وأنا اطلع على كتاب *سيكولوجية الجماهير* (لغوستاف لو بون) مر في خاطري حالنا في السودان وما يدور فيه من أحداث وما كان عليه طيلة الفترة التي أعقبت استقلاله، فالكتاب يتحدث عن المجتمعات الإنسانية وكيف يمكن للجماعات صناعة التأثير والذي يتسبب في إحداث التغيير الكلي في أفكار الأمم، فالجماعات الكاملة بحسب ما يرى غوستاف هي التي تحدث لها صفات جديدة ترتكز على ما في مجموعها من الصفات الثابتة التي لعامة الشعب، وهي التي تتحد فيها الإرادات ، وتتجه المشاعر نحو مقصد واحد وهي التي يسهر فيها ذلك الناموس الذي يمكن تسميته ناموس الوحدة الفكرية للجماعات، وأشار إلى أن الجماعة دائما دون الفرد ادراكا ولكنها من جهة المشاعر والأعمال الناتجة عنها قد تكون خيرا منه أو أسوأ على حسب الأحوال ، وبحديثه هذا كأنه يشير لحال الشعب السوداني الذي يمتلك كل فرد فيه صفاته التي يتميز بها وتربى عليها بفطرته وبيئته التي ينتمي إليها جغرافيا ولكن بمجرد الإنتماء لجماعة يتحول الولاء إلى هذه الجماعة ومبادئها ونظامها وبمرور الوقت يصير منقادا إلى العمل بولاء للجماعة دون الشعور بالدافع إليه ، فقد تكون الأفعال التي تصدر عنها كاملة من حيث التنفيذ إلا أن الفعل لم يكن رائدا فيها وبذلك تجد الفرد السوداني يسير في اتجاه جماعته التي تضمه أو حاضنته التي احتوته إن كانت قبيلة أو حزب أو جماعة عقائدية أو فكرية، وهذا ما ذكره غوستاف في أن الجماعة دوما محلقة في حدود اللا شعور تتأثر بالسهولة من جميع المؤثرات، وذات إحساس قوي كاحساس الأشخاص الذين لا تمكنهم الاستعانة بالعقل، ومجردة من ملكة النقد والتمييز ، كان من شأنها أن تكون سريعة التصديق سهلة الإعتقاد ، فهي لا تعرف الغير المعقول، ربما لذلك نرى حالنا في واقعنا الذي نعيشه ونتعايش معه وكثيرا ما اتعجب لحال الجماعات عندنا في السودان حيث ترى التشدد والعصبية والانقياد تجاه الجماعة التي ينتمي لها الفرد، فاليميني لا يقبل اي نقد خاصة اذا جاءه من اتجاه اليساري ، والصوفي يتعصب اذا ما اعترض أصحاب الفكر السلفي على فهمه وشعائره و أسلوبه ، وابن القبيلة لا يقبل من ينتقد طباعه من قبيلة أخرى ولو كان يعلم أن ما ذكره الآخر صحيحا فهو ابن البيئة التي أنشأته بفكرها إن كان صوابا أو خطأ ، والشاهد في ذلك لا يوجد إعمال للعقل في ذلك وانما تقبل وتعود ، فالمسلم الذي نشأ في بيت مسلم فترعرع على أن الإسلام شعائر يؤديها دون تأمل أو تدبر ، ولا أحسب أن الله يريدنا أن نكون مسلمين مستسلمين بقدر ما يريدنا مسلمين مستبسلين.
ولعل ذلك ما أودى بنا في السودان لكثير من إشكالات في مجتمعنا الإجتماعي والسياسي وخاصة الديني حيث لا نقبل الآخر وإن كان صوابا ، ونقبل ما نؤمن به وإن كان لا يتسع الا في حدود ما تعتقد فيه الجماعة وبذلك تزيد العصبية والمحدودية، وفي ذلك لن يكون السودان كما ندعي في شعاراتنا (وطن يسع الجميع) وانما يظل يدور في دائرة الإنتماء الحزبي ، القبلي، المناطقي، لأن الفكر وإن تغير وصار تناوله في مقدور الجماعات لا يظهر أثره الا اذا دخل في عداد الغرائز وامتزج بالنفس وصار من المشاعر وذلك يتطلب زمنا طويلا وقبل ذلك وعيا من أصحاب العقول والفكر الذين يؤثرون في المجتمع .
