خط حاسوبي مُستلهم من إرث ثقافي عُماني قديم
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
في تجربة مغايرة تعد الأولى من نوعها في عُمان -بعد محاولات فردية لم يكتب لها الشيوع- تمكن فريق عمل متخصص من ابتكار خط حاسوبي مُستلهم من الإرث الثقافي العُماني، وقد نشرت مجلة «نزوى» تفاصيل هذه التجربة في كتاب حمل عنوان: «هوية الخط النسخي العُماني»، وهو دراسة تشريحية لسمات الخط في المخطوطات العُمانية القديمة، وتعد هذه الدراسة الأولى من نوعها في هذا المجال وذلك «نظرا لخُلُوّ الأدبيات العمانية -قديما وحديثا- من محاولات تقعيد النِسَب القياسية للحروف النسخية العُمانية، ولذا فهذه الدراسة تمثل أول محاولة تشريحية للحروف العمانية، جماليًا، وتركيبيًّا».
التَجَذُّرِ في تربة الذاكرة الخطيّة
عندما توجهنا بسؤالنا حول الدوافع الأولى المُحرضة للمغامرة اللافتة التي قاموا بخوضها من أجل ابتكار خط حاسوبي مُستلهم من الإرث الثقافي العُماني، عبر نقل الخط من المخطوطات والوثائق القديمة إلى نمط حداثي يقترب من لغة العصر -في زمن الرقمنة- قدّم لنا سلمان الحجري ثلاثة دوافع مُحفزة للقيام بها، تمثل أولها في المحافظة على التراث الثقافي العُماني، حيثُ يُعد الخط العربي جزءا مهما من التراث الثقافي، فقد ساهم في تشكيل الهوية الثقافية العُمانية لقرون طويلة. ولذلك، فإن ابتكار خط حاسوبي كان فرصة مهمة للحفاظ عليه من جهة، ولإتاحته للجيل القادم من جهة أخرى. الأمر الثاني تمثل في كون الخط النسخي العُماني من أقدم أنواع الخط العربي في عُمان، فقد تميز بخصائص جمالية وفنية فريدة، ولذلك، فإن ابتكار خط حاسوبي مستوحى منه يُعد خطوة مهمة للتعريف به وإبراز جمالياته للعالم. ورأى الحجري أنّ السبب الثالث تمثل في تلبية متطلبات العصر الرقمي، ففي عصر الرقمنة، أصبح استخدام الخطوط الحاسوبية أمرا أساسيا في مختلف المجالات، بما في ذلك الطباعة والنشر والإعلام الرقمي.
ورأى سالم المنظري أنّ المخطوطات العُمانية تمثلُ إرثا ماديا ذا قيمة ثقافية عالية للخط العربي لاحتوائها على رسم مبتكر فريد لعدد من محارف اللغة العربية. فيكاد المطالع لمخطوط عُماني من الوهلة الأولى أن يتعرف على هوية المخطوط إن كان عُمانيا أو غير ذلك؛ وذلك لتشارك المخطوطات العُمانية في عدد من السمات الفنية في الرسم. وقد جرت محاولات فردية سابقا لصناعة خط طباعي مستوحى من رسم المخطوطات العُمانية، إلا أنّه لم يكتب لهذه المحاولات الشيوع. ولذلك فقد أخذت شركة «إتكو» العُمانية على عاتقها مهمة خوض هذه المغامرة ومواجهة تحدياتها المتمثلة في عدم ضمان جودة المنتج النهائي للخط لتباين أشكال الرسم عند النساخ العُمانيين في أحيان كثيرة نظرا للاختلاف الزمني بينهم أو اختلاف الموقع الجغرافي أو غير ذلك.
وقد أكد ياسر منجي على أنّ المشروع قد تأسس على خصيصة فريدة من خصائص التراث الخطي العُماني، ألا وهي خصيصة تفَرُّد نمط الخط النسخي فيه بزُمرة من السِمات الشكلية والأسلوبية، التي تميّزه عما عداه من أنماطٍ نَسخيّة أخرى قد نجدها في سائر الأقطار -وهو ما استَوفَت الدراسة المنشورة في الكتاب شرحه بتَوَسُّعٍ يضيق عنه هذا المقام، ويضاف إلى هذه الزُمرة من السِمات تمَتُّع هذا النمط الخطي بمكانة خاصة في عُمان على مدىً زمنيٍ واسع، لما يتسم به من مقروئيةٍ صريحة، وبساطةٍ في التركيب، تتفق وتتوافق مع صراحة الفطرة التي جُبِلَ عليها العُمانيون، ومع البساطة والتلقائية التي آثروها على امتداد تاريخهم فأُثِرَت عنهم، ونظرًا كذلك لظَفَر الخط النسخي بالنصيب الأوفى من عمق التَجَذُّرِ في تربة الذاكرة الخطيّة العُمانية، بما يُكَرِّسه كمصدرٍ أصيلٍ ورئيسٍ لأية محاولةٍ تروم استنباط تنويعاتٍ معاصرةٍ، تستمد شرعيتها من الهوية الخطية العُمانية الفريدة.
تضافُر جهود وخبراتٍ شتى
«انبثقت جذور الفكرة الأولى للمشروع في مرحلة البحث والتطوير لعدد من مشاريع شركة «إتكو» إبان انطلاقتها في سبتمبر 2020، ولعل الباعث الرئيس للمشروع تجلى في أهداف الشركة التي تسعى لتقديم حلول رقمية تخدم اللغة والثقافة العربية في شكل تطبيقات أو خدمات إلكترونية، وصناعة الخطوط الطباعية تقع في هذا الإطار»، هكذا حدّثنا المنظري عندما تساءلنا عن منشأ الفكرة. فلقد تمّ العمل بشكل تكاملي لبناء خطط العمل العامة والفرعية لمراحل المشروع.
المؤكد أنّ هذا النوع من الدراسات تطلب تآلف علوم مختلفة من أجل تقديم بحث رصين، كما أشار الكتاب لذلك: علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والاقتصادية، بمختلف فروعها، وضرورة توفر المتخصصين في الدراسات المذهبيّة، ودراسات المسح الديموغرافي وفروع الأنثروبولوجيا، وغيرها من المجالات لاستقاء مادة علمية رصينة، وكان سؤالنا: كيف يمكن لهذه العلوم المتفرقة أن يجمعها مشروع ومظلة واحدة؟ وحول هذا أجابنا منجي قائلا: يمكن جمعُها ببساطة من خلال ما يُعرَف بالأبحاث البَينِيّة Interdisciplinary Researchs والتي يمكن من خلال منهَجيّاتها وأدواتها البحثية الخاصة -والتي باتت تشهد رواجًا واسعًا في الدوائر الأكاديمية العربية حاليًا- أن تتيح تضافُر جهود وخبراتٍ من مجالات شتى، يَرفِدُ كلٌّ منها الآخر، ويضيف إليه ما يسُدّ الثغرات الناجمة عن إجراء البحوث من زوايا مُوغِلة في التخصص الدقيق.
