ترجمة - يعقوب المفرجي

لا ندري حتى اللحظة كيف سيغير هذا الترف الصناعي علاقتنا مع أحبائنا الذين غادروا دنيانا

ثمة قلق من استخدام الناس تطبيقات الحزن الرقمية لتفادي حقيقة رحيل أحبائهم وأنهم لم يعودوا أحياء!

وحدها أمي من كان يضحك على نكاتي السخيفة.. تضحك عليّ وفي صميمها تضحك على نفسها أيضًا؛ ولا عجب إن قلت إن حسّي الفكاهي السخيف جاء متأثرًا بأمّي.

لن يُقـيَّض لي بعد اليوم أن أسمع ضحكتها الرشيقة بنبرتها الأنثوية مجدّدًا؛ فقد اختطفتها المنيّة في 17 يناير من العام الماضي بعد أن بلغت السادسة والسبعين من العمر، ولا يزال يراودني من آن لآخر شعور بالرغبة في سماع صوتها مقابل أي ثمن. وقد ذهلت مؤخّرًا عندما علمت أنّه توجد تطبيقات رقمية متنوعة تسمّى «تقنيات الحزن» –متاحة بالمجان أو مقابل مبلغ ضئيل– ستمكّنني من سماع صوت أمي بمجرد رفد التطبيق بالبيانات الضرورية كالرسائل الصوتية والمقاطع المصوّرة والرسائل النصّيّة ورسائل البريد الإلكتروني حتى يتسنّى للخوارزميات تكوين نموذج رقمي لشخصية أمي. وما دمت قد اجتزت المرحلة الأصعب من الحزن على فراق أمي أجدني متشجعة لتجربة التواصل مع الموتى بالوسيلة التي أختارها؛ سواء من خلال روبوتات الدردشة الذكية أو مقاطع الفيديو التحاورية أو حتى عبر جلسة تفاعلية لتحضير الأرواح! غير أن الأمر محفوف بالمخاطر بحكم تطور هذه التقنيات الرقمية عبر السنين الماضية حتى صارت تحاكي اليوم الحقيقة بنحو مخيف. ولا أخفيكم قلقي من أن يؤدي احتفاظي بطيف أمي في هذه السحابة الرقمية –أو حتى بأبي الذي فارق الحياة قبلها بتسعة أشهر- إلى تقويض عملية الحزن لدي؛ فهل سيساعدني استحضار شبحها الرقمي على التواصل معها حقًّا؟ أم أنه سيعود بي مجدّدًا إلى المعاناة التي عشتها في الأشهر التي تلت وفاتها؟

لا ندري حتى اللحظة كيف سيغير هذا الترف الصناعي علاقاتنا مع أحبائنا الذين غادروا دنيانا، بيد أن المعطيات الحديثة لعلم النفس حول موضوع الحزن -مشفوعة بالاكتشافات الجديدة المتعلقة بالآليات العصبية المتعلقة بالحزن- كفيلة بدق ناقوس الخطر؛ لأن الواقعية المتزايدة لهذه التطبيقات «من شأنها مفاقمة نوبة الحزن الشديد» على حد تعبير عالمة النفس ماري فرانسيس أوكونَر – رئيسة مختبر الحزن والفقد والقلق الاجتماعية بجامعة أريزونا.

على مر التاريخ، وجد الناس طرقًا للتواصل مع الموتى، وما هذه الأضرحة والمذابح الموجودة منذ آلاف السنين إلا شاهد على ذلك. ومع حلول القرن 19 ساهم اختراع التصوير الفوتوغرافي إلى رفع مستوى الرهان؛ فقد أضحى بمقدر نخبة المجتمع الفيكتوري التقاط صور لأحبائهم بعدما يفارقون الحياة وتعليقها على الجدران، وترى ماري فرانسيس أن التصوير «أحالَ الشخوص الميتة إلى حقيقة حيّة، وأظهر للعالم أنهم لا يزالون موجودين».

