دعا وزير الخارجية المصري سابقا، نبيل فهمي، إلى البناء على الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية ضد "إسرائيل" بشأن التدابير الاحترازية المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا ضمن دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها ضد دولة الاحتلال، ومتابعته في المحافل الدولية كافة.

وأمرت المحكمة دولة، الجمعة، الاحتلال الإسرائيلي باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في قطاع غزة والتحريض المباشر عليها، وتوفير المساعدات المساعدات الإنسانية للفلسطينيين ومنع عمليات التدمير ورفع تقرير بالتزامها بهذه الإجراءات في غضون شهر واحد.



وأعرب فهمي، في حوار خاص مع "عربي21"، عن اعتقاده بأن هناك تغييرا يحدث في مواقف بعض الحكومات الغربية تجاه ما يجري في قطاع غزة بسبب ضغوط الرأي العام إلا أنها ليست كافية بعد عقود طويلة من الدعم المطلق لإسرائيل منذ إنشائها.

وأكد الوزير المصري السابق أن وقف إطلاق النار هو مسؤولية إسرائيلية أمريكية في المقام الأول، وتتحمل الولايات المتحدة المسؤولية السياسية باعتبارها أكبر وأهم داعم لإسرائيل عسكريا وماديا، وموقفها من معارضتها وقف لإطلاق النار هو موقف مرفوض، والتحول الأخير من وقف كامل لإطلاق النار إلى المطالبة بوقف ممتد لاعتبارات إنسانية هو تحول غير كاف.

شغل فهمي منصب سفير مصر في الولايات المتحدة الأمريكية، (1999-2008)، وهو ابن إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري الأسبق الذي استقال أثناء مفاوضات كامب ديفيد عام 1979، ومختص فى شؤون الأمن الإقليمي والدولي ونزع السلاح، ويشغل منصب عميد كلية الشؤون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية في القاهرة.

وتاليا نص الحوار الخاص:

كيف يمكن الاستفادة من الحكم غير المسبوق من قبل محكمة العدل الدولية في الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا ضد دولة الاحتلال؟
الحكم بالغ الأهمية وينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار وجدية كاملة ومتابعة باعتباره خطوة مهمة، اعتبارات ذلك تتلخص في الآتي، بدون شك كنا نتطلع إلى صدور حكم صريح يدعو إلى وقف إطلاق النار مع هذا بمراجعة مقدمة الحكم وقرار طالبة إسرائيل باتخاذ التدابير الاحترازية المؤقتة نجدد العديد من النقاط الإيجابية، أهمها قبول دعوى جنوب افريقيا ورفض طلب إسرائيل برفض الدعوى.


قرار محكمة العدل الدولية أراه قرار مهم للغاية وخطوة يجب البناء عليها عربيا وعالميا، والدعوة الجزائرية بطرح القرار على مجلس الأمن هو خطوة أولى سليمة ويجب أن يتبع ذلك خطة عمل عربية متكاملة تعمل على متابعة هذه الإجراءات في مختلف المحافل الدولية والإقليمية في سياق قانون وإنساني.

إلى أي مدى يدين قرار محكمة العدل الدولية دولة الاحتلال؟
قرار المحكمة باتخاذ التدابير الاحترازية يعني أن المحكمة رأت أن هناك أدلة كافية وأن هناك مخاطر جسيمة تستدعي التعامل مع الاتهام، وتستدعي طرح الإجراءات الاحترازية وتشمل مجموعة من الخطوات المطلوبة من إسرائيل بتجنب أي إجراءات أو ممارسات تساهم في الاتهام الموجه لها من بين ذلك ممارسات المسؤولين وتصريحاتهم والسياسات التي يتبنوها والنقطة المهمة في القرار هو إلزام إسرائيل بأن ترفع تقريرا إلى المحكمة في غضون شهر بشأن كل التدابير المؤقتة.


هل يحمل القرار الدول الداعمة المسؤولية القانونية والأخلاقية؟
قد تكون النقطة الجوهرية في القرار هو أن نجد إسرائيل متهمة بشكل مباشر وأنها تحاسب في إطار قانوني وهو أكبر إطار قانوني دولي رغم الحصانة التي اعتدنا عليها بدعم من الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة ومحصلة كل ذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار وأن يؤخذ رأي المحكمة على أنه توجيه وتنبيه للمخاطر الموجودة والتوجيه بعدم المضي في هذا الطريق، وهذا توجيه ليس لإسرائيل بل يحمل في طياته مسؤوليات محتملة لمؤيدي إسرائيل ومن يوفر السلاح.


