بينما لا يفصلنا عن غزة سوى كيلومترات معدودة. الحقيقة أنه لا يريد إدخال المساعدات عبر معبر رفح، لا أكثر.
فلو كان الأمر مستحيلا فعلا، كيف دخلت المساعدات حينما كان الرئيس الراحل محمد مرسي في الحكم؟ بل إن مرسي أوقف المجازر فعلا، وقال حينها كلمته الخالدة: "لن نترك غزة وحدها."
اليوم، يُترك أهل غزة يجوعون ويُقصفون ويُذبحون ليل نهار، دون أن يهتز لنا جفن أو يتحرّك فينا ضمير. الصمت في هذه اللحظة لا يعني سوى الموافقة الضمنية على الجريمة. ولذلك قرّرت أن أفعل شيئا، أن أُعلن رفضي لهذه الخيانة العلنية، ولو بإغلاق باب سفارة تُمثّل سلطة متواطئة.
هل تعرّضت لأي مضايقات أو محاولات ترهيب بعد قيامك بإغلاق السفارة المصرية في هولندا؟
لم أتعرض لأي مضايقات تُذكر، لكن كما شاهد الجميع، كانت هناك محاولات بسيطة من بعض العاملين بالسفارة لمحاولة منعي، وقد تعاملت معهم وقتها بالشكل المناسب.
هل كنت تتوقع أن تنتشر هذه الواقعة بهذا الشكل الواسع؟
بصراحة، لا. حين أقدمت على هذا الفعل، لم أكن أفكر بردود فعل الناس أو مدى انتشار الحدث. كنت فقط إنسانا مقهورا، ينفطر قلبه كل ليلة على ما يحدث في غزة. كنت أبكي من القهر وأنا أشاهد صور الأطفال المذبوحين، والنساء المكلومات، والدمار الذي طال كل شيء. تخيّل أن كل ذلك يحدث لجيراننا وأهلنا وأشقائنا، ولا نحرك ساكنا.
كان لا بد أن أفعل شيئا، أي شيء. وما حدث بعد ذلك من تفاعل واسع وكبير فاق توقّعاتي، وهو فضل من الله. غزة على حق، ومَن يقف معها، فإن الله يوفّقه ويُعلي صوته ويُكرمه، لأن هذه معركة بين الحق والباطل.
View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
كيف تقيّم ردود الفعل على تحركات النشطاء المصريين في الخارج ضد استمرار إغلاق معبر رفح؟ وما مدى تأثيرها؟
ردود الفعل كانت مشجعة وجيدة. النظام المصري يحرص دائما على تجميل صورته في الخارج، وعلى كسب رضا الغرب بأي ثمن. النظام المنقلب بطبيعته يحتاج دوما إلى الإطراء الخارجي ليمنح نفسه شرعية مفقودة في الداخل.
لذلك، حين تهتز صورته دوليا، يتأذى بشدة، ويشعر بالخطر، وقد يُجبر تحت الضغط على اتخاذ قرارات ما كان ليتخذها من تلقاء نفسه.
ولهذا لا ينبغي الاستهانة بأي تحرّك مهما كان حجمه. كل كلمة، كل لافتة، كل وقفة، كل اعتصام، خطوة مهمة في مواجهة الصمت والتواطؤ. نحن نتحرك لا لنتفرج، بل لإعذار أنفسنا أمام الله وأمام التاريخ. وإن تكثف الحراك الخارجي، من مصريين وعرب وأحرار العالم، ضد تواطؤ السيسي على غزة، فذلك يُمثل دعما حقيقيا لأهل غزة، ويُضعف قبضة الاحتلال وأعوانه في المنطقة.
كيف ترد على من ينتقدونكم بأنكم تهاجمون السفارات العربية ولا تقتربون من السفارات الإسرائيلية؟
سؤال في غير محلّه. الجزار معروف، والمجرم واضح، والعدو لا يحتاج إلى تعريف. السفارة الإسرائيلية هي رمز للعدوان والقتل، ولا أحد يجهل أنها تُمثّل الكيان المجرم.