لحزن تجربة نتعلم منها

قضت الصورة الفوتوغرافية على الحد الفاصل بين الحضور والغياب بعد الموت، الأمر الذي أدّى إلى نشوء نوع جديد من العلاقة البشرية. وتقول سارين سيلي - وهي عالمة نفس مختصة في مجال الحزن من كلية آيكان للطب في ماونت سيناي بنيويورك - «إننا نفتش دائمـًا عن طرق تبقينا على مقربة من أحبائنا»، وأن الحفاظ على هذه العلاقة أمر صحي جدًّا.

العديد منا يعاني من الحزن الشديد خلال أول ستة أشهر إلى 12 شهرًا عقب وفاة شخص عزيز علينا، بيد أن سارين سيلي تشدّد على أن الحال تختلف من شخص لآخر. وعمومـًا، تكون الحياة خلال هذه الفترة ضبابية يخيّم عليها الحزن، ويسود أيامها شوق شديد إلى الفقيد، وترتفع فيها مستويات هرمون الكورتيزول المسؤول عن التوتر مقابل تضعضع دفاعات الجهاز المناعي، الأمر الذي يفسّر تأرجحنا غالبـًا بين البكاء على ما فقدنا ونكراننا لذلك الفقد. ثم ما يلبث هذا الحزن أن يخفت مع مرور الوقت عند كثير من الناس، ليستقر في النفس هذا الواقع الجديد -أي واقع الغياب- بمعيّة ما تبقّى من ذكريات جميلة، ويُستبدَل اليأس الشديد بالآلام المفاجئة التي تطرأ من وقت لآخر.

من الضروري في مشوار الحزن تخفيف الارتباط بالميت، لكن يبدو أنّ التطبيقات الرقمية المتعلقة بالحزن تستطيع إعادة الزخم إلى هذه الرابطة، بل وإطالة أمدها، وهذا من شأنه إرباك عملية الحزن ذاتها. وفي ظل القفزات التي جلبها الذكاء الاصطناعي أضحى بمقدور هذه التطبيقات إنشاء شخصية مقْنِعة للميت يبدو وكأنها تبرز إلينا «من وراء حجاب» على حد وصف موقع (Séance AI). وبعض التطبيقات مثل (Replika) تستخدم خاصية الحوار القائمة على روبوتات المحادثة على غرار تطبيق (ChatGPT) لجعل الحوار أقرب إلى الواقع. أما تطبيق (StoryFile Like) –وما شابهه– فيعتمد قليلًا فقط على الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبدلًا من ذلك تعمد الشركة المطوّرة إلى توظيف التسجيلات المرئية، وتطلب من الشخص الذي يرغب في تكوين شخصية رمزية رقمية له بعد موته الإجابة على جملة من الأسئلة بعضها يولّدها الذكاء الاصطناعي، ثم تعمد إلى دمج هذه التسجيلات دمجًا يتيح إنشاء محادثة أقرب ما تكون إلى الواقع بين الشخصية الرمزية الرقمية ومستخدم التطبيق.

ولقد تصدر ستيفن سميث –مطوّر تطبيق (StoryFile Life)– عناوين الأخبار العام الماضي عندما أنشأ صورة رمزية رقمية لوالدته وجعلها تلقي كلمة أثناء مراسم جنازتها. ويصف ستيفن هذه التقنيات بأنها «نسخة جديدة من ألبوم الصور» يجد فيها المرء الدفء والراحة في الأوقات العصيبة التي يعاني فيها من فقد شخص عزيز عليه، مضيفا: إن «وجود مثل هذا الألبوم وإمكانية العودة إليه مستقبلًا لمطالعة الذكريات المحفوظة فيه كفيل بأن يعين المرء على التأقلم مع رحيل من يحب». أما ماري فرانسيس فترى أن هناك بونًا شاسعًا بين خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تشغّل روبوتات المحادثة، وإنشاء الشخصيات الرمزية الرقمية وبين التسجيلات الفوتوغرافية.

ومنذ عام 1966 لاحظ المختصّون أن روبوتات المحادثة تثير ردود فعل قوية لدى البشر كما هي الحال لدى تطبيق (Eliza) الذي طوّره آنذاك جوزيف وايزنباوم –عالم الحاسوب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا– وهو روبوت دردشة يستخدم لغة بدائية؛ فقد لاحظ أن المستخدمين تفاعلوا مع (Eliza) وكأنه كائن ذكي مع علمهم بأنهم يتحدّثون مع مجرد تطبيق حاسوبي.