وأضاف قائلا: وقف وراء تنفيذ هذا المشروع عدد كبير من المشاركين من باحثين وخطاطين ومصممين ومبرمجين، بالإضافة إلى الدعم الرئيسي المقدم من الفريق التجاري للشركة التي تعمل على تسهيل تنفيذ المشروع. «لم يكن من بد أن تتبنى مؤسسة عُمانية هذا المشروع وذلك لارتباطه بالهُوية العُمانية، وللجدوى الثقافية والاقتصادية المتوقعة منه. وقد استغرق المشروع قرابة العام والنصف بدءا من سبتمبر 2020» هذا ما قاله المنظري عند سؤالنا عن تبني المشروع، وأكد سلمان الحجري أنّ جهودا كبيرة بذلت في سبيل إتمامه.
انتخاب قائمة المخطوطات المختارة
أخذنا الفضول للسؤال حول المخطوطات التي تمّ الاستناد إليها؟ وإلى أي زمن يعود أقدمها؟ وما هي المواضيع التي دارت حولها؟ وهل كانت كافية لاستنباط الخط الذي طمحوا إليه، فأجابنا ياسر منجي: «تنوعت مصادر الدراسة؛ إذ لم تعتمد على مرجعية المخطوطات فَحَسب، بل اعتمدت كذلك على عدد كبير من المصادر والمراجع المتخصصة، التي تم إثباتُها في قائمة المصادر الأساسية للدراسة؛ وذلك لضمان شمولية المرجعية، وعدم اقتصارها على مصدرٍ أُحاديّ، وكذلك نظرًا لطبيعة البحث نفسه، التي تجمع بين تخصصات بَينِيَّة شتى؛ إذ تجمع بين مجال الخط العربي، ومجال دراسات النقوش والمخطوطات بصفة عامة، ومجال التصميم، ومجال التحليل الشكلي (المورفولوجي) لِبِنية الحَرف نفسه؛ لذا كان من المهم جدًا الاستهداء بجهود المُبَرِّزين من الباحثين، الذين كان لهم فضل الريادة في دراسة تطور أقلام الخط العربي وتاريخها، ونظريات ظهورها وتَفَرعها، وهو ما حدا بنا لإجراء مقارنات بين نتائج تلك الدراسات، وبخاصة فيما يتعلق بالنقوش العربية القديمة، وعلاقة بعض الخصائص الشكلية لنصوصها بخصائص مُناظِرة في عدد من المخطوطات العُمانية».
وتابع منجي قائلا: «أما على الجانب الوثائقي، فقد كان من بين المصادر المهمة التي مثلت سبيلًا هاديًا للدراسة: «فهرس المخطوطات»، الصادر بسلطنة عُمان عن وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا)، (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليًا)، بالتعاون بين دائرة المخطوطات بوزارة التراث والثقافة (سابقا) (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليا) وجامعة السلطان قابوس. ويوثق هذا الفهرس لمخطوطات عُمانية تتناول في مادتها مختلف فنون العلم والمعرفة، وتمثل نتاج الفكر العُماني وازدهاره، والتراث المعرفي الذي عاشته البلاد على امتداد عهودها. واسترشادًا بفهرس المخطوطات العُمانية سالف الذكر، تم انتخاب قائمة من مختارات المخطوطات العُمانية -تم ذكرُها تفصيلًا في خاتمة الكتاب- تغطي موضوعات ومجالات معرفية وأدبية وعلمية واسعة، رأى الفريق البحثي أنّها تمثل مصادر قياسية، يمكن من خلالها لأي باحث استخلاص طائفة من السمات والخصائص، الشكلية، والفنية، والأسلوبية، المُمَيّزة لهُوية النُسّاخ العُمانيين. كذلك فقد استُعين بعدد من المصادر والدراسات، التي اشتملت على صور مخطوطات عُمانية مهمة وشهيرة، لإجراء التحليل والمقارنات على المحتويات النَصّيّة لتلك الصور، وقد تم إيراد نماذج لأهم هذه الصور في الكتاب، مع الإشارة لمصادرها بالتفصيل. وأضاف قائلا: «لا يمكن إغفال خبرات الخطاطين المشاركين في المشروع، والمضطلعين بمهمة رسم المحارف، الذين أضافوا اجتهادات قَيّمة في سياق استخلاص عددٍ من السمات الشكلية للحرف النسخي العُماني - وقد تمت الإشارة لذلك في بعض جداول الكتاب - بالإضافة للاستهداء بمجموعة النتائج والمؤشرات القائمة على المقارنات التاريخية التي أفضَت إليها هذه الدراسة».
المثاقفة والانصهار الحضاري
لكن كيف يمكن الجزم بأنّه خط عُماني وثمّة نسيج عام يُؤالف بين الخطوط العربية ويسمها بسمات عامّة؟ هكذا طرحنا السؤال فأجابنا منجي قائلا: هذا صحيح، لا سيما في ظل التثاقُف والتفاعل الحضاري، بين مختلف الأعراق والثقافات التي انصهرت في نسيج المجتمع الإسلامي على مَرّ القرون. من جانبٍ آخر، فمن الشواهد التي يصعب إغفالُها، والتي عَضَّدَتها نتائج التحليل والمقارنات بين عدد من المصادر الواردة تفصيلًا في الكتاب، اصطباغ الخط النسخي داخل عُمان بصبغة مميزة، تختلف عن صبغته الأصلية القياسية، الشائعة في بقية الأقطار العربية، والسائرة على نهج القياسات المعيارية التي قَعّدها له أقطاب الخط العربي عبر العصور.
وقد ظهر من النتائج التي خلصت إليها الدراسة، والتي تم تفصيلها في 22 نتيجة في خاتمة الدراسة، أن العديد من السمات الشكلية والأسلوبية الخطية النَسخية تكاد تكون مجموعةً حصرًا في المخطوطات العُمانية، بل وفي أساليب عدد كبير من الخطاطين العُمانيين المعاصرين، وهو ما ظهر كذلك في نتائج أعمال الخطاطين العُمانيين المشاركين في التنفيذ.
ومما يؤكد خلاصة هذه النتائج أن المصادر الخطية، في المخطوطات والصور المُستَشهَد بها في الكتاب، كلها مصادر عُمانية. وفي هذا السياق لا يجب أن نغفِل الجهد المحمود، في المراجعة والتدقيق الوثائقي – لكلٍ من الدراسة وقائمة المخطوطات المختارة - الذي قام به كلٌ من الباحث العُماني الأستاذ «وليد النبهاني»، منسق تحرير الموسوعة العُمانية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، وكذلك الباحث العُماني الأستاذ «سلطان الشيباني»، المتخصص في التراث العُماني المخطوط، الذي تولى المراجعة التراثية للدراسة.
السمات الشكليّة والتكوينية والجمالية
وعن السمات الشكليّة والتكوينية والجمالية التي ميزت المخطوط العُماني عن غيره، أجابنا منجي: عدم الحُفول كثيرًا بالتقيُّد بقاعدة «التفريق» (التفريق من مصطلحات الخط العربي، وتكمُن أهميته في حفظ الحروف من مزاحمة بعضها بعضا، وملامسة أول منها للآخر ليكون كل حرف منها مفارقًا للحرف المجاور له). من هنا أيضا يكون الخط العُماني من الخطوط التي يغلب عليها الإطلاق دون التحقيق، (والخطُّ المُطلق هو الذي تداخلت حروفه واتصل بعضها ببعض). (أما الخط «المحقق» فهو ما صحت أشكاله وحروفه على اعتبار أنها مفردة وعلى نسبة فاضلة مع تجنب تزاحم الحروف). من الظواهر التي رصدتها الدراسة أيضًا ظاهرة الجمع بين إثبات الهمزة وإغفالها في المخطوطات العمانية، وكذلك الاستعاضة عن همزة المَدّ بشكل الهمزة العادية. يشترك الخط العُماني كذلك -ولاسيّما في مخطوطات المصاحف- مع نقوش الخط المكي في خاصية «البسط» (وهو الامتداد الأفقي للحروف ويعنى مد أجزاء الحروف الأفقية، مثل بسط الياء والسين والصاد والكاف). تلك فقط أربع سمات تمثل إشارات لما تم حصرُه في النتائج التي أوفَت على العشرين كما ذُكِرَ قبلًا.
