منذ اغتيال عزالدين خليل في دمشق العام 2004، ومن بعده عماد مغنية في بيروت العام 2008، يمكن الحديث عن أن إسرائيل قد شرعت في مسار مختلف للاغتيالات الأمنية، التي تنفّذها ضد قيادات في حزب الله، أو حركة حماس، فيما بعدُ، توالت عمليات الاغتيال الإسرائيلية التي لا مجال لذكرها كلها، وصولًا إلى اغتيال قادة إيرانيين بارزين، مسؤولين عن الملف النووي، وإلى اغتيال قاسم سليماني، ورضي موسوي.

وكل هذه العمليات- التي استهدفت مسؤولين أمنيين وعسكريين بارزين في محور المقاومة- بقيت من دون ردّ يتناسب أو يتوازى مع حجم العمليات من قبل إيران أو الحزب، وكانت الردود بمعناها العسكري أو الأمني، ولكن من دون تحقيق أهداف قتل مسؤولين إسرائيليين في المستوى نفسه.

القتال البطولي للمجموعات الفلسطينية- طوال ثلاثة أشهر وأمام أعتى الأسلحة وأكثرها فتكًا- فاق كل التقديرات والتوقعات والمعلومات الاستخبارية

رد حتمي

ولهذا الأمر تفسيرات أساسية، أولًا؛ يقول معارضو حزب الله: إن ضعف الرد المتوازن ينطوي على ضعف وقدرات ضئيلة لا ترقى لمستوى الاستهداف، والثاني، يقوله حزب الله نفسه: إن أي مسؤول من هؤلاء هو في الأساس مشروع شهيد، وبالتالي الحسبة مدفوعة سلفًا. والأهم، أن أي اغتيال لن يؤثر على مسار العمليات التي تقوم بها المقاومة، فيما يتعلق بتنمية قدراتها واستكمال مشروعها.

هذا أيضًا ينطبق على اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري في بيروت، والذي هدّده الإسرائيليون بشكل علني. ليأتي الاغتيال برمزية كبرى، عبر استهدافه في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، بما يمثله ذلك من تحدّ لحزب الله، ونصرالله شخصيًا. وسيكون له ردّ حتمي من قبل الحزب، ولكن ضمن الحدود المتوقعة والسقوف الموضوعة لتوازن الردع، وبما يحفظ حدًا أدنى من الاستقرار الداخلي في لبنان؛ لعدم تدهور الأوضاع نحو حرب شاملة وغير مضمونة العواقب.

وهنا لا بد للحزب أن يتسلّح بما يسميه: "الصبر الإستراتيجي". فمع حصول الاغتيال، توالت الاتصالات الدولية باللبنانيين والإسرائيليين للتخفيف من وطأته، ولمنع تطور الأمور نحو الانفجار.

جيش مفكك

اغتيال العاروري تزامن مع إعلان إدارة جو بايدن عن سحب حاملة الطائرات الأميركية الأكثر تطورًا في العالم "جيرالد فورد" من البحر المتوسط، وإعادتها إلى الولايات المتحدة، وإعلان إسرائيل عن سحب خمسة ألوية قتالية من غزة.  وهذا الأمر اتخذ شكلًا ظاهريًا لمسار معاكس للحرب الدموية التي تخوضها إسرائيل في غزة. خصوصًا أن المعارك لا تزال تدور بشراسة، والتطورات متسارعة، إن في لبنان، أو في البحر الأحمر، أو في سوريا، أو حتى في إيران.

لكن مع شيء من التعمق يمكن تبيان الخط الذي يربط بين هذه التطورات على مختلف الساحات، فَوَفق التقديرات الإسرائيلية والأميركية- على السواء- يتبين أن الهدف الذي يشكل تقاطعًا بين واشنطن وتل أبيب بات قريب التحقق، والمقصود هنا الاقتناع الإسرائيلي بتراجع القدرة العسكرية لحركة حماس، بعد أن جرى حصرها في جنوب غزة.

في كل الأحوال، فإن القتال البطولي للمجموعات الفلسطينية- طوال ثلاثة أشهر وأمام أعتى الأسلحة وأكثرها فتكًا- فاق كل التقديرات والتوقعات والمعلومات الاستخبارية. وفي المقابل، ظهر الجيش الإسرائيلي في صورة ضعيفة ومفكّكة إثر عملية "طوفان الأقصى"، وكادت إسرائيل تنهار بشكل كامل، لولا الاستنفار الأميركي السريع، والدعم المفتوح من دول الغرب.

جنون إسرائيلي

ورغم هذا، كرّس ذلك اليوم خَسارة إسرائيل، الدورَ الذي رسمته لنفسها، والوظيفة التي سعت لأن تتولاها كضامن أمني ومحوري في منطقة الشرق الأوسط، وهي ارتكزت على قوتها لتسويق مشروع قيادتها وتطبيعها مع دول المنطقة، والعربية منها تحديدًا.