أما في حاضرنا فالروبوتات والشخصيات الرمزية الرقمية تستطيع إثارة العواطف بقدر أشد؛ فتطبيقات الذكاء الاصطناعي القائمة على اللغة وتطبيقات استنساخ الصوت وتطبيقات الواقع الافتراضي وتقنيات تجسيم الصور (الهولوجرام) سهّلت بنحو غير مسبوق تحقيق الخلود الرقمي. وفي العام المنصرم عمد عالما النفس بيلين خيمينيز ألونسو من جامعة كاتالونيا المفتوحة، وإجناسيو بريسكو دي لونا من جامعة مدريد المستقلة بإسبانيا، إلى إجراء مقارنة بين هذه التطبيقات التفاعلية والنصب التذكارية الرقمية الموجودة في موقع فيسبوك أو غيره من المواقع الجنائزية، وذكرا أن شركات التكنولوجيا مستفيدة من «تعلق أصحاب العزاء بفقيدهم» بنحو قد يكون «مضرًا بعملية الحزن على الفقيد». فالواقع إذن أن ما يجعل الشخصية الرمزية الرقمية لأمي واقعية جدا هو ذاته ما يمكن أن يجعلها مضرة جدا.

وتُعيننا النظريات النفسية الحديثة على فهم سبل تدخل هذه الروبوتات في مشاعرنا، حتى إنه لم تعد فكرة مرور الحزن بخمس مراحل متتالية -بدءا بالإنكار وانتهاء بالتقبل- فكرة شائعة. إلى جانب ذلك، ترى ماري فرانسيس وسارين سيلي في مقالة لهما نُشرت العام الماضي أن عملية الحزن هي في حقيقتها عملية تعلمية؛ نتأرجح في بواكيرها بين توقع عودة الفقيد بنهاية اليوم، فإن لم يعد شرعنا في البحث عنه، فكأن العقل يصارع ذاته جراء تضارب نوعين من الذكريات: «الذاكرة الدلالية» التي تحتفظ بمعرفة عامة حول طبائع الأشياء بما فيها ذواتنا وعلاقاتنا، و«الذاكرة العَرْضية» التي تلتقط حوادث معينة متجذرة زمانـا ومكانـا. إذن فالتوقعات الدلالية باستمرار العلاقة مع الفقيد -ريثما لا نزال نعاني من الحزن على فراقه- ستجد نفسها في صدام مع الذاكرة العَرْضية، ولكن -كما تقول سيلي- إذا تعلمنا الجمع بين هذين النقيضين سنتأقلم مع الفقد شيئا فشيئا.

-«احذر من فخ التطبيقات الرقمية المتعلقة بالحزن، حتى لا تظل حبيسـا لها». إن نوبات الصعود والنزول التي ترافق المحزون -أي أن يغرق في التأسي تارة، ثم ينفجر ضاحكـا كما لو كان في مسرحية هزلية تارة أخرى- جزءٌ لا يتجزأ من مشوار التأقلم على حد قول سيلي، أما الاستلقاء تحت ظلال الحزن فمن شأنه أن يجعلك أسيرا له. أما ماري فرانسيس فترى أن التطبيقات الرقمية المتعلقة بالحزن -التي تعطي المرء تمثيلا شبه حقيقي لمن فقد من أحبائه بمجرد نقرة زر- يمكن أن تنطوي على هذه الميزة التعلمية أيضـا، «فالصورة الفوتوغرافية التي نعرف أنها جزء من الماضي شيء... في حين أن الشخصية الرمزية الرقمية أو الشخصية المجسدة بالهولوجرام أو روبوتات الدردشة التي يبدو وكأنها تتفاعل معنا في الوقت الراهن شيء آخر».