مخطوط يعود للقرن الثامن الهجري
المنبع الذي تمّ الاتكاء عليه في الكتاب هو «المخطوطات» وذلك لما تتمتعُ به من موثوقية، ولما تختزنُ مادتها التطورات التاريخية والثقافية والفنية التي مرّت بها الكتابة وأساليبها.. الأمر الذي دفعنا للسؤال إلى أي مدى ساعد فحص المخطوطات على المضي قُدما في صنع منهجية الدراسة والانفتاح على قراءات متعددة للوصول إلى نتائج حقيقية، فأجابنا الحجري: «كان من الضروري إجراء دراسة علمية حول هذا الخط، تتناول كافة جوانبه التاريخية والثقافية والفنية. وقد تم إجراء هذه الدراسة من قبل فريق من الباحثين العُمانيين، الذين اعتمدوا في دراستهم على مجموعة من المخطوطات العُمانية القديمة وعلى منهجية علمية شاملة، تضمنت الخطوات التالية: التعريف بالخط العربي العُماني: تناول الباحثون في البداية تعريف الخط العربي العُماني، ونشأته، وتطوره، وخصائصه الفنية. دراسة المخطوطات العُمانية: قام الباحثون بدراسة مجموعة من المخطوطات العُمانية القديمة، التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة، من القرن الثامن الهجري وحتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري. تحليل سمات الخط العربي العُماني: قام الباحثون بتحليل سمات الخط العربي العُماني، من حيث الشكل والتكوين والنسب والجماليات.
يستبطن الذات ويغوص في أعماقها
ظفر الخط النسخي بالنصيب الأوفى في المخطوطات العُمانية، وهنالك إشارات واضحة لتفَرُّد الخط النسخيِّ من بين سائر الخطوط العُمانية، لما يتسم به من مقروئيةٍ صريحة، وبساطةٍ في التركيب، وعليه تساءلنا : كيف تمكنتم من نقل هذه السمات إلى الخط الحاسوبي، فأجابنا الحجري: «تم ذلك بعد الاستعانة بمجموعة من الخطاطين المبدعين في الخط النسخي العُماني ممن يتقنون كتابة خط النسخ، بطريقة معتمدة على تقعيد الخط، ومنعكسا ذلك على ما تم الوصول له في مرحلة الجمع والتحليل، ومن ثم الاستفادة منها في ابتكار محارف عُمانية مميزة لها سمات الخطوط الكتابية العُمانية في المخطوطات». وأضاف المنظري قائلا: «تبع ذلك مرحلة رسم المحارف على برامج حاسوبية بالاعتماد على خبرات مصممين مبدعين لديهم اهتمام بالخط العربي، وبإشراف خبراء دوليين في صناعة الخطوط العربية. ولم تقف شخصية خط عُمان عند الخط العربي، بل شمل المشروع كذلك صناعة خط لاتيني منطلق من هوية الخط العربي؛ ولذا فإن خط عمان يدعم الكتابة بعدد من اللغات التي تعتمد الأبجدية العربية مثل الفارسية والأوردو، بجانب تلك التي تعتمد الأبجدية اللاتينية مثل اللغات الأوروبية. فكان أن طرحتُ سؤالا حول إمكانية وجود علاقة بين الخط والإنسان، فثمّة إشارة صريحة في الكتاب إلى أنّ بساطة الخط قد لا تنفصل عن الفطرة التي جُبِلَ عليها العمانيون، فأجاب منجي: «دون شك، فالخط العربي من مجالات الفنون التي تلعب فيها التركيبة الشخصية والنفسية لكل خطاط دورًا فارقًا في وَسمِ مُنتَجِه الخطي بسِماتٍ فارقة، فضلًا عن كونه من الفنون التي تقترِن فيها الممارسة الفنية بالتجربة الوجدانية اقترانًا وثيقًا، وهو أمرٌ يعلمه الخطاطون الراسخون جيدًا. فالخطاط في أثناء عمله يكاد يختبر حالةً من استبطان الذات والغوص في أعماقها. من هنا كانت إمكانية ظهور العلاقة بين التكوين الذاتي والاجتماعي للفنان الخطاط في أسلوبه» وأردف قائلا: « لقد استَوفى بحث تجَلّيات هذا النوع من الخبرات الوجدانية/ الفنية عددٌ كبير من ثقاة الباحثين الشرقيين والغربيين؛ أكتفي منهم بالفنان والباحث العراقي الراسخ الشهير «شاكر حسن آل سعيد» (1925 - 2004)، في أكثر من مؤَلَّف من مؤلَّفاته، وكذلك في دراسات مهمة للفنان والأكاديمي المصري الراحل «أحمد ماهر رائف» (1926 - 1999).
الخطوط في صيرورة التطور
من الواضح أنّ فريق العمل قد تتبع هوية الخط العُماني في ضوء المراحل التاريخية لتطور أقلام الخط العربي، ولذا فإنّ أول ما خطر بذهننا هو التساؤل حول هذا الخط إن كان متطورا أم جامدا، وأيضا حول إن كانت هنالك أسباب مؤثرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تركت بصمتها عليه، وحول هذا حدثنا منجي قائلا: «الخطوط العربية، بصفةٍ عامة، من أكثر الخطوط تطورًا عبر التاريخ، وتشهد بذلك كافة التنويعات والأنماط والأساليب المبتكرة، التي تَوالى ظهورها على امتداد التاريخ العربي، من أقدم عهوده وحتى الآن». وأضاف: «في تقديري أن أي تطورٍ فني - لا في مجال الخط فحَسب، بل وفي سائر الفنون على اختلافها واتساع مجالاتها - لا ينفَصِم عن المؤثرات التي تَموجُ بها الحواضر التي يطفُرُ فيها عبر التاريخ، ومنها الاقتصادية والسياسية كما أسلَفتُم. ومن المعلوم لدى مؤرخي الفنون ونُقّادها مدى عُمق أثر تلك المؤثرات على تطور مجالات الفنون وأساليبها ومدارسها وطُرُزها، وهو ما يفسر اشتمال دراسات تاريخ الفنون على مباحث مُسهِبة عن هذه المؤثرات».
عقبنا متسائلين: هل سيكون هذا الخط نهائيا أم أنه قابل للتعديل والتحسين بحسب ما تتيح المعارف الجديدة؟، فأجابنا الحجري: «التطوير والتحسين صيرورة الإنسان وجميع منتجاته الإبداعية لها نفس هذه الخاصية. إن التراكم المعرفي والانفجار المعلوماتي قد يفرض صيغا جديدة للتعاطي مع هذا الخط المبتكر، لذلك فإن عملية التطوير مستمرة بكل تأكيد».