لكننا عندما نتحرك تجاه سفارات دولنا، فذلك لأننا نحمّل حكوماتنا المسؤولية، ونطالبها بالتحرك ورفع الغطاء عن الجرائم. هؤلاء – بكل أسف – يتواطؤون مع الاحتلال، ويغلقون المعابر، ويمنعون الدواء والماء والطعام، رغم أن بإمكانهم أن يغيّروا مجرى الأمور تماما إن أرادوا.
نُخاطبهم لأنهم – شئنا أم أبينا – لا يزالون يُمثلون مفاتيح جغرافية وإنسانية يمكنها أن تنقذ الأرواح. أما مَن يطالبنا بالتوجّه إلى السفارات الإسرائيلية، فنقول له: الطريق مفتوح أمامك، افعل أنت ذلك، ولا تكن جالسا تزايد على من تحركوا. نحن نقاوم الاحتلال وأعوانه، كلٌّ بحسب مسؤوليته ومكانه وتأثيره. والاحتلال ما كان ليُمعن في جريمته لولا أن هناك من وفّر له الغطاء من بني جلدتنا.
ما تقييمك للموقف الرسمي المصري من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؟
الموقف الرسمي المصري متواطئ حتى النخاع، لا يمكن وصفه إلا بالخيانة والعمالة الصريحة. نظام لا يرى في الدم الفلسطيني إلا ورقة للمساومة، ولا في معاناة غزة إلا فرصة للابتزاز السياسي. لا عذر ولا مبرر لما يفعله سوى أنه نظام باع ضميره، وتنكر لواجبه، وارتمى في حضن الاحتلال، خادما مطيعا لأوامره، وشريكا مباشرا في الحصار والمجزرة.
كيف تقيّم الموقف الشعبي في مصر تجاه الحرب الجارية في غزة؟
الخذلان الشعبي مؤلم، لكنه مفهوم ومبرر في ظل القمع والبطش الذي يكمم الأفواه ويُحاصر أي تحرك حر. لكن رغم ذلك، لم يكن أحد — لا في غزة ولا في العالم — يتوقّع هذا الصمت شبه التام من شعبٍ بحجم وتاريخ مصر.
نحن نتحدث عن مصر، عن بلدٍ يقارب عدد سكانه 110 ملايين نسمة، عن عمق تاريخي واستراتيجي لفلسطين، عن دولة كانت غزة جزءا منها فعليا وجغرافيا حتى عام 1967. بعد نكبة 1948، خضعت غزة للإدارة المصرية، وبقيت كذلك حتى نكسة حزيران/ يونيو 1967. اليوم، حين يُباد أهل غزة على مرأى ومسمع من العالم، لا يصدر من مصر الرسمية سوى الصمت أو التبرير، بل يُغلق معبر رفح، ويُمنع الدواء والغذاء من الدخول، فيما يفتح المجال أمام تصدير الغاز والكهرباء إلى من يقتل أطفال غزة.
الشعب المصري في جوهره، في أعماقه، لا يقبل هذا، لكن السلطة القائمة تمارس كل ما بوسعها لعزله عن قضاياه الكبرى، ولفصله قسرا عن عمقه الفلسطيني.
في رأيك، ما المطلوب من الرأي العام الشعبي اليوم لدعم القضية الفلسطينية بشكل فعّال؟
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد عدوان. إنها محرقة مكتملة الأركان: مئات آلاف الشهداء والجرحى، أحياء أبيدت بالكامل، أطفال بلا أهل، نساء بلا مأوى، وأرضٌ تُقصف وتُجرف وتُدمر فوق رؤوس ساكنيها.