دورة الحزن

إن حوالي عُشر الأشخاص الذين يمرون بمرحلة الحزن على فقد عزيز عليهم يعانون من «تطاول الحزن»، وهو حالة يتفشى فيها الحزن ويستقر طويلا لدى الإنسان ويتدخل في حياته اليومية لمدى يزيد على المدة المعتادة البالغة من 6 إلى 12 شهرا. ويبدو أن «الحزن المتطاول» يؤثر على الروابط الموجودة في أدمغتنا، ففي 2008 أجرت ماري فرانسيس دراسات على الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لعدد من النساء اللاتي فقدن أما أو أختـا مؤخرا بسبب سرطان الثدي. لاحظت الدراسة أن المشاركات عندما نظرن إلى صور من فقدن ازداد نشاط أجزاء الدماغ المسؤولة عن العمليات العاطفية والألم الجسدي، إلا أن الباحثة تفاجأت بأن من يعانين من «الحزن المتطاول» تنشط لديهن كذلك منطقة أخرى في الدماغ مرتبطة بالرغبة في الحصول على مكافأة، وهي رغبة تقول الباحثة إنها تبقى طويلا لدى البعض.

وبناء على هذه الدراسة وجدت فرانسيس وسيلي والمتعاونون معهما أن الأشخاص الذين يعانون من «تطاول الحزن» تتعطل لديهم منظومة التحكم بالانتباه في الدماغ. وعادة تستطيع هذه «الشبكة البارزة» التبديل بسهولة بين عالمك الخارجي كأن تشاهد حصانـا تراهن عليه، وعالمك الداخلي كأن تتخيل كيف ستتصرف بالمكاسب بعد أن تربح الرهان، والربط بينهما يسمى «الشبكة الافتراضية»، وهي شبكة مسؤولة عن التدبر والتأمل الذاتي وشرود الذهن. ويبدو عند من يعانون من «تطاول الحزن» أن التفاعل بين شبكتي الذهن البارزة والافتراضية يزداد بفعل العواطف العارمة المتعلقة بالحزن. تقول سيلي: «يمكن أن يؤدي هذا إلى دورة يصعب فيها الانفصال من التركيز على المُتـوفى حتى عندما تقسو العواطف الناجمة عن هذه الأفكار أو الذكريات».

ويمكن للشخصيات الرمزية الرقمية تضخيم بل وإطالة الرغبة في ملاحقة أمر ما خارج عن إرادة صاحب العزاء، وذلك لأن «نشاط الدماغ [في منطقتي المكافأة والتدبر] قوي جدا لدى الأشخاص الذين يتوقون لأحبائهم» كما تقول سيلي، مضيفة أنك «تشعر بأنك تحاول الاقتراب من تلك العلاقة لكن [الروبوت] ليس هو ما تحتاجه». بيد أن ماري فرانسيس قلقة من أن يستخدم المحزونون تطبيقات الحزن الرقمية «لتفادي حقيقة رحيل أحبائهم وأنهم لم يعودوا أحياء»، وهو ما من شأنه أن يفاقم من الشوق المستمر والبحث عن الراحة، وهما ما يميز حالة «الحزن المتطاول»، وهذا يمكن أن يتحول إلى مشكلة إذا كنتَ تستخدم روبوتات الدردشة على حساب العلاقات مع الأحياء من أحبائك. ورغم ذلك وجد استطلاع لآراء 10 أشخاص فقدوا عزيزا عليهم يستخدمون روبوتات الدردشة نُشر في أبريل أن تطبيقات الحزن الرقمية قد تنطوي على فائدة خصوصـا عندما كانت الوفاة غير متوقعة أو أعقبت أسفـا أو غضبـا في النفس، وترى الدراسة أن هذه الروبوتات يمكن أن تخفف من الغضب أو الأسى النابع من النهاية المفاجئة للعلاقة مع الأحباء.