لم تلتزم سلطات الاحتلال حتى الآن بالقرار كما يبدو هل تتذرع بعدم الإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى المقاومة؟
مقدمة النقاط التدابير الاحترازية تشير إلى مسألة الرهائن إنما المقدمة تتبنى كافة النقاط التي تم طرحها من جانب دولة جنوب أفريقيا في إبراز كافة مخالفات إسرائيل المتعلقة بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني أو التهجير أو العقاب الجماعي أو بمنع توفير المساعدات الإنسانية، والمسألة ليست الارتكاز إلى نقطة دون التعامل مع النقاط الأخرى.

إذا كان تم الإشارة إلى الرهائن باعتبارهم مرتبطين ببداية الحدث الأخير الذي بدء في السابع من أكتوبر يجب الإشارة أيضا إلى أهمية الإفراج عن الفلسطينيين المحتجزين لدى إسرائيل.


في ظل المؤشرات بعدم التزام الاحتلال بقرار المحكمة الدولية ..هل يسري هذا الموقف على الدول الداعمة؟
قرارات المحكمة توصيات استشارية ملزمة قانونية من حيث المبدأ والجانب النظري وليس لديها أدوات تنفيذية، ولكن القرارات تشكل أساس قانوني لمحاسبة إسرائيل أو من يدعم إسرائيل في كل ما يتعارض مع تنفيذ توصيات المحكمة.

بدون شك إسرائيل سوف تحاول عدم الالتزام بقرار المحكمة وهو ما اعتدنا عليه، ولكن هناك دول غربية كثيرة تدعي أنها تتمسك بالقانون الدولي وستجد من الصعوبة أن تستمر على مواقفها في دعم إسرائيل خشية أن تتحمل المسؤولية أمام المحكمة إذا لم تتحرك إسرائيل في تنفيذ التدابير الاحترازية بشكل كامل.

اعتقادي رغم أن قرار المحكمة ملزم قانونيا إلا أن إسرائيل لن تلتزم به، ولكنه يشكل ضغط قانوني وسياسي على المجمتع الدولي ككل.

من يملك قرار وقف إطلاق النار في غزة إسرائيل أم الولايات المتحدة ولماذا تدعم استمرار الحرب؟
عمليا على الأرض الذي يحدد إطلاق النار من عدمه هو الجانب الإسرائيلي لكن هذا لا ينفي تماما إطلاقا مسؤولية الولايات المتحدة، بل نحملها قدرا من المسؤولية باعتبارها أكبر حليف لإسرائيل والمورد الرئيسي والداعم لها عسكريا وماديا، ومن ثم من الناحية القانونية هي مسؤولية إسرائيلية لكن سياسيا يتحمل الجانب الأمريكي مسؤولية كبيرة.

الموقف الأمريكي هو موقف مرفوض؛ وقف إطلاق النار واجب ، ما نراه أن الموقف الأمريكي يتحول من وقف كامل لإطلاق النار إلى المطالبة بوقف ممتد لاعتبارات إنسانية هذا القدر من التحول غير كاف.

شغلت منصب سفير مصر  لسنوات عديدة في واشنطن، هل اللوبي الصهيوني هو الذي يضغط على إدارة بايدن أم هو التزام سياسي ديني تجاه الحركة الصهيونية؟

في اعتقادي أن كل الاعتبارات مرتبطة ببعضها لحد كبير، اللوبي الصهيوني مؤثر وممتد عبر سنين طويلة وهذا يخلق رصيد ووزن معين في الساحة السياسية الأمريكية، وبايدن بالتحديد له مواقف بالغة القوة في تأييد إسرائيل وله مقولة مشهورة إنه "لا يشترط بي أن أكون يهوديا لأصبح صهيونيا"، جزء من التفاعل بين اللوبي الصهيوني والسياسة الأمريكية هو التفاعل مع التيارات الدينية اليمينة ومن ثم هذه العناصر تدخل في الحسبان.