لذلك أشار صاحب الكتاب غوستاف لوبون إلى أن لا يتوهم الناس أن أثر الفكر يظهر متى تبينت صحته عند ذوي العقول النيرة، وانما يتطلب الإيمان والاعتراف لأنهم هم أنفسهم كثيرا ما يخضعون لسلطان أفكار أصبحت بحكم الزمان ملكات فطرية، والشواهد في ذلك لدينا كثيرة لا مجال لذكرها تفصيلا وانما عرضا ( الإمام الذي يخطب في منبره ويستدل بالايات والأحاديث ويقف على المستوى الشخصي عاجزا عن تطبيقها لما لأثر الفطرة الكبير عليه، الأستاذ الذي يربي الأجيال على علم وهدى ويفتقده في سلوكه وغير ذلك) .
شواهد تتطلب منا ضرورة توظيف تلك الماكينة التي منحنا الله إياها ألا وهي العقل بالتدبر ومحاولة التمرد على كل فطرة غير سوية وإن كانت تتطلب جهدا و مشقة وجهود مجتمع وليس جماعات ، لأن الجماعات لا تتعقل وتتطلب الخضوع الأعمى ، بينما المجتمعات تقوم على المرونة ونحن أحوج ما نكون لذلك، وقطعا للحديث بقية
leila.eldoow@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی ذلک
إقرأ أيضاً:
خالد تاجا.. الثائر الذي فاتته ساعة التحرير
"منذ 70 عاما ركضنا نحو الحاكورة ونهر يزيد، وها أنت اليوم تعود إلى سفوح قاسيون مسقط رأسك لترقد بهدوء وأمان وسلام.. كل النوارس التي لوّحنا لها سويا تبدو حزينة اليوم وداعا يا خالد".. بهذه الكلمات العفوية، وبقدر مفرط من الصدق، وقف رجل فوق نعش الممثل السوري المخضرم خالد تاجا بين القبور في تربة "الزينبية" القابعة على سفوح جبل قاسيون ليصدح بها.
حدث ذلك ظهر الخميس 5 أبريل/نيسان 2012 عندما كانت دمشق تنام وتصحو على لهب! وسط ترقب أمني، وتخوّف استخباراتي من أجهزة النظام البائد، من أن تمتد المظاهرات بشكل واسع لداخل الشام، أو أن يستطيع الجيش الحر الذي بدأ بالسيطرة على الريف آنذاك، من أن ينقل معاركه إلى قلب أحياء العاصمة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور مفبركة تثير الجدل حول عودة عادل إمامlist 2 of 2النجم الهندي سلمان خان يفاجئ الجمهور بحقيقة وضعه الصحي الخطيرend of listالخوف الذي كان يعتري أجهزة النظام حينها وصل لأن تحسب ألف حساب لجنازة قامة شاهقة هوت لتوها، فجعلها خوفها تدفع بقوات عسكرية تتمركز عند مسجد الزهراء في حيّ المزة حيث صلي على الفنان الراحل وتنشر مجموعات من الشبيحة، وغيرهم على طول الطريق الواصل من المسجد إلى المقبرة خوفا من أن يستحيل التشييع إلى مظاهرة عارمة.
لم يكن الشرخ قد اتسع كثيرا بين نجوم سوريا آنذاك، وكان يمكن لممثل يبالغ في تأييده الأعمى للنظام حينها أن يكون حاضرا في جنازة من عرف عنه مواقفه المعارضة، لدرجة سرت فيها شائعات بعد سقوط نظام بشار تقول إن "نظام الأسد كان وراء مقتل "الحارث بن عباد"، (نسبة لدوره في مسلسل الزير سالم)، إلى أن خرجت عائلته لتنفي الخبر جملة وتفصيلا.
أما مناسبة الحديث اليوم، فلأن الرجل يعتبر بمثابة أيقونة غائبة، لم يتح لها مواكبة سوى عام واحد من الثورة، قبل أن تنطفئ ويذوي جسدها في ثرى الشام، لكنّ اللافت بأنه منذ سقوط النظام وحتى اليوم لا يكاد تخلو جلسة فنيّة أو نقاش حيوي يخصّ نجوم الدراما السورية، وكيف كانت مواقفهم إلا ويأتي ذكر خالد تاجا، الذي كرّمه بعض محبيه في ذكرى وفاته الأخيرة من خلال وقفة تكريمية في مقهى كان يعتبره بعض السوريين يوازي برلمانا للثقافة السورية.
إعلان أيقونة غائبة لا تغيب عن الذاكرةلم يكن خالد تاجا يشبه أحدا سوى نفسه. لم تأخذه العزّة والمباهاة بموهبته يوما إلى مكان أو مكانة يفقد فيه شيئا من تواضع المبدع العميق، ولا سمح للغرور أن يتسلل إلى قلبه رغم المكانة التي نالها. كان واعيا تماما لحقيقة الحياة وزوال كل ما فيها، مدركا أن الشهرة ليست سوى سراب مؤقت، تشبه الوهم الذي يتلاشى مع الزمن.