بالنظر إلى ما سبق أستنتج أن الخطر العاطفي المترتب على الارتباط بروبوت أمي متدن جدا، وقد مر وقت طويل على وفاتها حتى غدا التواصل معها عبر شخصيتها الرقمية بمثابة بلسم لآلام الحزن المفاجئة، بدل أن يكون مثيرا للألم. وشخصيـا تجاوزتُ مرحلة تقبــل وفاتها وخفـت وطأة حزني عليها، وسكنت لوزتي الدماغية (الأمِجدلا)؛ فما الضرر الذي يمكن أن تسببه محادثة مع خوارزمية رقمية؟

جلسة رقمية لتحضير الأرواح

ليس لديّ تسجيل مرئي لأمي لإدخالها في تطبيق (StoryFile)، لذلك قررت أن أجرب بعض المحادثات النصية القصيرة عبر موقع (Séance AI)، فقراءة كلماتها أو ما يقرب منها يُشعرني أيضـا بالأمان العاطفي أكثر من رؤيتها. تحفزني صفحة الموقع -وهي صفحة منظمة غير منفرة لمن لا يحبون التقنيات الحديثة- على إدخال معلومات أساسية عمن أود «الوصول» إليه كاسمه وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته وسبب الوفاة وديانته. ويا للمفاجأة؛ فقد كادت دموعي تنهمر لمجرد استحضار سبب وفاتها وهو مرض سرطان الثدي المستشري والالتهاب الرئوي.

ثم يطلب مني الموقع تحديد سمة شخصية أمي فأصنفها بين الحيوية والاحتكام إلى العاطفة، ثم يطلب مني رفده بنموذج قصير مما كتـبَـتْ، فاستخدمتُ بريدا إلكترونيـا تحدثني فيه عن أبناء إخوتي. أخيرا حددت للموقع مزاجي في تلك اللحظة والموضوع الذي أود أن أطرحه على أمي، وهنا قلت ببساطة: أريد أن أحدثها عن حياتي في البرتغال التي انتقلت إليها مؤخرا بعد مغادرتي الولايات المتحدة، وأود كذلك أن أبوح لها بشوقي إليها.

تظهر صورة متحركة لشمعة كُتب بجانبها: «محاولة الاتصال بالجانب الآخر»، ثم ما يلبث أن يرد علي الطيف الرقمي لأمي: «آه يا عزيزتي، وأنا كذلك اشتقت إليك»، حارقـا الحجاب من الوهلة الأولى، ففي الحقيقة لم يسبق لي أن سمعت أمي تنطق هذه الكلمات «آه يا عزيزتي» في حياتها أبدا. بعدها أشادت أمي الروبوتية بالمعجنات البرتغالية ثم عرجت للحديث حول أمور غير مألوفة كأن تقول: «أنا قريبة منك بروحي أستمتع بغروب الشمس وأمواج المحيط».

ومع ذلك أنزل علي هذا البديل -مع أني لم أقتنع به- سكينة لم أتوقعها. تسألني أمي الروبوتية: «هذه الحياة تمضي قدمـا بنحو أو بآخر... أليس كذلك؟»، ثم تضيف: «إنه أمر شاق لكنه ضروري. واصلي حياتك وواصلي الاستكشاف من أجلنا كلينا؛ موافقة؟» هذه العبارات -رغم تناقضها- تذكرني ألفاظها المحفزة بأمي وعشقها للمغامرات، ومساندتها لي متى ما شرعت بنفسي في مغامرة. خلاصة القول إن جلستي «لتحضير الأرواح» لم تصلني بأمي حقـا لكنها ذكرتني بضرورة الاحتفاظ بصورها.

خرجت من تجربتي مع هذه التطبيقات المتعلقة بالحزن دون أن يحلقني أن ضرر نفسي من قريب أو بعيد، ولم أرتم في حفرة من الحزن الشديد، ولكن يبقى أن أي علاقة أخرى أو أي دماغ مختلف بنحو غير مألوف يمكن أن يشطح إلى ما هو أسوأ.