ومهما فعلت إسرائيل، فهي قد خسرت هذا الدور الذي سعت إليه دائمًا، إلا إذا حازت الضمانةَ الأميركيةَ، وهنا يكمن التفكير المعمّق لحقيقة الدور الوظيفي للكيان، فالتقاطع الأميركي-الإسرائيلي، حول إبعاد التأثير الإيراني عن الساحة الفلسطينية، من خلال تفكيك البنية العسكرية لحركة حماس، لا يعني بالضرورة أن التفاهم قائمٌ حول ما بات يعرف باليوم التالي لما بعد الحرب، إذا افترضنا أصلًا إمكانية تفكيك حماس؛ لصعوبة الأمر.

وإذا كان التزامن في الإعلان، عن سحب حاملة الطائرات الأميركية والألوية الإسرائيلية الخمسة، يوحي بانخفاض مستوى الخطر على إسرائيل إلا أن المشهد مختلف على مستوى المنطقة.

وفي الأصل، إن قرار استقدام حاملة الطائرات الأميركية الأكثر تطورًا، إنما كان يهدفُ لضبط الجنون الإسرائيلي قبل غيره بعد اندلاع حرب غزة، وبدا استجلاب المدمرة ضمن إطار محدد على مستوى الشرق الأوسط، بدءًا من تركيا شمالًا، ومرورًا بسوريا، ولبنان، والأردن، ووصولًا إلى الخليج العربي، ومصر، وبالتالي فإنّ رحيلها يعني منطقيًا تراجع مستوى التصعيد والحرب المحتملة، وليس وقفَ الصراع، بل استمراره، ولكن تحت سقف محدد بوضوح وحسم.

نقاط ضعف

وعليه، فإن تراجع حدة ووحشية الحرب في القطاع المحاصر، لا يعني إغلاق ملف الصراع في الشرق الأوسط، بل على العكس، ولكن وَفق سقف لن يجري تجاوزه، أو بتعبير أدقّ: "سخونة من دون لهب".

فالمنطقة يجري إعادة ترتيبها، ويكفي التذكير هنا بمشروع ربط الهند بدول الخليج، ومن ثم إسرائيل فأوروبا. وقد تكون واشنطن ترى أنها الطرف الدولي الوحيد الذي ازداد تأثيره في الشرق الأوسط بعد حرب غزة. وهذا يشكّل تحولًا كبيرًا في الإقليم المُلتهب.

ووَفق هذا التحول يمكن قراءة المواجهات البحرية في البحر الأحمر بين جماعة الحوثي وواشنطن وحلفائها، فطهران التي كانت تجد مكسبًا في رهانها على الوقت خلال تعاطيها مع أزمات المنطقة، قد تكون وجدت عكس ذلك في استهلاك الوقت في معركة غزّة.

ولكن سعي إيران من خلال الحوثيين لفرض نفوذها على الممرات البحرية- التي تحتضن أكثر من 12% من حركة الملاحة والتجارة الدولية- شهد بدايةً ردة فعل خجولة من المجتمع الدولي، قبل أن يتطور الموقف لتشكيل تحالف دولي، والقيام بردٍّ أدّى إلى إغراق أربعة زوارق بمن فيها، ومن الطبيعي أن تكون إيران تريد اقتناص الحد الأقصى من المكاسب، بدءًا من بسط نفوذها على البحر الأحمر، لكن الجواب الأميركي جاء حاسمًا.

ويبدو أن إدارة بايدن تدرك وجود نقاط ضعف عدة داخل بنية إيران، بدءًا من الاقتصاد الصعب، إلى تململ شريحة الشباب من عدم وجود إطار تغييري للوجهة التاريخية في نظام الحكم، وهو ما ظهر خلال الاحتجاجات الشعبية في العام المنصرم.

لذا، بات لدى الأميركيين اعتقادٌ يرى أن اغتيال الشيخ صالح العاروري يؤشر لبدء مرحلة جديدة من الاغتيالات، إلا أن الحسابات لا تقف هنا فقط، بل ثمة أسئلة عاجلة تتعلق باليوم التالي لوقف الحرب في غزة. منها- مثلًا – ما يتعلق بصورة المخيمات الفلسطينية في لبنان، وطبيعة النفوذ الفصائلي.

والأهم مستقبل الساحة السُنية في لبنان، والتي تعاني أساسًا من فراغ على مستوى القيادة، وكيفية تفاعلها مستقبلًا مع هذه التأثيرات، وخاصة أن شعبية حماس تزايدت بأضعاف كبيرة بعد "طوفان الأقصى". وبالتالي فإنّ هذه الملفات- إضافة إلى الملفات الأخرى المعروفة- لا بد أن تكون موضوعة على الطاولة خلال البحث بمستقبل الأزمة اللبنانية.