رغم التمازج بين السياسة  الأمريكية واللوبي الصهيوني هل ابتعد الرأي  العام الأمريكي عن موقف إدارة بلاده؟

مع هذا التماهي الأمريكي في دعم إسرائيل بشكل مطلق، يجب أن نتابع ونلاحظ أن وحشية العمليات الإسرائيلية في غزة واستمرار القتل بما يتجاوز 60% من النساء والأطفال أثر في السياحة السياسية الأمريكية والرأي العام الأمريكي وخاصة فئة الشباب والذي يطالب الآن بوقف إطلاق النار، هذا تطور جديد لم يصل بعد للذروة المطلوبة والتأثير المطلوب، ولكن أعتقد أنه يعكس بداية تقلص التأييد الأعمى لإسرائيل في كل القضايا المطروحة بشأن حقوق الفلسطينيين.

إلى أوروبا.. كيف تقرأ انفصال بعض الحكومات الغربية عن شعوبها التي تطالب بوقف الحرب في غزة وتغير موقف بعض الحكومات الأخرى من الحرب؟
المواقف الرسمية للحكومات الأوروبية هي محصلة مواقف عبر عقود من الزمن وهي تتحرك وتتغير ببطء لكن موقف الرأي العام هو موقف يعكس ضغط اللحظة وتطورها ويؤدي إلى تعبير عن الرأي بشكل سريع وحتى يتحول هذا الغضب إلى موقف سياسي في مراكز البحث وفي المحافل النيابية المختلفة الأمر يأخذ الكثير من الوقت.


هناك تحول في الرأي العام الغربي وهو تحول إيجابي تجاه القضية الفلسطينية وضد الاعتداءات الإسرائيلية ولكن ليس تحول كبير يمكن الاعتماد عليه ونثق في أنه سوف يغير الموقف الرسمي سريعا، ويجب  أيضا الأخذ في الاعتبار أن بعض الحكومات الأوربية غيرت مواقفها واتخذت مواقف بعيدة عن التحالف الأوروبي مثل بلجيكا واليونان وإسبانيا والنرويج وإيرلندا كلها دول تطالب صراحة بوقف إطلاق النار دون تردد أو تحفظ.

إذن الأمر يحتاج إلى جهد كبير لكن هناك قدر من التطور نبني عليه، قرار محكمة العدل الدولية قرار مهم إنما ليس نهاية إنما بداية صراع قانوني وسياسي للتعامل مع الأزمة في غزة.

لماذا محاولات التطبيع مستمرة في المنطقة رغم الحرب على غزة؟
نتنياهو يحاول أن يركز الأضواء على العلاقات بينه وبين دول المنطقة وليس على مخالفاته الصارخة ضد الشعب الفلسطيني وهذا مسعاه، حتى قبل أحداث السابع من أكتوبر كان يقول إن القضية الفلسطينية ليست قضية ضاغطة وليست قضية لها أولوية، ونتنياهو لا يؤمن بحل الدولتين، ويشكل الحكومة من تيارات سياسية بالغة التطرف وتتبنى مواقف عنصرية.

بعد استحالة العيش في غزة بعد الحرب هل تعتقد أن مخطط التهجير لا يزال قائما ومن يملك إيقافه؟
مخطط التهجير كان ولا يزال قائما من الجانب الإسرائيلي منذ إنشاء الدولة الإسرائيلية والهدف منه هو تخفيف الكثافة الفلسطينية وتمييع الهوية الفلسطينية أيا كان الأسلوب سواء من خلال التهجير تجاه الأردن أو مصر هذا هو المسعي الإسرائيلي، وهذا هو سبب رفض مصر تصفية القضية الفلسطينية بالأدوات العسكرية أو أي محاولات لتهجير الفلسطينيين قسريا من أرضهم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مقابلات المصري الاحتلال غزة الفلسطيني مصر امريكا فلسطين غزة الاحتلال المزيد في سياسة مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التدابیر الاحترازیة محکمة العدل الدولیة الولایات المتحدة وقف إطلاق النار قرار المحکمة بعض الحکومات الرأی العام فی غزة

إقرأ أيضاً:

المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا: جدلية العدالة والسيادة وتجربة السودان نموذجًا

المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا: جدلية العدالة والسيادة وتجربة السودان نموذجًا

محمد تورشين *

تُعدّ تجربة المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا منذ دخول ميثاق روما حيز التنفيذ في عام 2002 من أكثر التجارب القانونية والسياسية إثارةً للجدل، إذ تمثل المحكمة إحدى أهم المؤسسات القضائية الدولية التي أنشأها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بهدف محاكمة الأفراد المتورطين في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان، وهي أخطر الانتهاكات التي عانت منها البشرية في تاريخها الحديث.