انتخاب أشكال من عصور مختلفة
وعن الصعوبات التي كانت حجر عثرة أمام المشروع أجاب المنظري: « اكتنف العمل في المشروع تحديات كثيرة في جميع مراحله، ولكن بتوفيق الله ثم بالكفاءة العالية التي تحلى بها فريق العمل أمكن تجاوزها. ولعل من أصعب تلك التحديات هو التوافق على رأي واحد في عمل فني إبداعي كطبيعة هذا العمل. ولذلك فلم يكن السهل انتخاب أشكال حروف بعينها دون أشكال أخرى رغم وجود معايير ضابطة في الاختيار حددتها الدراسة العلمية، ولكن لكثرة الأشكال أحيانا لرسم الحرف الواحد وتقاربها الشديد يتشكل التحدي في اختيار الرسم الأنسب. ويتعلق بهذا التحدي تحدٍّ آخر لا يقل أهمية عنه وهو محاولة إيجاد انسجام وتوافق في رسم جميع المحارف في المنتج النهائي للخط إذا ما علمنا أن هذه المحارف استُلّت من كتابات خطاطين مختلفين وفي عصور زمنية مختلفة.
تخدم الاقتصاد والسياحة والثقافة
ولعلنا نتساءل: في عصرنا الحاضر تنشطُ آراء كثيرة حول ما يسمى باقتصاد الثقافة، ولذا تساءلنا حول تحول الثيمات الأساسية للخط من المخطوطات القديمة إلى انفتاح رقمي عصري، كيف يمكن أن تتجلى هذه الجهود في أبعاد اقتصادية، لا سيما وأنّ مشاريع من هذا النوع مُكلفة، أجابنا الحجري: «يمكن للخط العربي العُماني أن يُساهم في الاقتصاد العُماني من خلال عدّة أبعاد، منها: اعتماده
كخط أساسي أو ثانوي في المؤسسات الرسمية في سلطنة عمان باعتباره يمثل هوية عمانية خالصة، ويمكن استخدامه في التسويق والبيع، بحيث يمكن استخدام الخط العربي العُماني في الإعلانات والمطبوعات والمنتجات الأخرى، مما يجذب الزبائن ويزيد المبيعات، ويمكن أن يغدو نافعا في المواقع السياحية والتذكارات والمنتجات الأخرى، مما يروج لسلطنة عُمان ويجذب السياح، وكذلك هو الأمر مع التنمية الثقافية، في التعليم والتدريب والبرامج الثقافية الأخرى، مما يعزز الثقافة العمانية.
ويبدو الحجري متفائلا وهو يقول: من المؤكد أنّ مشاريع ابتكار خطوط حاسوبية تطلب استثمارات مالية كبيرة، لكنها يمكن أيضا أن تحقق مردودا اقتصاديا كبيرا من خلال القنوات التي ذكرتها سابقا. كما يمكن أن تساهم في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الهوية الثقافية العمانية.
توثيق الأساليب والحرية !
من بين الظواهر اللافتة التي رصدها الكتاب: ظاهرة عدم اهتمام النُسّاخ العُمانيين بتوثيق أساليبهم الشخصية، أو تَتَبُّع امتدادها واستمرارها التاريخي، وعندما تساءلنا عن الأسباب التي تكمن وراء ذلك، أكد منجي على صحة ذلك وأضاف قائلا: «من الملاحظ أيضا عدم شيوع الإجازات في التراث الخطي العُماني، وأعني الشهادات التي تُمنَح مكتوبةً من خطاطٍ راسخ القَدَم شهير، ليُجيزَ خطاطًا آخر مُجيدًا قطع أشواطا تؤهله ليُجازَ من أقطاب هذا الفن. وأضاف منجي قائلا: «في الحقيقة لاحظنا هذه الظاهرة فقط، لكننا لم نَخلُص بعد لسببٍ نطمئنُ له لتفسيرها. ومن هنا كانت التوصيات الختامية بإجراء مزيد من البحوث المستقبلية».
وتابع منجي قائلا: أشار الكتاب أيضا لواحدة من أهم سمات هوية الخط العُماني، وهي تلك القائمة على حرية النُسّاخ في تعديل الحروف، واستنباط أساليب شخصية منها، وعندما تساءلنا عن الدلالات العميقة لذلك، قدّر منجي أن تكون: «دلالة على صفة السماحة التي تطبع الشخصية العُمانية بطابعٍ عام، قِوامُه تَقَبُّل التنوع والاختلاف، واحترام تَعَدُّد الاجتهادات المشفوعة بالسعي للتحسين والإضافة والابتكار».
ثمّ طرحنا سؤالنا الأخير: فطالما أنّ خط عُمان يحمل هُوية عُمانية واضحة الملامح، فكيف يمكن أن يكون حاضرا في أشكال الاتصال الرسمي كالمراسلات والمنشورات الإعلانية والمواد المطبوعة؟ فأجابنا المنظري قائلا: استطاع المشروع بناء بنك موسّع لأشكال المحارف المستنبطة من المخطوطات العمانية، وسيكون هذا المخزون مفيدا لعمليات التحديث المستمر للخط وإطلاق نسخ جديدة منه مستقبلا. أما بالنسبة لاستخدام الخط، فبكل تأكيد، يمكن للمؤسسات الحكومية والخاصة الحصول على ترخيص لاستخدام الخط من شركة «إبانة» التي تقدمه في شكل محفظة متكاملة متوافقة مع الاستخدامات الرقمية والطباعية المختلفة، إذ يمكن استخدامه على برامج التحرير والتصميم، وعلى الحواسيب والتطبيقات والخوادم والويب، بطريقة تتوافق مع مختلف أنظمة التشغيل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الدراسة ة الع مانیة الع مانیین فی الکتاب ع مانی من هذا الخط کیف یمکن فی ع مان ع مانیة حول هذا یمکن أن کبیر من التی تم من خلال ر الخط وهو ما التی ت عدد من د الخط
إقرأ أيضاً:
الكاتب ديمتري ستريشنيف لـ«عمان»: الأدب العُماني يفاجئ القارئ الروسي .. والترجمة جسر لا غنى عنه
بين أحاديث جانبية مطوّلة، ولقاء إذاعي، ومحاضرة استمرت لساعتين ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب، بدا التعب واضحا على ملامحه، ومع ذلك لم يتخلّ الكاتب والباحث الروسي ديمتري ستريشنيف عن الحماسة في إجاباته المتدفقة خلال النقاشات التي تلَت محاضرته... ورغم شعوري بالحرج من إيقافه مجددا لإجراء هذا الحوار، احتراما لما بدا عليه من إرهاق، إلا أن الرجل، الذي يُعدّ من أبرز المتخصصين في الترجمة والأدب بين الروسية والعربية، تجاوب بأريحية، واتفقنا أن يكون الحوار في وقت لاحق، وكان. في هذا اللقاء، يفتح «ستريشنيف» نافذته الخاصة على التقاطعات الثقافية بين روسيا والعالم العربي، مستندا إلى إقامته الطويلة في الشرق العربي، ومعرفته الوثيقة بالمشهد الثقافي العماني، ويستعرض في حديثه محطات مهمة من شخصية الرحالة أفاناسي نيكيتين الذي وثّق أول حضور أوروبي مكتوب لمسقط في القرن الخامس عشر، إلى أعمال الملاح العماني أحمد بن ماجد، وصولا إلى الأثر الذي أحدثته رواية «سيدات القمر» في أوساط القرّاء الروس، وفتحها شهية الاكتشاف الأدبي لعُمان. كما يتوقف عند واقع الترجمة الأدبية ومعوّقات النشر، ويطرح رؤى واقعية لتعزيز جسور التعاون الثقافي بين روسيا وسلطنة عمان، مستندًا إلى تجربة شخصية ومعرفة متعمقة. ومن هذه النقاط، انطلق هذا الحوار لـ «عمان»...
