الذكرى المئوية لثورة 1924 «8».. كيف ساهم عرفات محمد عبد الله في ثورة 1924؟

تاج السر عثمان بابو

نتابع في هذه الحلقة دور عرفات محمد عبد الله ومساهمته في ثورة 1924، وفي الوعي والاستنارة.

1

يصف أحمد يوسف هاشم المساعدات الكبيرة التي كان يقدمها عرفات للطلاب السودانيين ويقول: “وكنت اذ ذاك اطلب العلم في الأزهر، وشاءت الظروف أن أكون ابان معمعان الحركة، كما شاءت أن يسبقني عرفات الى مصر بأيام قلائل وكنت أعرف عما صار اليه موقف اولئك الإخوان الذين هاجروا الى مصر في سنة 1923 وأوائل سنة 1924 من طلبة العلم وغيرهم من الارتباك وضيق الأمل، وأنهم بدون مبالغة كانوا الى ذلك الوقت أضيع من الايتام في مأدبة اللئام كما يقولون، ولم يكن ذلك لأن المصريين ضنوا عليهم بالتعليم أو تذليل السبيل، الا أن ذلك كان ميسورا معروضا لكل عابر سبيل، وانما كان مقبوضا مبسوطا معا ان وجد من حنكته التجارب واسعدته سلامة الذوق والاستعداد الفطرة والمؤهلات الكاملة والنبوغ في كل شئ، النبوغ في الحديث، والنبوغ في معرفة المسالك والتنوع في عرض الموقف، والنبوغ في جمال الاسلوب ورجاحة العقل وحدة الذهن، والنبوغ حتى في الإشارة والايماءة، وحتى في الجلسة ونفاذ النظرات استطاع أن يستحوذ على القلوب ، وأن يقلب القبض بسطا والعطاء كرما حاتميا ، وتجمعت كل هذه الصفات في فقيدنا ( عرفات) .

وكل ما ذكرت من إعانة ومعونة وتهيئة للإخوان الطلبة من دخول المدارس الداخلية مجانا ومن مساعدات قيمة نعدهم في دوائر الأعمال والمصالح”.

في مصر كان عرفات يسكن في حارة الجداوى نمرة (14) ، وكان منزله كعبةً يحج اليها أولئك المجاهدون في سبيل البلاد، وكان يقدم مساعدات كبيرة للطلاب، ويؤثر على نفسه ولو كانت به خصاصة لتقديم كل عون مادي لهم للاستمرار في دراستهم ، ونهل العلم والمعرفة.

2 عرفات السجين:

بعد مقتل السير لى استاك في مصر في نوفمبر سنة 1924 يقول أحمد يوسف هاشم ” في أصيل ذلك اليوم المشؤوم من نوفمبر سنة 1924 كنا اسير مهرولا في تلك الشوارع الهائجة المائجة جنوب حارة الجداوى نمرة (14) لاقابل عرفات، وفي أول المنعطف قابلني هابطا من درج المنزل مقطب الجبين بعض الشئ فسألته سؤال تلك الساعة الذي لاكه كل لسان هل علمت؟، فأجاب أن نعم، وهاهو طريقي الى الصحف استنكر الحادث اشد الاستنكار، ثم أكد أنها نكبة حلت بمصر والسودان، وطلب الي أن اصعد الى الدار والبث هناك، وكانت الساعة الخامسة مساءً لانتظر التفتيش، فأجبته تفتيش ماذا؟ ، فغض وتجهم وجابهنى بقول صارم الى متى تفهمون الحقائق، اني أخال بل اؤكد أنى سوف لن اصل الى إدارات الصحف، وإن وصلتها فقد لا أصل المنزل أو قد لا ابيت فيه، قالها وانطلق فلم اره بعدها الا في النيابة أو دار المحكمة، أجل ايها السادة هذا ما وقع ، فأي بصيرة أنفذ وأي عقل ارجح من هذا؟”.