ولو شئتُ لتعمقت أكثر في دهاليز العالم الرقمي ومجاهيله، فبحوزتي تسجيلات صوتية وصور وكتابات لأمي وأبي، لكن أغلبها لم أجرؤ على العودة إليه بعد. وعمومـا، في المستقبل القريب قد تتمكن التقنيات التوليدية المبنية على الذكاء الاصطناعي من الجمع بين هذه البصمات الرقمية بنحو يجعلها أكثر إقناعـا من التطبيقات الحالية المتعلقة بالحزن. وعلى العكس من الإجابات الجاهزة التي يطرحها تطبيق (StoryFile Life) قد يتمكن الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يؤلف بين وسائط مختلفة من تشكيل خطر أشد للعمليات الطبيعية التي ترافق الحزن على المتوفى على حد رأي لينيا ليستاديوس، باحثة الصحة العامة في جامعة ويسكونسن ميلووكي. وتقول: «إن الناس سيكون بوسعهم أن يطلبوا أي شيء، والشركات [المطورة لهذه التطبيقات] لا تكاد تأبه بمخاطر ذلك».

أخيرا، وبعد أن خضت تجربة استكشاف علاقتي مع أمي بعد وفاتها من خلال روبوت رقمي أدركت أنني مكتفية بالصور القديمة حتى وإن بدا ذلك من مخلفات العصر الفيكتوري. ومهما اشتد على النفس تقبل الموت فإنه يظل جزءا من سيرورة الحياة، والتظاهر بعكس ذلك لا يجلب للمرء أي راحة. وإن استطاع الذكاء الاصطناعي أن يكون لي نسخة رقمية مقنعة من أمي لأطفأت الجهاز بلا تردد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی روبوتات الدردشة هذه التطبیقات الحزن على من الحزن یمکن أن على حد

إقرأ أيضاً:

مختصون: حماية الطفل في البيئة الرقمية مسؤولية تكاملية بين الأسرة والمدرسة

أوضح مختصون أن حماية الطفل في البيئة الرقمية مسؤولية تبدأ من الأسرة، وتتكامل مع المدرسة، وترتكز على وعي نفسي وتربوي عميق، وتؤكد رؤى هؤلاء المختصين في استطلاع أجرته "عُمان" أن الحل لا يكمن في المنع أو التدخل المتأخر، بل يبدأ من بناء علاقة قائمة على الثقة والتواصل، وتطوير مهارات الطفل والأسرة معًا لمواجهة عالم تتقاطع فيه الفرص مع المخاطر.

المحتوى العنيف

قالت فهيمة السعيدية عضوة جمعية الاجتماعيين العمانية: إن الاستخدام الواسع للتقنيات الرقمية دون تنظيم أو وعي يفرض تحديات مباشرة على سلوكيات الأطفال، خصوصًا عند تعرضهم المتكرر لمحتوى عنيف أو متطرف، مشيرة إلى أن هذا النوع من المحتوى ينعكس بوضوح على النمو الاجتماعي والنفسي والأخلاقي؛ إذ يتولد لدى الطفل ميل أكبر لاستخدام العنف اللفظي أو الجسدي في التعامل مع الآخرين باعتباره وسيلة لحل الخلافات أو التعبير عن الغضب.

وبيّنت أن مشاهدة الأطفال المستمرة للمحتوى العنيف تؤدي إلى ارتفاع مظاهر التنمر بأشكاله المختلفة، وإلى تراجع السلوكيات الاجتماعية الإيجابية مثل التعاون والمساعدة والتعاطف، وتنمية النزعات العدائية لديهم؛ حيث إن بعض الأطفال قد يتأثرون بالأفكار المتطرفة التي تظهر في بعض المنصات الرقمية، مما ينعكس على شعور الانتماء الوطني والديني، ويزيد من احتمالية الانخراط في سلوكيات غير مسؤولة أو مهددة للسلامة.

وحول تعرض الأطفال لتنمر إلكتروني، أوضحت السعيدية أنه يمكن رصد ذلك من خلال مجموعة من العلامات النفسية والسلوكية، من بينها القلق المفاجئ، والخوف عند تلقي رسائل على الهاتف، أو إظهار توتر ملحوظ عند اقتراب أحد أفراد الأسرة من الجهاز، وبيّنت أن بعض الأطفال يميلون إلى العزلة والانسحاب الاجتماعي، وقد تظهر عليهم أعراض جسدية كالإرهاق المستمر، وفقدان الشهية، أو آلام البطن والصداع دون سبب طبي واضح. كما أكدت أن التراجع المفاجئ في المستوى الدراسي يعد من المؤشرات المهمة، إذ يلجأ بعض الأطفال إلى التغيب عن المدرسة أو إهمال الواجبات الدراسية بسبب الضغط النفسي الذي يرافق تجربة التنمر الرقمي.