*************************************************************************************************
بداية دكتور ستريشنيف، عرفّنا عن تأثير الأدب الروسي على فهم الغرب للشرق الأوسط. وهل عكست أو يمكن أن تعكس الروايات الروسية صورة دقيقة للواقع العربي؟
في عصر الأدب الروسي الكلاسيكي، أي في زمن بوشكين وتشيخوف ودوستويفسكي وغيرهم من العظماء، كان اهتمام الكتّاب الروس منصبًا بشكل أساسي على الشرق الذي كانت روسيا تستكشفه مباشرة: مثل القوقاز وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى البلدان الشرقية التي كانت لها بها علاقات مباشرة، كبلاد فارس والصين واليابان. وليس من قبيل المصادفة أن رواية ليف تولستوي الشهيرة «الحاج مراد»، التي تناولت موضوع الثوار الجبليين في القوقاز، ظهرت في تلك الفترة.
هذا لا يعني أن الروس لم يكونوا على دراية ببقية الشرق، مثل البلدان العربية والإفريقية، لكن المعرفة بها كانت تصل إلى القرّاء غالبًا من خلال مقالات وكتابات الرحالة، ومن بينهم أدباء وشعراء بارزون. وفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت الرحلات إلى الشرق شائعة بين الروس. ومنذ القرن الثاني عشر، بدأت تظهر نصوص تصف رحلات الحجاج الروس إلى المواقع المسيحية المقدسة في القدس، ويُعرف حتى الآن حوالي ثلاثين وصفًا من هذه الرحلات بين القرنين الثاني عشر والسابع عشر، وتم نشر أكثر من مائة منها في القرن الثامن عشر.
وبالمناسبة، إذا تحدثنا عن تأثير روسيا على الغرب عبر منشورات تتعلق بالشرق، فإن أكثر ما أثار الاهتمام كان بشكل مفاجئ نشر القرآن الكريم في سانت بطرسبورج عام 1787 بأمر من الإمبراطورة كاثرين الثانية، وقد تميز هذا الإصدار بخط رائع، ووزع في العديد من البلدان الأوروبية.
في تلك الفترة أيضًا، ظهرت عدة ترجمات للقرآن الكريم في روسيا، وهو ما يدل على تنامي الاهتمام بالشرق العربي. وقد تفاعل ألكسندر بوشكين، أعظم شعرائنا، مع هذا الاهتمام من خلال تأليفه سلسلة من تسع قصائد بعنوان «محاكاة للقرآن».
في الحقبة السوفييتية، ظهرت روايات جيدة خصصت للشرق، لكن أحداثها كانت تدور أساسًا حول الصراعات السياسية أو العسكرية آنذاك، مثل فيتنام وأفغانستان. أما عن الشرق الأوسط، فقد برزت رواية «أمل» للكاتب يفغيني كورشونوف، التي تناولت نضال الشعبين اللبناني والفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي. وبطبيعة الحال، لم تُترجم مثل هذه الأعمال إلى لغات أوروبية أو تُنشر في أمريكا؛ لأنها كانت تخالف الروايات الغربية السائدة عن الأحداث.
أما اليوم، فغالبًا ما تدور الروايات الروسية عن الشرق في فلك الرومانسية أو الخيال، وغالبًا ما تشبه الأفلام الهوليودية، حيث تتكرر صور نمطية كالشيوخ والحريم والراقصات، أو مغامرات خيالية لفرسان أندلسيين أو قتلة مأجورين. أما الأدب الجاد فهو نادر، وهذا حال شائع في كثير من البلدان.. لذلك، يصعب الحديث عن تأثير ملموس للأدب الروسي في تشكيل صورة الغرب عن الشرق.
*************************************************************************************************
... وماذا عن دقة تصوير الواقع العربي في الروايات الروسية؟
الأعمال الجادة قليلة الظهور... لا أدري إن كان من غير اللائق أن أذكر أعمالي هنا، لكن في روايتين من رواياتي تدور الأحداث في سوريا، وتدور رواية أخرى في مصر. إحداها، «الفتاة اليزيدية»، نُشرت في مصر وإيطاليا، والأخرى، «أيام الكاهن الأعظم إيفان سيرجيفيتش»، نُشرت في مصر أيضًا. تدور أحداث الرواية الأولى في سوريا خلال عملية «عاصفة الصحراء»، أما الثانية فتصور رحلة غير عادية لسياح روس في مصر. وقد حرصت في هذه الروايات على تقديم كل شيء بدقة تامة؛ لأني عشت عشرين عامًا في الشرق العربي، وللأسف، كثير من الكُتّاب اليوم يكتبون هراءً ترفيهيًا يستقونه من الأفلام والإنترنت.
*************************************************************************************************
دعنا نتحدث عن محاضرتك حول رحلات أفاناسي نيكيتين ومذكراته التي تعد من أولى الوثائق التي تناولت عمان في الأدب الروسي، كيف ترى تأثير هذه المذكرات على العلاقات الثقافية بين روسيا وعمان، خاصة في ضوء الأدب العربي الحديث؟ وهل تعتقد أن هناك مصادر أخرى قد تكون أُهملت في دراسة التاريخ العماني؟
كما ذكرتُ في محاضرتي خلال معرض مسقط الدولي للكتاب، فإن أفاناسي نيكيتين كان تاجرًا روسيًا خاض ما سُمّي لاحقًا بـ«رحلة ما وراء البحار الثلاثة»، وذلك بشكل غير متوقع بالنسبة له؛ لأنه وقع في ظروف صعبة اضطرته إلى السفر. وبحكم كونه تاجرًا، كانت اهتماماته منصبّة على شؤون التجارة بالدرجة الأولى.
نعم، أثناء وجوده في الهند، وصف بعض تقاليد الديانة الهندوسية، ولكن من الواضح أن ذلك كان فقط بسبب ما لاحظه من اختلاف شديد بين هذه التقاليد والدينين المسيحي والإسلامي. أما بالنسبة للقرن الخامس عشر، فكان الروس في ذلك الوقت قد أصبحوا على دراية بالتقاليد الإسلامية، نتيجة مجاورتهم للتتار وسكان القوقاز المسلمين. ولذلك، لم يُفاجأ نيكيتين كثيرًا خلال رحلته في الأراضي الفارسية، أو أثناء زيارته لمسقط، وركّز في ملاحظاته على تجارة الخيول؛ لأنها كانت تهمّه أكثر من غيرها.