ما يميز المحكمة الجنائية الدولية هو منحها صلاحيات غير مسبوقة تخوّلها محاكمة كبار المسؤولين، بما في ذلك رؤساء الدول والحكومات أثناء وجودهم في السلطة، وهو ما جعلها في قلب صراع دائم بين مبادئ العدالة الدولية ومتطلبات السيادة الوطنية، خاصة في القارة الإفريقية التي تضم عددًا كبيرًا من الأنظمة السلطوية التي يصعب فيها إخضاع المسؤولين للمحاسبة القضائية.

لقد جاء ميثاق روما المؤسس للمحكمة ليملأ فراغًا كبيرًا في النظام القانوني الدولي، حيث نصّ على أن اختصاص المحكمة يكون تكميليًا لا بديلاً للأنظمة القضائية الوطنية، أي أنها لا تتدخل إلا عندما تكون الدول غير قادرة أو غير راغبة في إجراء محاكمات حقيقية.

كما منح الميثاق مجلس الأمن الدولي، بوصفه الجهة المسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين، صلاحية إحالة أي قضية إلى المحكمة حتى وإن لم تكن الدولة المعنية طرفًا في الميثاق، وهو النص الذي شكّل مدخلًا مهمًا لتدخل المحكمة في قضايا مثل دارفور في السودان.

منذ بدء عملها، كانت القارة الإفريقية الساحة الأبرز لتجارب المحكمة الجنائية الدولية، إذ تركزت معظم قضاياها الأولى في إفريقيا، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة حول ما سُمي بسياسة “الانتقائية” أو “التركيز الإفريقي”، بينما يرى المدافعون عن المحكمة أن أغلب القضايا الإفريقية جاءت بناءً على إحالات رسمية من حكومات تلك الدول أو من مجلس الأمن الدولي.

كانت أوغندا أول دولة إفريقية تُحال قضيتها إلى المحكمة في عام 2003، بعد أن طلبت الحكومة الأوغندية تدخل المحكمة للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها “جيش الرب للمقاومة” بقيادة جوزيف كوني في شمال البلاد، حيث اتُهم كوني وعدد من قادته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، غير أن تنفيذ مذكرات التوقيف ظل معلقًا بسبب استمرار فرار كوني حتى اليوم.

أما في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد شكلت تجربة المحكمة هناك واحدة من أنجح النماذج الإفريقية، إذ تمت محاكمة القائد الميليشياوي توماس لوبانغا عام 2012 بتهمة تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة، ليكون أول حكم يصدر عن المحكمة منذ تأسيسها، كما تمت إدانة كل من جرمان كاتانغا وبوسكو نتاغاندا في قضايا مشابهة، مما عزز من مكانة المحكمة كآلية فاعلة لتحقيق العدالة الدولية.

وفي ساحل العاج، تدخلت المحكمة عقب أعمال العنف التي تلت الانتخابات الرئاسية لعام 2010، حيث أُحيل ملف الرئيس السابق لوران غباغبو وزوجته سيمون غباغبو ونائبه شارل بل غودي إلى المحكمة بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقد أُدين بعضهم بينما بُرئ غباغبو لاحقًا، مما أثار نقاشًا واسعًا حول حدود تدخل المحكمة في الأزمات السياسية الداخلية.

أما في كينيا، فقد أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق الرئيس الأسبق أوهورو كينياتا ونائبه ويليام روتو على خلفية أحداث العنف التي أعقبت انتخابات عام 2007، غير أن التهم أُسقطت لاحقًا بسبب ضعف الأدلة وعدم تعاون الحكومة، وهو ما كشف عن الصعوبات التي تواجه المحكمة في إنفاذ قراراتها عندما تغيب الإرادة السياسية.

وتظل حالة السودان من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارةً للجدل في مسار المحكمة، إذ على الرغم من أن السودان لم يوقّع على ميثاق روما، فإن مجلس الأمن الدولي أحال ملف دارفور إلى المحكمة في عام 2005 بموجب القرار 1593 استنادًا إلى سلطاته في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بعد أن عجز القضاء السوداني عن محاسبة المتورطين في الجرائم التي شهدها الإقليم منذ عام 2003. وبناءً على ذلك، فتحت المحكمة تحقيقات واسعة أفضت إلى إصدار مذكرات توقيف بحق عدد من كبار المسؤولين، من بينهم الرئيس السابق عمر البشير ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين ووالي كردفان السابق أحمد هارون، إضافة إلى القائد الميليشياوي علي كوشيب الذي أُدين مؤخرًا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أول حكم من نوعه ضد شخصية سودانية بارزة.