في وجه هذا الجحيم، لا يكفي التعاطف، ولا الشعارات، ولا مشاركة منشور أو رفع علم. المطلوب تحرّك حقيقي. تحرك يُعبّر عن الإرادة الشعبية، ويكسر حاجز الصمت، ويزيح الطبقات التي خنقت صوت الشعوب، وقيّدت ضميرها.
المطلوب أن تتحرّك الشعوب في الشوارع، في الساحات، في الإعلام، في المقاطعة، في الضغط، في العصيان، إن لزم الأمر. لا بد أن ترتفع الأصوات وتُرفع الرايات وتُبعث الروح في جسد أُريد له أن يموت.
غزة لا تنتظر كلمات، بل أفعالا تُغيّر الواقع، وتفضح المتواطئين، وتُسقط ورقة التوت عن الأنظمة التي باعت كل شيء. فمصر — كما نعرفها وكما يجب أن تكون — دورها أعظم من كل هذا الخذلان. وإن استمر الصمت، فإن هذه الحقبة ستكون وصمة عار في تاريخنا لن تُغتفر.
ما رسالتك إلى أهل غزة؟
سامحونا كمصريين. لا نملك الكلمات التي توازي حجم القهر، ولا نملك الأعذار. القلوب تحترق، والضمائر تُذبح، لكن ما يمنعنا من نصرتكم هو نظام لا يُمثلنا، ولا يُمثل تاريخ مصر ولا روحها.
نحن نعلم أنكم لم تُخذلوا من مصر، بل من سلطة نُصبت على جثثنا وإرادتنا منذ 2013، وسارت بنا إلى هذه اللحظة السوداء التي أصبح فيها المعبر مغلقا أمام الأطفال المرضى، ومفتوحا أمام الغاز إلى الاحتلال.
لكن تأكدوا أن مصر الحقيقية لم تمت، وأن هذا الشعب سينهض مُجددا، وسيمحو عار الصمت، ويكفّر عن ذنبه بالفعل، لا بالشعارات. أنتم في القلب، في الوعي، في الضمير، في الدم. أنتم عنوان الكرامة، ونحن مدينون لكم إلى الأبد.
ثقوا أن الله لن يترككم وحدكم، وأن هذه الأرض هي لله، يمنحها لمن يستحقها، وأن النصر في النهاية سيكون للحق، مهما طال زمن الظلم والخيانة.
ما رسالتك إلى الشعوب العربية التي تتابع المجازر دون أن تملك أدوات التدخل المباشر؟
رسالتي إليهم: لا تكونوا شهود زور على مجزرة القرن. كلنا سنُحاسب. كل واحد منّا سيُسأل أمام الله عن موقفه من هذا الطوفان من الدم. لا أحد معفي من المسؤولية. لا أحد يستطيع أن يدّعي الحياد؛ فالصمت شراكة، والسكوت خيانة.
بعد مئات الآلاف من الشهداء، لا يحق لأحد أن يقول: "لا أستطيع أن أفعل شيئا". بلى، تستطيع. تستطيع أن ترفع صوتك، أن تقاطع، أن تفضح، أن تكتب، أن تُحرّض على الفعل، وأن تحرّك مَن حولك. تستطيع أن ترفض الحياة في ظل أنظمة خذلت القضية وتآمرت على أهلها.
اسأل نفسك: هل مَن يحكمك اليوم، هل مَن يقرر سياستك، هل مَن يتحدث باسمك في الإعلام والمحافل، يشبهك؟ يمثل ضميرك؟ ينتمي إليك؟ إن كانت الإجابة لا — وهي لا شك كذلك — فعليك أن تتحرك.
نحن الآن أمام لحظة فاصلة. ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر ليس كما بعده. هذه الحرب ليست كسابقاتها، وهذه الدماء ليست مجرد أرقام. إنها الاختبار الأخلاقي الأعظم لهذا الجيل، فإما أن نكون على قدر اللحظة، أو نخسر أنفسنا إلى الأبد.