لقد كانت مناطق أخرى من الشرق العربي أوفر حظًا من حيث التوثيق، إذ إن وصفها جاء أكثر دقة وتفصيلًا على يد رحالة آخرين. وكما ذكرتُ في إجابتي عن السؤال الأول، فإن هناك أوصافًا تركها الحجاج الروس منذ القرن الثاني عشر أثناء زيارتهم للمواقع المسيحية المقدسة في القدس، وقد مرّ طريق الحج آنذاك عبر إسطنبول ومصر، لذا نمتلك اليوم وصفًا جيدًا لتلك المناطق أيضًا.
ومع ذلك، ظلت الكثير من المخطوطات التي كتبها الرحالة، ومنهم أفاناسي نيكيتين نفسه، حبيسة الأرشيف لعقود طويلة، ولم يبدأ الاهتمام الجاد بها إلا في القرن التاسع عشر، حين بدأت تُنشر تدريجيًا.
اليوم، لا تزال تُنشر بين حين وآخر أوصاف مثيرة للاهتمام من تلك الرحلات. كما تُنشر قوائم مفصلة تحتوي على بيانات هذه الرحلات. وأحدث هذه القوائم نُشر في موسكو عام 2024، ومن بينها مثلًا: «رحلة التاجر فاسيلي إلى مصر وفلسطين» (1465-1466)، و«رحلة تريفون كوروبينيكوف إلى القسطنطينية» (1582-1584)، وغيرها.
ومن المحتمل أن تُكتشف مصادر جديدة في المستقبل، ما يفتح آفاقًا أوسع لدراسة التاريخ العربي، بما في ذلك التاريخ العماني.
*************************************************************************************************
هل تعتقد أن الرحلات القديمة مثل رحلة نيكيتين، التي وثقت العديد من الجوانب التجارية والاجتماعية، لا تزال تحمل أهمية في العصر الحديث؟ وهل يمكن أن تساعد في بناء جسر بين روسيا والعالم العربي؟
برأيي، تكمن الأهمية الأساسية لرحلة أفاناسي نيكيتين في أنها قدّمت نموذجًا واقعيًا لإمكانية التعاون السلمي بين شعوب من أعراق وديانات مختلفة، فخلال رحلته كلها، لم يشعر أفاناسي بأي نوع من الاضطهاد بسبب كونه مسيحيًا أرثوذكسيًا يسافر في أراضٍ إسلامية، بل إنه أبرم فيها صفقات تجارية أيضًا دون عوائق.
فقط في الهند، حاول أحد الأمراء التأثير عليه لاعتناق الإسلام، لكن الأمر بدا أقرب إلى نزوة شخصية من الأمير، ورغبة منه في اختبار قدرة التاجر الروسي على مقاومة الإغراء المادي مقابل تغيير دينه.
وأود أن أذكّر هنا بأن نيكيتين سافر في منطقة الخليج العربي والهند قبل ثلاثين عامًا من وصول فاسكو دي جاما إلى هناك، ذلك الرحّالة البرتغالي الذي كانت رحلته مصحوبة بأعمال قرصنة وقصف للقرى الساحلية.
وبعد سنوات قليلة، وصل الأسطول البرتغالي، وكانت تلك بداية لقاء مختلف تمامًا بين الحضارات، اتسم بالعنف والاضطهاد، لذلك، فإن وصف الرحلات القديمة يحمل قيمة كبيرة، على الأقل لأنه يُظهر أن العلاقات السلمية بين شعوب من أديان ودول مختلفة كانت ممكنة حتى في تلك العصور التي يُطلق عليها أحيانًا «القرون المظلمة». بل إني، حين أقرأ مثل هذه المذكرات، أجد نفسي مقتنعًا بأن بعض المجتمعات في عالمنا اليوم باتت تُظهر قدرًا أقل من التسامح مقارنةً بما كان عليه الحال قبل قرون مضت.
*************************************************************************************************
لقد قمت بتسليط الضوء في أكثر من مناسبة على أهمية الترجمة في التقريب بين الثقافات. كيف يمكن للأدب العربي أن يساهم في تعزيز فهم أعمق للثقافة الروسية والعكس بالعكس؟ وهل ترى أن هناك تطورًا حقيقيًا في مجال الترجمة الأدبية من العربية إلى الروسية في السنوات الأخيرة؟
بالطبع، لا خلاف في أن الفهم المتبادل بين الشعوب يعتمد، من بين أمور أخرى، على مدى التفاعل الثقافي العميق بينها، وقد سرّني كثيرًا، خلال مشاركتي في معرض مسقط الدولي للكتاب، أن أرى كتبًا للأدباء الكلاسيكيين الروس على العديد من الأرفف، ولعل أكثر ما أثار دهشتي أن امرأة ترتدي النقاب اشترت أمامي طبعة من مجلدين لأعمال ديستويفسكي! .. كما أُعجبت كثيرًا بـ«يوم المدارس» ضمن فعاليات المعرض.
أما فيما يتعلق بالأدب الحديث، فالوضع أقل تشجيعًا، رغم وجود بعض الكتب المترجمة من الروسية إلى العربية.. فخلال الحقبة السوفييتية، نُشرت في روسيا معظم الأعمال الكلاسيكية من الأدب العربي. ولا تزال مثل هذه الإصدارات تظهر من وقت لآخر، مثل كتاب «النبي» لجبران خليل جبران. كما بدأت تُنشر مؤخرًا أعمال أدبية عربية معاصرة، وبالطبع، لا تزال قصص ألف ليلة وليلة حاضرة بقوة في سوق النشر الروسي، وهي من أشهر ما يُقرأ عن التراث العربي.
وأعتقد أن سلطنة عُمان، بما تملكه من إرث فولكلوري غني، يمكن أن تسهم أيضًا في هذا النوع من الأدب، خاصة في أدب الحكايات.. ومن حسن الحظ، أن هناك في روسيا عددًا من المتحمسين الذين يبذلون جهدًا حقيقيًا للحفاظ على تقاليد مدرسة الترجمة من اللغة العربية، وهي المدرسة التي كانت مزدهرة جدًا في العهد السوفييتي، لكنها تعرضت لانتكاسة في تسعينيات القرن الماضي نتيجة ضعف العلاقات مع العالم العربي.
ولإثبات ذلك، يكفي أن أذكر أنه منذ عام 2022 يُنظَّم في موسكو سنويًا مسابقة للترجمة الأدبية من اللغة العربية، أطلقتها وتشرف عليها الباحثة إلينا جيمون...كما لا تزال تعمل مترجمات محترفات مثل فيكتوريا زاريتوفيسكايا، التي ترجمت رواية «سيدات القمر» للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي، بالإضافة إلى رواية «فرانكنشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، ومؤخرًا رواية «درب المسحورة» لمحمود الرحبي.
إلى جانب ذلك، يواصل معهد الترجمة في موسكو نشاطه، حيث يمنح منحًا لترجمة الكتب الروسية إلى لغات أجنبية، وينظم مؤتمرًا دوليًا للمترجمين كل عامين، ويمنح جائزة لأفضل ترجمة من الروسية إلى لغة أجنبية، ومن أبرز المشاريع الجارية حاليًا، نشر سلسلة مكونة من 100 مجلد لأعمال الأدب الروسي مترجمة إلى لغات مختلفة. وقد نُشرت السلسلة بالفعل باللغتين الصينية والفرنسية، والآن يجري العمل على إصدارها باللغتين الهندية، والعربية كذلك.