بعدها أُعتقل عرفات وعدد من السودانيين ، ومكث عرفات 7 شهور، أي الى آخر مراحل التحقيق، وقد اضطرت النيابة الاعتذار له في ورقة الاتهام التي قدمت بها القتلة ال المحكمة، وذلك أن أحدهم كان قريب الشبه به الى حد بعيد . يقول أحمد يوسف هاشم ” لكن ذلك لم يؤثر في نفسيته وجلده ذلك الشبه ولا قوة الاتهام، وكان مطمئن النفس رضى البال الى أن الحق سيسطع في النهاية، ومن اسعد برؤية الرجل بأوسع معانى هذه الكلمة فهو ذاك الذي شاهد عرفات في هذه المحنة، كنا نذهب لنراه مرة كل اربعة عشر يوما الى ساحة المحكمة ننتهز فرصة المعارضة التي تقدم في أمر حبسه التى كان يتقدم بالدفاع عنه فيها بعض من رجالات الحزب الوطني المحامين، فكنا نرى ثغره مغترا من ابتسامة الرضى، وكتفه معتزا باشارة السخرية مما حير الألباب وألباب القضاة والمحامين على وجه الخصوص، أولك الذين لم يشهدوا متهما في حادث قتل وقتل من افظع ما عُرف عن القتل”.

يواصل أحمد يوسف هاشم ويقول: “كانت شبهة القضاء قوية، فلم يطلقوا سراحه الى نهاية مراحل التحقيق”.

3

بالتأمل في سيرة عرفات كان رائدا ونمطا جديدا لمثقفي الحركة الوطنية، واستطاع أن يخرج من ضيق الوظيفة الى رحاب الحياة العامة الواسعة، وعلم الناس معنى الفكر وأذاقهم طعم الحرية الشخصية على الأقل، لم يعرف عرفات الهدوء والسكينة ويخلد للحياة الرغدة والناعمة كما فعل أصحابه، بعد عودته لأرض الوطن، لكن واصل وبنى الجسر الذي ربط ماضيه بحاضره ، فشمر عن ساعده واخرج صحيفة “الفجر” وقبل ذلك ساهم بنشاط في اصدار مجلة “النهضة”.

كان عرفات رائدا من رواد الوطنية السودانية التي استمرت جذوتها بعد الاحتلال الانجليزي – المصرى، ومن الطلائع الأولي للثوريين السودانيين الذين ربطوا الفكر بالواقع،واسهموا بهذا القدر أو ذاك في ارساء قواعد النهضة االسياسية والاجتماعية والثقافية التي انتظمت البلاد حتى تحقق للسودان استقلاله عام 1956.

اكتسب عرفات تجارب متنوعة ، فبعد هزيمة ثورة 1924 وخروجه من السجن وضاقت به الحياة فتح حانوتا، وعمل في مواقع مختلفة ( شركة التعدين في سيناء، عمل بجدة . الخ) ، وتعرف على الحياة خارج البلاد مما أكسبه خبرة ونظرة واسعة.

توصل عرفات من خلال تجربته أنه من الخير خدمة البلاد من الداخل، وتوصل الي تقدير سليم في ذلك الوقت لتوازن القوى بعد هزيمة ثورة 1924، بضرورة تغيير أشكال النضال وأساليب العمل ضد الاستعمار، وفتح طرق ومسارب جديدة لتعبر من خلالها الحركة الوطنية عن نفسها.

بعد رجوعه للسودان انخرط في العمل الاصلاحي، كما في المساعدات لملجأ القرش والمدرسة الأهلية، ومدرسة الأحفاد، والاسواق الخيرية والأعمال المسرحية لهذه الأغراض.

التفت عرفات لأهمية الصحافة ودورها في بث الوعي الثقافي والاجتماعي ، وكان يشعر بأهميتها، علما بأنه كان من محررى مجلة اللواء الأبيض التي كان يصدرها ثوار 1924 سرا، واقتحم عرفات هذا المجال ، ويمكن القول أن اسس العمل الصحفي الحديث في السودان تم ارساؤها على يد عرفات ورفاقه، من حيث استحداث الأساليب الصحفية الحديثة، ومن زاوية طرق المواضيع المتعددة والمتنوعة التي تشبع أذواق القراء على مختلف مشاربهم وميولهم، واحترام شرف المهنة. الخ.