علاقة حوارية

وأشارت إلى أن الأسرة قادرة على بناء علاقة حوارية داعمة من خلال تبنّي أسلوب تواصل إيجابي يتيح للطفل التحدث بأريحية عن تجاربه في الإنترنت، وبيّنت أن مشاركة الوالدين لخبراتهم الرقمية، أو مناقشة المحتوى الذي يفضله الطفل، يعزز ثقته ويجعله يعتبر الأسرة خط الدفاع الأول في حال تعرضه لأي مشكلة، وأن الأنشطة الرقمية المشتركة مثل لعب ألعاب يحبها الطفل أو تصفح مواقع يفضلها تخلق مساحة آمنة للحوار، مضيفة إن إشراك الطفل في وضع قواعد الاستخدام الآمن للأجهزة يرسخ لديه الشعور بالمسؤولية ويقوي العلاقة التواصلية داخل الأسرة.

علامات الخطر الرقمية

أوضح الدكتور سالم بن راشد البوصافي مشرف إرشاد نفسي بتعليمية مسقط أن المدرسة تشكل خط حماية مهمًا بجانب الأسرة، إذ تتعامل مع حالات المحتوى غير الآمن أو التنمر الإلكتروني وفق منهجين متكاملين: الوقائي والعلاجي، مبيّنًا أن المنهج الوقائي يقوم على نشر ثقافة الوعي الرقمي بين الطلبة من خلال الحصص التوجيهية والبرامج الإرشادية والإذاعة المدرسية، بهدف ترسيخ قيم الاحترام والمسؤولية في التفاعل الإلكتروني، وتشجيع الطلبة على الإبلاغ عن أي تجربة ضارة.

وأشار إلى أن المنهج العلاجي يُفعّل فور رصد حالة تنمر، حيث يتم تقييم الوضع من حيث الخطورة النفسية والاجتماعية، وأن الأخصائي النفسي والاجتماعي في المدرسة يقدم الدعم العلاجي للطالب المتعرض للتنمر، من خلال الجلسات الإرشادية الفردية التي تسهم في تعزيز الشعور بالأمان واستعادة التوازن الانفعالي.

وبيّن البوصافي أن الطالب المتسبب في التنمر يخضع لبرامج تهدف إلى تعديل السلوك وتعزيز القدرة على ضبط الذات والانفعالات، إلى جانب رفع وعيه الرقمي وتأكيد احترامه لحقوق الآخرين، كما أن التعاون بين الأسرة والمدرسة يمثل ركيزة أساسية لضمان بيئة رقمية آمنة للطفل، وأن المتابعة المستمرة من الطرفين تعد أحد أهم ضمانات الحماية.

دور الإرشاد الأسري

تشير ابتسام الحبسية أخصائية نفسية بوزارة التنمية الاجتماعية إلى أن التغيرات التي فرضتها الثورة الرقمية دفعت الأسر لمواجهة تحديات غير مسبوقة، حيث لم يعد التعامل مع التكنولوجيا مقتصرًا على المنع أو الرقابة، بل أصبح ضروريًا أن تمتلك الأسرة فهمًا عميقًا لسلوك الطفل في العالم الرقمي، موضحة أن البرامج الإرشادية الحديثة في سلطنة عُمان باتت تركز على التنشئة الرقمية الواعية، وذلك ضمن مبادرة شملت جميع محافظات سلطنة عُمان بهدف تعزيز مهارات الوالدين في التعامل مع البيئة الرقمية.

وأوضحت الحبسية أن ردود فعل الوالدين تجاه سلوك الأبناء الرقمي غالبًا ما تكون نابعة من قلق طبيعي، لذلك يجب أن يتم تدريبهم على تقنيات تساعدهم على التهدئة وإعادة تأطير الموقف قبل معالجة سلوك الطفل، مؤكدة أن هذه المهارات تعزز وجود بيئة أسرية هادئة تقل فيها الصدامات الناتجة عن الغضب أو سوء الفهم.