*************************************************************************************************
بما أنك تحدثت عن مسابقة الترجمة الأدبية من العربية إلى الروسية.. وكنت قد أخرت السؤال عنها، كيف ترى دور هذه المسابقات في تعزيز التبادل الثقافي بين الشعوب؟ وهل لديك مشاريع ترجمة في المستقبل تهتم بكتاب أو أدباء عرب؟
أود أن أؤكد هنا أن طلابًا من أكثر من عشرين مؤسسة تعليمية يشاركون في هذه المسابقة، وهو ما يعكس مدى انتشار اللغة العربية في روسيا. فهي تحتل المرتبة الثانية بين اللغات الشرقية الأكثر دراسة، بعد اللغة الصينية.
لكن دعنا نعود إلى موضوع المسابقة. لا أخفيك أن جذب انتباه دور النشر لنتائج هذه الأنشطة ليس بالأمر السهل، رغم النشاط الملحوظ في مجال الترجمة. وهنا نواجه مشكلة عالمية: أي كاتب أو مترجم سيخبرك أن النص لا يصبح «كتابًا» إلا حين يُطبع. وهذا يعني أن مصير أي عمل أدبي مرتبط إلى حد كبير بدار النشر.
في الحقبة السوفييتية، كان نشر كتاب يتناول جوانب من الصراع بين المعسكر الاشتراكي والدول الغربية أمرًا أسهل. أما اليوم، فقد مال الميزان في الاتجاه المعاكس: حيث تُفضّل دور النشر الأعمال الترفيهية الخفيفة، التي تدور حول مواضيع مألوفة، بغض النظر عن مدى ارتباطها بواقع الحياة. ولهذا السبب، هناك الكثير من الكتّاب الذين يكتبون عن أمور لا يعرفونها حقًا، بما في ذلك العالم العربي.
دعونا نكون صريحين: الهدف الأساسي لغالبية دور النشر هو تحقيق الربح، ولهذا فهي تميل إلى خدمة القارئ العادي، الذي يفضل القوالب المألوفة والنصوص البسيطة.
*************************************************************************************************
.. وكيف يمكن تجاوز هذا الوضع؟
دور النشر لا تكون عادةً غير مبالية تجاه الجوائز الأدبية، والتغطية الإعلامية، والتصنيفات. ولعل رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي، رغم قيمتها الكبيرة، لم تكن لتحظى بالاهتمام في روسيا لولا فوزها بجائزة البوكر الدولية.
لذلك، أعتقد أن من الأدوات التي يمكن أن تساهم في تعزيز حضور الأدب العربي المترجم، تبادل المعلومات بين اتحادات الكتّاب في العالم العربي وروسيا.
فهذا التبادل يمكن أن يتيح للطرفين ترشيح أهم الأعمال وأكثرها قيمة، وتوصية دور النشر المهتمة بها في بلدانهم. ويمكن أيضًا أن تؤسس اتحادات الكتّاب جوائز أدبية خاصة بها، بحيث تُمنح للأعمال البارزة وتساهم في لفت نظر دور النشر إليها، دون الاعتماد الكامل على جوائز كالبوكر وغيرها.
أما بالنسبة لي شخصيًا، فأنا في الأساس كاتب، أي أنني أكتب نصوصي الخاصة. وما قمت به في مجال الترجمة لا يتجاوز ترجمة بعض القصائد لعدد من الشعراء العرب، ومن بينهم نزار قباني.
*************************************************************************************************
أنت مجددا تعيد ترتيب أسئلتي، سوف أقدم سؤالا كنت قد وضعته تاليا .. من خلال تجربتك في العمل مع الأدب العماني، كيف تصف ما يجذب القراء الروس إلى الأدب العماني؟ وهل هناك عناصر ثقافية معينة تشدهم نحو هذا الأدب؟
برأيي، يجب أن يحقق الأدب ثلاث وظائف أساسية: أن يُعرّف، وأن يُدهش، وأن يُمتع. وهذا يعني أن كل كتاب يجب أن يُلبي واحدًا على الأقل من هذه الشروط، ويفضَّل أن يجمع بينها جميعًا.
وللإجابة على سؤالك بشكل ملموس، دعنا نلجأ إلى الإنترنت، حيث يمكن العثور على تعليقات القرّاء وانطباعاتهم المباشرة. لنأخذ كمثال تفاعل القرّاء الروس مع رواية «سيدات القمر» للكاتبة جوخة الحارثي، والتي تُرجمت إلى الروسية:
«لا ينبغي توقّع قراءة خفيفة من هذا الكتاب، وهذا ليس ما يُنتظر منه. ميزته الأساسية أنه يقدم سردًا تفصيليًا لحياة المجتمع العربي المعاصر، حيث يعيش الأفراد أحيانًا بين منظومة أبوية تقليدية ورغبة في التقدّم. في هذا العالم، يبدو الرجال هشّين بشكل غير متوقع، والنساء طموحات، والعواطف صادقة».
«أحببت الكتاب. ليست لدينا معلومات كثيرة عن عُمان، لذلك كان من المثير أن أكتشف كيف يعيش الناس هناك، وما هي مشكلاتهم وأحلامهم».
«قررت قراءة هذا الكتاب الحاصل على جائزة البوكر العالمية، رغم أنني عادة لا أستمتع كثيرًا بكتب الفائزين بتلك الجوائز. لكن في هذه الحالة، كانت مفاجأة تامة بالنسبة لي، فقد اتضح أن الكتاب ممتع حقًا، رغم أن الكثير من تفاصيله لم تكن قريبة مني».
«لم يسبق لي أن قرأت شيئًا عُمانيًا، ولا أعرف شيئًا تقريبًا عن عُمان. لكن بعد قراءة هذا الكتاب، رغبت في قراءته مرة أخرى. السبب هو أنني لم أكن متأكدًا تمامًا أنني فهمت كل الشخصيات. كان من المثير أن أرى كيف غيّر الزمن الكثير في حياة ثلاثة أجيال، وما هو موقع التقاليد اليوم».
«إنه مثير جدًا. يكاد يكون نسخة مختصرة وعصرية من ألف ليلة وليلة».
«عادةً لا تُسعدني كتب الحاصلين على جائزة البوكر. لا أعلم إن كان الخلل فيّ أم في لجنة التحكيم... لكنني لم أتمكن من تجاهل هذا الكتاب الذي كتبته امرأة من عُمان. إنه ساحر بلا شك».
ومن خلال هذه الانطباعات، يمكن القول إن رواية «سيدات القمر» نجحت في جذب اهتمام القرّاء الروس لأنها لبّت، بدرجات متفاوتة، الوظائف الثلاث الأساسية للأدب: المعرفة، والدهشة، والمتعة. ويجب على الكُتّاب، في رأيي، ألا يغفلوا عن هذه التوقعات الجوهرية لدى القارئ.