كان دور عرفات بارزا في اصدار مجلة “النهضة ” ومجلة ” الفجر” التي من خلالهما تطلع المتعلمون والقراء السودانيون الى عوالم ثقافية وفكرية متعددة، وكانتا منبرين مهمين لخدمة البلاد في شتى المجالات : التعليم ، الاقتصاد، الوعى السياسي، قضايا الصحة، التعريف بالافكار الحديثة والمعاصرة مثل: الاشتراكية ، نظرية التطور ، قضية نهضة المرأة وتعليمها وخروجها للعمل في الخدمة المدنية الحديثة، المدارس والاتجاهات الأدبية والفنية في العالم. هذا وقد تناولنا بالتفصيل هذه القضايا المتنوعة ودور عرفات فيها في دراسة سابقة ، راجع تاج السر عثمان : اسهام مجلتي “النهضة” و”الفجر”. في الاستنارة والتجديد ، الحوار المتمدن ، العددين بتاريخ : 14، و15 أغسطس 2015.

أما عرفات فقد طرق مواضيع متعددة كما صنفها قاسم عثمان نور في عشرة فصول شملت: القضايا العامة ، التعليم السياسة ، الأدب، الاجتماع، الفلسفة وعلم النفس ، اللغة ، الفنون والمسرح ، الترجمة. وكانت نظرة عرفات محمد عبد اله للمرأة متقدمة ودافع عن تعليمها وتثقيفها وخروجها للعمل.

للمزيد من التفاصيل راجع عرفات محمد عبد الله: قل هذا سبيلي، مجموعة مقالات، إعداد وتقديم د. قاسم عثمان نور، مركز الدراسات السودانية 2000.

نواصل

alsirbabo@yahoo.co.uk

الذكرى المئوية لثورة 1924 «7»..كيف ساهم عرفات محمد عبد الله في ثورة 1924؟

الوسومأحمد يوسف هاشم السودان تاج السر عثمان بابو ثورة 1924 عرفات محمد عبد الله مجلة الفجر مجلة النهضة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان ثورة 1924 فی ثورة 1924

إقرأ أيضاً:

رشا عوض والزبير باشا: ثورة الزريبتاريا

وطالما كنا في موضوع عقدة الذنب الليبرالية أنشر أدناه مقالاً من 2011 في أثر غفران الرئيس سلفا كير للشماليين ما تقدم من ذنبهم مع الجنوبيين عبر التاريخ وما تأخر.
وددت لو جاءت الأستاذة رشا عوض بوعي أوطد إلى موضوعة الرق في السودان في كلمتها المعنونة "عذراً سلفا إنهم احفاد الزبير باشا" بسودنايل. فقد ساءتها ردود بعض الكتاب على مسامحة السيد سلفا كير للشماليين منذ أيام. فهم في نظرها استعلوا على السماح بصلف شمالي استحضروا به نخاسة الزبير باشا ببراعة استحقوا بها الإحفاد له.
وكنت أطمع في أن تكون "شِبكَة" رشا، الأنصارية الغراء، مع تاريخ النخاسة مانعاً لها من الخوض في الهرج ضارب الأطناب حول الموضوع منذ آخر الثمانينات. وقد علمت ربما أن الثورة المهدية عند مؤرخين كثيرين هي ردة فعل لمنع تجارة الرقيق. فمن رأي هؤلاء المؤرخين أن المهدية هي ثورة "الزريبتاريا" أي ثورة أصحاب زرائب النخاسة التي خسرت من إجراءات محاربة الرق في نهاية الحكم التركي. بل وخرج منذ سنوات العقيد قرنق، بنصح من مؤرخين بزعمهم، ينعى على الإمام الصادق أنه سليل أسرة بنت ثروتها على اكتناز الرقيق.
لقد صدمني أن أجد كاتبة شجاعة الفؤاد كرشا عرضة لتاريخ رديء برع في الترويج له اليساريون الجزافيون من باب الكيد السياسي العاجز. فهو يبدأ بعلي عبد اللطيف شمالاًَ وينتهي بالزبير باشا جنوباً وكفى. ولو تجاوز طلبهم العلم بالزبير الحفيظة السياسية العاجلة لوجدوه ابن عصره لفترة النخاسة الأطلنطية والمحيط الهندي في أفريقيا. فهو ليس نسيج وحده ولا عاراً شمالياً لا يفارقهم حتى جنى الجنى. ويفرق المؤرخون بين نخاسة شرق أفريقيا أمثال الزبير باشا وتيبو تيب (السواحيلي) وميرابو وميسري (النيامويزي في تنزانيا الحالية) ونخاسة غرب أفريقيا. فالأوائل
بناة دول قائمة على محض النخاسة بينما قامت دول نخاسة غرب أفريقيا مثل الأسانتي في غانا واليوربا في نيجيريا على الرق وشواغل إدارية أخرى. وكان للأوائل جيوش مرتزقة مهابة قاسية مثل بازنقر الزبير باشا والروقا روقا في تنزانيا. فالذي لم يعرف عن الزبير إلا أنه سلف بعض خصومه السياسيين أزرى بالتاريخ وأغلق نافذته وقرر ان يعيشه كأضغاث. وهذا مستنكر من كاتب راتب كرشا تقلدت أمانة الخوض في الشأن العام وللعامة.
واستغربت أكثر لرشا تزج بالرق حيث لا مكان له من الإعراب. ساءها أن يعود الكتاب الذين انتقدتهم إلى مذبحة 1955 التي قتلت فيها الفرقة الجنوبية مدنيين شماليين وزوجاتهم وأطفالهم. فصرفتها على أنها حوادث لم تدم سوى يوم أو بعض يوم بينما استدامت مذابح الشمال للجنوبيين أعواماً. ولم أصدق كزازة رشا هنا. فهل قتل السنين مما يَجٌب قتل اليوم أو بعض اليوم. وربما بلغها وقوف المناضلة التي لا يشق لها غبار، ويني ماندلا، أمام محاكم الحقيقة والصفح في جنوب أفريقيا مدانة بقتل صبي أسود مظنة أنه جاسوس بينما ظل البيض يقتلون أهلها السود مذ حلوا جنوب أفريقيا في 1652. وبيت القصيد أن رشا تطفلت بالرق حيث لا ينبغي. فقالت إن أولئك الكتاب أوحوا بأن مذبحة 1955 عشوائية بلا سابق إنذار. ولكن من رأيها أن من وراء المذبحة تاريخ استرقاق الشمال للجنوب. وهذا هو العذر الذي أقبح من الذنب. فهل تأذن رشا لكل متأذ من مظلمة قديمة أن يتسدى ويوجع من أينا متى اتفق له:
بالنشاب
بالكوكاب
وفي الجنوب يا ماتوا رجال.
وآخر قولنا أن رشا تحدثت عن الشماليين كبنيان مرصوص يشد بعضه بعض. وانا عبد الله الشيوعي دا برا ودلوقي برا من ذنوب شماليين بلا حصر في الجنوب. وشهد لي بذلك، للغرابة، أستاذها في التاريخ اللغو لعلاقة الشمال بالجنوب، منصور خالد، حين استثني الحزب الشيوعي بعد لأي من جريرة "فشل الصفوة وإدمانها". وسنعود إليه عن قريب.

 

ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • متى تبدأ عشر ذي الحجة؟.. موعد وتواريخ وقفة عرفات وعيد الأضحى
  • ذمار تحيي الذكرى السنوية للصرخة بفعالية مركزية تحت شعار “الشعار سلاح وموقف”
  • ناطق حكومة التغيير يوضح جانبا من الإنجازات والجهود التي بذلت في التصدي للعدوان الأمريكي
  • إعلان نتائج الأوزان الرسمية لبطولة “PFL MENA” التي تقام اليوم في جدة
  • د.الدرديري محمد احمد: ملحمة الصمود .. الهدية التي قدّمتها لنا الإمارات وهي لا تدري!!
  • عمان الأهلية تُشارك وتُساهم برعاية المؤتمر 11 لصحة السمع والتوازن 2025
  • ماذا نعلم عن جماعتي جيش محمد ولشكر طيبة التي استهدفتهما الهند في باكستان؟
  • هكذا ساهم منتخبون بطريقة مشبوهة في جمع التوقيعات لسعيدة نغزة
  • مؤسسة المياه بالحديدة تنظم فعالية خطابية بمناسبة الذكرى السنوية للصرخة
  • رشا عوض والزبير باشا: ثورة الزريبتاريا