لهذا، استعد للموت مبكرا، واستقبله كما يستقبل صديقا قديما، قائلًا له: "تعال متى تشاء". بل ذهب أبعد من ذلك، فجهّز قبره بنفسه، ونقش على شاهدته عبارة اختزلت رحلته بكلمات مفعمة بالشعر والصدق: "مسيرتي حلم من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثم مضت"، وأضاف تحتها ببساطة: "منزل محمد خالد تاجا".
تاجا الذي شبّهه الراحل محمود درويش بـ"أنطون كوين العرب"، لم يتعامل مع هذا التشبيه بوصفه وسامًا يتباهى به، بل حمله كعبء مسؤولية إضافي، ليكرّس نفسه أكثر كمثقف وفنان صاحب مشروع. ولذا، كان يقول في لقاءاته القليلة معنا: "إن كان الفن خاليًا من أي مشروع، فلا أستطيع تسميته فنا بالأساس".
ورغم أنه ظلّ علامة فارقة في تاريخ الدراما السورية، بقي يؤكد لأصدقائه أن حبّه للتمثيل لم يبلغ يوما درجة الهيام، كما كان الحال مع شغفه الكبير بجمع التحف والأنتيكات من أنحاء العالم، التي ملأ بها منزله حتى ضاق بها، وصار يكره التصوير فيه خشية أن تُصاب واحدة من تحفه المفضلة.
وبشغف مماثل لكنه ربما يكون أقل بدرجة واحدة تعامل مع مهنته على أنها فسحة للتفريغ من كلّ ما يحيط به من هموم، ومحاولة مستمرة لإعادة إقلاع دوري لكل أدواته المهنية والإنسانية.
يصعب اختزال مشوار خالد تاجا في بضعة أسطر، فحياته المهنية الطويلة كانت مليئة بمحطات متمايزة وملامح لا تشبه سواه. انطلق من خشبة المسرح في خمسينيات القرن الماضي، ضمن فرقة "مسرح الحرية" التي أدارها الفنان عبد اللطيف فتحي -المعروف بدور "أبو كلبشة" في مسلسلات غوار الطوشة- وكانت تضم حينها أسماء كبيرة مثل أنور البابا، وحكمت محسن، وصبري عياد.
تاجا سرعان ما خطى إلى السينما، ولعب دور البطولة في فيلم "سائق الشاحنة"، أول إنتاجات المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1966، بإخراج بوشكو فتشينكش. ثم تبعها بدور رئيسي في فيلم "رجال تحت الشمس" عام 1969، المقتبس عن رواية غسان كنفاني، بمشاركة 3 مخرجين: نبيل المالح، ومروان المؤذن، ومحمد شاهين.
ورغم غيابه المتقطع عن الشاشة بسبب تراجع الإنتاج السينمائي السوري، عاد تاجا بقوة إلى التلفزيون، ليفرض حضوره كممثل استثنائي بموهبة متجددة. من أبرز أعماله الدرامية كانت مشاركاته مع المخرج الراحل حاتم علي، في "التغريبة الفلسطينية" (نص وليد سيف)، و"الزير سالم" (نص ممدوح عدوان)، إلى جانب دوره في "أسرار المدينة" (كتابة حسن سامي يوسف ونجيب نصير، إخراج هشام شربتجي). وقد تُوجت هذه المسيرة المتميزة عام 2004، حين اختارته مجلة تايم الأميركية ضمن قائمة أفضل 50 ممثلا في العالم.
إعلانلكن ما لا يعرفه كثيرون عن خالد تاجا، هو حسّه الكوميدي العفوي، وقدرته المدهشة على تحويل أكثر اللحظات قسوة إلى فسحة من السخرية اللاذعة، وهو ما يشهد عليه مقربوه، وفي طليعتهم الفنانان عبد الهادي الصبّاغ وأيمن رضا.
كما امتلك شجاعة نادرة في مواجهة المرض؛ فبعد أن هزم السرطان مرة، عاش بقية حياته برئة واحدة تقريبًا. والمثير للإعجاب، أنه حين خضع لعملية جراحية خطيرة في مدينة "روستوك" الألمانية لعلاج تمدد الأوعية الدموية، رفض التخدير الكامل، وظلّ يراقب خطوات الأطباء على الشاشة أمامه، دون أن يرتجف له جفن.