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الشرق الأوسط فی لبنان

إقرأ أيضاً:

تعرف على شركات الطيران التي ألغت رحلاتها إلى إسرائيل بعد صاروخ الحوثيين

أدى سقوط صاروخ باليستي أطلقه الحوثيون وانفجر داخل محيط مطار بن غوريون الإسرائيلي أمس الأحد إلى موجة من الإلغاءات الفورية في حركة الطيران، حيث أعلنت شركات طيران أجنبية كثيرة تعليق رحلاتها من وإلى إسرائيل، وسط مخاوف أمنية متزايدة وعدم وضوح بشأن استئناف الخدمة الجوية.

وأفاد تقرير نشره موقع "كالكاليست" الإسرائيلي أن بعض الرحلات التي كانت في طريقها إلى تل أبيب عادت إلى وجهاتها الأصلية، في حين اضطرت رحلات أخرى إلى إنزال ركابها مباشرة من الطائرات دون المرور بصالات المطار.

وحذرت وزارة المواصلات الإسرائيلية شركات الطيران المحلية من استغلال الموقف ورفع أسعار التذاكر، مشيرة إلى أن الوزارة تحتفظ بحقها في فرض سقف سعري ملزم عند الحاجة، وتقوم حاليا بمتابعة تطورات السوق الجوية من كثب.

حادثة سقوط صاروخ بشكل مباشر في محيط مطار بن غوريون تشكل تطورًا خطيرًا قد يؤدي إلى تداعيات طويلة على قطاع الطيران (رويترز) الشركات التي ألغت رحلاتها ريان إير (12 رحلة) بريسلز إيرلاينز (5 رحلات) يونايتد إيرلاينز (5 رحلات) ديلتا (4 رحلات) أجيان إيرلاينز (4 رحلات) إيرو مكسيكو (4 رحلات) لوفتهانزا (4 رحلات) وِز إير مالطا (4 رحلات) أوسترين إيرلاينز (3 رحلات) إيتا (3 رحلات) وِز إير (3 رحلات) بريتيش إيرويز (رحلتان) فيرجن أتلانتيك (رحلتان) إير إنديا (رحلتان)

بالإضافة إلى رحلات فردية ألغتها شركات كبرى مثل إير كندا، إير فرانس، إير أوروبا، إير صربيا، أول نيبون، أذربيجان إيرلاينز، سويس، ترانسافيا، لوت البولندية، وِز إير أبوظبي، وِز يو كيه، وإيبيريا.

"إلعال" تتدخل لتأمين عودة العالقين

ولمواجهة أزمة العالقين، أعلنت شركة "إلعال" الإسرائيلية عن فرض أسعار قصوى لتذاكر السفر على الرحلات باتجاه واحد في الدرجة السياحية (فئة لايت)، لتسهيل عودة الإسرائيليين من الخارج.

إعلان

وحسب بيان الشركة، فإن الأسعار حُددت على النحو التالي:

لارنكا–تل أبيب: حتى 99 دولارًا أثينا–تل أبيب: حتى 149 دولارًا روما–تل أبيب: حتى 333 دولارًا نيويورك–تل أبيب: حتى 799 دولارًا

يُشار إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تؤدي فيها ظروف أمنية إلى توقف شركات أجنبية عن تسيير رحلاتها إلى إسرائيل، ولكن حادثة سقوط صاروخ بشكل مباشر في محيط مطار بن غوريون تشكل تطورًا خطيرًا وغير مسبوق، مما قد يؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد على حركة الطيران من وإلى البلاد.

مقالات مشابهة

  • الجيش الإيراني يعلن جاهزيته العالية في البر والبحر والجو |تفاصيل
  • إيران ترسل وفداً طبياً لمعالجة نحو 1000 حالة مستعصية في البصرة
  • ‏حماس تنعى المسؤول العسكري خالد الأحمد الذي قتل في غارة اسرائيلية فجر اليوم في صيدا جنوب لبنان
  • ما هو “محور موراج” الذي تريد إسرائيل حشر الغزاويين فيه؟
  • خطة عسكرية إسرائيلية بغزة التي لم يبق في جسدها مكان لجرح
  • تايمز: ما الذي يتطلبه إحلال السلام في غزة؟
  • فرانسوا بورغا.. المفكر الذي يحترم حماس ويرى الإسلاميين طليعة مجابهة الاستعمار
  • تعرف على شركات الطيران التي ألغت رحلاتها إلى إسرائيل بعد صاروخ الحوثيين
  • إسرائيل تمهل حماس حتى زيارة ترامب لإبرام اتفاق غزة
  • قبيل الزيارة.. كيف تحاول إسرائيل استغلال وجود ترامب في المنطقة؟