تمثل إدانة كوشيب خطوة مهمة في مسار العدالة الدولية، إذ أكدت أن مرور الزمن لا يمنع من محاسبة الجناة، كما أعادت الأمل لضحايا دارفور الذين حُرموا لسنوات طويلة من الإنصاف بسبب محاولات النظام السابق التهرب من العدالة عبر إنشاء محاكم صورية أو إعادة دمج الميليشيات في أجهزة الدولة، مثلما حدث عندما تم تحويل قوات حرس الحدود إلى قوات الدعم السريع في عام 2013 تحت إشراف جهاز الأمن والمخابرات. غير أن استمرار الإفلات من العقاب لبقية المتهمين ما يزال يمثل تحديًا أمام مصداقية المحكمة وقدرتها على تنفيذ قراراتها في ظل غياب التعاون الكامل من السلطات السودانية.

ورغم الانتقادات الموجهة إلى المحكمة الجنائية الدولية من حيث الانتقائية وتسييس العدالة وضعف آليات التنفيذ، إلا أنها تبقى من وجهة نظر الكثيرين أداة ضرورية لمواجهة الإفلات من العقاب، خاصة في الدول التي تعجز فيها الأنظمة القضائية الوطنية عن القيام بواجبها.

وفي الحالة السودانية، فإن استمرار التعاون مع المحكمة يعد ضرورة لتحقيق العدالة لضحايا الحرب في دارفور وغيرهم، خصوصًا في ظل هشاشة مؤسسات الدولة واستمرار النزاعات المسلحة. كما يمكن للسودان أن يستفيد من تجربة المحاكم المختلطة التي أثبتت نجاعتها في دول مثل سيراليون وكمبوديا، والتي تجمع بين الاختصاص الدولي والوطني بما يعزز من مصداقية العدالة ويضمن احترام السيادة الوطنية.

إن تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية في السودان إلى جانب التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية يمثل خطوة أساسية نحو بناء دولة القانون، وترسيخ ثقافة المساءلة، وتمكين الضحايا من نيل حقوقهم.

كما أن فتح تحقيقات جدية في الجرائم المرتكبة منذ اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 سيُعد اختبارًا حقيقيًا لمدى استعداد السودان للالتزام بالعدالة الدولية، وتمهيدًا للانتقال من مرحلة الفوضى والعنف إلى مرحلة العدالة والمصالحة وبناء السلام المستدام. فالمحكمة الجنائية الدولية، رغم كل ما يؤخذ عليها، تظل أملًا لضحايا الانتهاكات في القارة الإفريقية، ومنصة لإحياء فكرة أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت.

* باحث وكاتب في الشؤون الأفريقية

الوسومأحمد هارون أوغندا السودان المحكمة الجنائية الدولية جمهورية الكونغو الديمقراطية دارفور ساحل العاج عبد الرحيم محمد حسين على كوشيب عمر البشير كينيا محمد تورشين

مقالات مشابهة

  • مدير إف بي آي السابق يدفع ببراءته في محاكمة يحركها ترامب
  • وزير خارجية إسرائيل: لن نسمح لحماس بحُكم غزة
  • وزير التنمية الدولية النرويجي يصل إلى مستشفي العريش لزيارة مصابي غزة
  • وزير خارجية هولندا: اتفاق غزة خطوة مهمة والتنفيذ الكامل أمر حيوي
  • المحكمة الجنائية الدولية في إفريقيا: جدلية العدالة والسيادة وتجربة السودان نموذجًا
  • وزير خارجية تركيا: ما تقوم به إسرائيل جنوب سوريا يهدد أمننا القومي
  • بتهمة الكذب على الكونغرس.. مدير "إف بي آي" السابق يمثل أمام المحكمة
  • من ساعد إسرائيل سيحاسب.. شكوى ضد ميلوني أمام المحكمة الدولية
  • إحالة جورجيا ميلوني للجنائية الدولية بتهمة التواطؤ في إبادة جماعية بغزة
  • رئيس المحكمة الدستورية الأردنية يلتقي وزير العدل المغربي