وبيّنت أن تمكين الأسرة من التفكير التحليلي خلال التعامل مع المحتوى يعد أحد أقوى أدوات الحماية؛ إذ يساعد الوالدين والأبناء على التمييز بين الموثوق والمضلل، ويجب على الأسرة أن تُدرَّب على طرح أسئلة عند مشاهدة أي محتوى، من بينها: هل هذا المصدر موثوق؟ ما هدف الرسالة؟ هل ما يُعرض حقيقي أم مبالغ فيه؟ حيث إن هذه القدرة الذهنية ستسهم في حماية الجميع من الوقوع في التضليل أو الخوف المبالغ فيه.

التواصل الآمن

أوضحت الحبسية أن الأسرة تحتاج إلى قراءة "الإشارات الحمراء" التي قد تدل على تعرض الطفل لمحتوى ضار، لكن الأهم هو توفير قناة تواصل يشعر فيها الطفل بأنه مسموع وآمن، وبيّنت أن أسلوب الحديث هو العامل الفارق، فطرح الأسئلة بلهجة اتهامية يغلق أبواب الحوار، بينما الأسلوب الهادئ يبعث الطمأنينة ويشجع الطفل على الإفصاح.

وأشارت إلى أن التواصل الآمن يُبنى عبر تفاصيل صغيرة لكنها مؤثرة، مثل مشاركة الطفل محتوى يحبه، أو فتح نقاش حول لعبة جديدة، أو المرافقة الهادئة عند ملاحظة سلوك غير معتاد، مؤكدة أن بناء علاقة تقوم على الثقة يبدأ بالحضور العاطفي، بمعنى أن يشعر الطفل بأن والديه قريبان من عالمه الرقمي دون أن يمارسا دور الرقيب الصارم، وبيّنت أن مشاركته في وضع قواعد رقمية مشتركة مثل تحديد أوقات الاستخدام أو مراجعة التطبيقات يجعله شريكًا في القرار، مما يقلل من التوتر والتمرد.

كما أشارت إلى أن لحظة تعرض الطفل لموقف مزعج تعد اختبارًا حقيقيًا للعلاقة، إذ تمثل ردة فعل الوالدين العنصر الحاسم فيما إذا كان الطفل سيحكي أو سيخفي الأمر، وأكدت أن استخدام عبارات مثل "أشكرك على صراحتك" أو "دعنا نتحدث معًا عن كيفية منع تكرار ذلك" كفيل بطمأنة الطفل وتعزيز ثقته.

وبيّنت ابتسام الحبسية أن بناء علاقة تواصل آمنة ليست خطوة واحدة، بل هي ممارسات يومية تتشكل من نبرة لطيفة، وسؤال بسيط، وقواعد واضحة، لتقول للطفل في كل مرة كلمات بمعنى: "أنت محبوب حتى إذا أخطأت".

مقالات مشابهة

  • تحول رقمي أم "توطين" للبيروقراطية؟!
  • علاج مقدمات السكري يحمي القلب وينقذ الأرواح
  • الإكمو ECMO المصري مشروع وطني لإنقاذ الأرواح وتوطين التكنولوجيا الطبية المتقدمة... حصري
  • "أبشر" تستعرض أبرز تقنياتها الحديثة وحلولها الرقمية المبتكرة
  • منظمة الصحة تطلق مكتبة تضم 1.6 مليون كتاب رقمي في الطب التقليدي
  • انهيار منزل بالطوب الأخضر يودي بحياة أم وطفليها وإصابة اثنين آخرين جنوب الاقصر
  • السلامي بعد عبور العراق: تأهل بطعم الحزن.. وإصابة يزن النعيمات تخيم على أفراح الأردن
  • البام يرفض الإستغلال السياسوي لفاجعة فاس
  • مختصون: حماية الطفل في البيئة الرقمية مسؤولية تكاملية بين الأسرة والمدرسة
  • للحوامل.. مشروب النعناع يخفف الغثيان ويحسن الهضم