*************************************************************************************************
ماذا يمكن أن تُقدم روسيا في مجال التعاون الأكاديمي مع الدول العربية، خصوصًا في مجالات مثل الدراسات التاريخية والأدبية؟ وكيف يمكن أن تسهم الأبحاث الروسية في إعادة اكتشاف التراث العربي؟
فيما يخص التعاون في المجال الأكاديمي، وبما أنني لست متخصصًا مباشرًا في هذا المجال، فإنني لا أستطيع إلا أن أقدّم رأيي كمراقب من الخارج. وما أراه يشير إلى أن هناك رغبة متبادلة بين روسيا وسلطنة عمان لتطوير العلاقات في هذا المجال. يمكنني الإشارة إلى مثالين في هذا السياق: في عام 2013، قام وفد عُماني بزيارة المكتبة الوطنية الروسية، والتي تضم أكثر من 50 ألف كتاب ومخطوطة باللغة العربية، وقد تم خلال الزيارة التوصل إلى اتفاق لتعزيز التعاون، خصوصًا فيما يتعلق بمشاركة الجانب العُماني في تنظيم المؤتمرات والمعارض والندوات الحوارية.
وفي عام 2021، زار وفد عُماني آخر مدينة سانت بطرسبرغ، برئاسة سعادة جمال الموسوي الأمين العام للمتحف الوطني، للمشاركة في معرض مخصص للأدب والثقافة العُمانية، وقد حمل الوفد معه كتبًا وملابس وطنية وصورًا فوتوغرافية، تم التبرع بها لصالح مكتبة غوركي العلمية... كما تمت مناقشة إمكانية إقامة علاقات تعاون بين جامعة سانت بطرسبرج وجامعة السلطان قابوس، ولكن للأسف، ليست لدي معلومات مؤكدة حول مدى استمرار هذا التواصل وتفعيله... أما على صعيد النقد الأدبي الروسي، فهناك عدد من النقاد والباحثين النشطين، ممن يقومون بتحليل الأدب العربي، ويُلقون محاضرات، وينشرون مقالات، ويُغنون المواقع الإلكترونية المتخصصة بالأدب، ومن بين أبرز الأسماء التي تحضرني في هذا السياق: ميخائيل سوفوروف، وأحمد الرحبي، وغليب فولوشينكو.
*************************************************************************************************
إذن بعد كل هذا كيف ترى مستقبل العلاقات الثقافية بين روسيا وعمان في ظل التغييرات السياسية والاقتصادية العالمية؟ وما الخطوات التي يمكن اتخاذها لتعميق هذه الروابط الثقافية؟
لطالما أبدى الشعب الروسي اهتمامًا كبيرًا بثقافات الشعوب الأخرى. وإذا كانت الثقافة الأوروبية قد أصبحت مألوفة لدينا منذ زمن بعيد، فإن ثقافات شعوب الشرق لا تزال تتمتع بجاذبية خاصة؛ لأنها لا تزال تحتفظ بالكثير من العناصر الجديدة والمفاجئة.
وقد نجحت بعض بلدان الشرق بالفعل في السنوات الأخيرة في نشر ثقافتها على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال، أصبحت الموسيقى والسينما التركية اليوم تحتلان مكانة ملحوظة في روسيا. ويلعب القطاع السياحي دورًا كبيرًا في تعزيز هذا الحضور، لا سيما وأن تركيا تُعد من الوجهات الرئيسية للسياح الروس.
وبوصفي مؤلف أول دليل سياحي باللغة الروسية عن سلطنة عُمان، أعتقد أن لديكم في عُمان إمكانات كبيرة لجذب السياح الروس، فعلى عكس بعض الدول التي تركز على البحر والشواطئ، تمتلك عُمان مزيجًا غنيًا من المقومات السياحية، التاريخية والطبيعية على حد سواء، وأنا واثق بأن أبناء بلدي سيُقدّرون هذا التنوّع، وسيُعجبون كذلك بطبيعة الشعب العُماني الودود. ومن وجهة نظري، سيكون من المهم جدًا أن تُطلق عُمان وروسيا مشاريع ثقافية مشتركة في مجالات مثل الموسيقى والسينما والأدب، ولتحقيق ذلك، يمكن تشكيل مجموعة من الممثلين الثقافيين من كلا البلدين، تكون مهمتها طرح الأفكار والمبادرات التي تعزز هذا التعاون.
*************************************************************************************************
.. وكيف ترى تأثير فكر ابن ماجد على الملاحة البحرية العالمية، وما الدور الذي يمكن أن تلعبه الترجمة الأكاديمية لكتابه «الفوائد في أصول البحر والقواعد» في تعزيز التبادل الثقافي بين العالم العربي وروسيا؟
يُعد مخطوط أحمد بن ماجد مثالًا حيًا على كيف يمكن لترجمة علمية دقيقة لمخطوطة قديمة أن تُسهم في توسيع آفاق التبادل الثقافي بين الشعوب المختلفة.
ففي روسيا، نُشرت الترجمة الأكاديمية لكتاب «الفوائد في أصول البحر والقواعد» للمرة الأولى عام 1965 في مجلدين: أحدهما يحتوي على النص العربي، والآخر على الترجمة الروسية. وقد أثار هذا الإصدار اهتمامًا كبيرًا بشخصية المؤلف وأعماله.
وفي السنوات التالية، نُشرت العديد من المقالات التي تناولت أحمد بن ماجد وسيرته، وكذلك أعلام الملاحة العربية بشكل عام، وأصبح موضوع الملاحة البحرية عند العرب محورًا لأبحاث عديدة، وقد برز في هذا المجال بشكل خاص الباحث تيودور شوموفسكي، الذي قدّم هذا الموضوع بأسلوب علمي جذّاب وشيّق، ونشر ثلاثة كتب نالت شهرة واسعة، وهي «آخر أسد في بحار العرب»عن سيرة أحمد بن ماجد، و«في آثار السندباد البحّار»، و«العرب والبحر»، وقد تُرجمت مؤلفات شوموفسكي الأكاديمية حول طرق الملاحة العربية القديمة إلى اللغتين البرتغالية والعربية. ومما يجدر ذكره أن أقدم تقييم محفوظ لأعمال أحمد بن ماجد يعود إلى عام 1554، حيث ذكره الأدميرال التركي سيدي علي بن حسين جلبي في مقدمة موسوعته حول العلوم البحرية، وأكد أنه استند في تأليفه إلى كتاب «الفوائد في أصول البحر والقواعد»، من بين مراجع أخرى.
وقد كتب في ذلك (وأنا أنقل المعنى بتصرف اختصاري): «من دون مثل هذه الكتب، من الصعب جدًا الإبحار في المحيط الهندي، إذ كان القادة يشعرون دائمًا بالحاجة إلى معارف ملاحية لم تكن متوفرة لديهم».
وقد أعاد هذا العمل التركي اسم أحمد بن ماجد وكتبه إلى الواجهة، وجعل الأوروبيين يطّلعون عليها من جديد، لكن للأسف، لم يُعرها أحد اهتمامًا يُذكر في ذلك الوقت. ولم تبدأ القراءة الحقيقية لقيمة ابن ماجد إلا في وقت لاحق، حين أدرك الأوروبيون مكانة هذا البحّار وكتابه، الذي يُظهر المستوى الرفيع الذي بلغته الملاحة العربية في القرن الخامس عشر.
أما اليوم، فلا يكاد أحد يُشكّك في أن الملاحة العربية تمثّل حقيقة تاريخية ثابتة، تستوجب إعادة تقييم دور العرب في تاريخ الحضارة العالمية، وذلك بفضل أعمال أحمد بن ماجد وغيره من البحّارة، وأيضًا بفضل الباحثين الذين أدركوا أهمية هذا الإرث العلمي.