طه جعفر الخليفة
قال صاد:
"إسمي صاد،ما يحجب ضوء الشمس و جلاءُ ألوان النجوم و الكواكب في سماء بلادي نوعٌ من الغبار العنيد. بما أن السماء في بلادي ليست صافية قررت الإقلاع عن التذكر. بالمناسبة الإقلاع عن التذكر سهلٌ جدا. حدث ذلك عندما توقفت فجأة عن شُرْبِ الخمْر، التدخين، سفّ السعوط و امتنعت عن الأكل المُصنّف و شرب الماء في أوقات ذروة العطش.
تعرفون عن المتغيرات في علم الجَبْر و تعرفون عن صاد أنه متغير تابع. علاقتي بسين حميمة،دافئة و متقلبة. توقفت الدوال عن الإشارات لأشياء مفهومة. الدالّة تُشِير.
أمامي شاشة تلفاز ذكي، لابتوبان، مجموعة من الكتب التافهة و الأوراق غير ذات النفع في ماي قومل درايف عدد من الكتب الجيّدة بمعيار أيام التذكر و الإحتفاء الأخرق بالبلاد المنسية التي يتلصق تاريخها في تاريخي الشخصي و يلوثة بالخرافات و الأكاذيب الماضية نحو نهايات شديدة الخراب.
أذكر أن فلانة قالت "الخيال مصيدة، فرأئسها صور، قهقهات و ربما دموع و أحياناً أصوات . متوحشٌ من ينصب الشِراك""
سأكلمكم عن الطبيب حَمّو الذي عشق زهرة و هام بحبها فقرر السيطرة علي جمالها عبر إجراءت الزواج. زهرة جميلة و كاملة. نعم كاملة في جمالها طائف من سحر الصحراء. تداوت عبر علاقتها مع الدكتور حمّو من متلازمة ما بعد الصدمة. زهرة من فتيات المساليت الناجيات من مذابح الجنجويد في الجنينة و ما حولها. عمل حمّو مع منظمة أطباء بلا حدود في مالي و أفريقيا الوسطي و هو الآن مع بعثتهم في معسكرات أدري في الأراضي التشادية. في أول ظهور لزهرة في عوالمه جاءت كناجية تركت في الجنينة جثامين أهلها و أقصد الأب و الأم و الأخوات و الأخوان. ما أنجاها من الذبح و التقطيع بالفؤؤس أنها كانت في بيت جيرانها من أولاد راشد. أولاد راشد ليسو من أهداف الجنجويد الذين يريدون قتل المساليت فقط.
قال صاد
" بالمناسبة إلتقيت مع حمّو و زهرة في واحدة من مصيدات الخيال الغبية. تتزين زهرة بالدهن الحلو و زيت الكركار لأن امها ممرضة خريجة كلية التمريض في الخرطوم و أبوها تخرج في معهد الإتصالات السلكية و اللاسلكية. أرتبطت أمها بعلاقة حميمة مع ابوها أيام إقامتهم في الخرطوم. تزوجا و كانت زهرة آخر عنقودهما وُلِدت في الجنينة. الأب المتعلم و الأم المتعلمة هما سبب قطيعة زهرة مع الكريمات و مستحضرات التجميل عدا الجلسرين أيام البرد.
كتب حمّو مرةً عن نفسه : جَمْرَت بالوجْد قلبَه الأحزانْ. أحزانه مسافرة، هادرة و سادرة في غيّها المستمر. سأل نفسه كيف يجد القلبُ في هذا المكان القاحل حبّاً. النواحي حول أدْرِي خطرة.الشيطان يتعقب خطوات الهاربين. الدرب إلي أدْرِي مهْربٌ من الموت.
كثيرا ما كان يقول لنفسه حتي في معسكر النازحين لسنا بأمان. نسمع هدير المدافع في الجنينة من مكاننا في حدود تشاد. المسافة قصيرة فهي أقل من ثلاثين كيلومتراً.
جاءت عبر هذا الدرب. جِىء بها إلي المشفي المُتَكلَف لأنها كانت ترتجف. منهكة و حافية. مغطاة بالتراب الملتصق بعرق خوفها علي الأجزاء المكشوفة من جسمها. قام بما يلزم. قاس درجة حرارة جسمها. طلب من الممرض أن يأخذ منها عينات بول و دم.
كانت بالمشفي ممرضات من الكنغو و الكاميرن و طبيبة فرنسية شابة و عدد من المتطوعين السودانين. طلبت منه الطبيبة الفرنسية سيلين ضرورة معاينتها للتحقق من الإغتصاب، طلبت ذلك بنوع من الغضب. أعطاها أدوية و طلب منها انتظار مقابلة الطبيبة حتي يطفيء النار المتوقع إشتعالها لاحقاً مع سيلين. تهدمت زهرة علي الكرسي و جلست خائرة القوي. غشا وجهها خليط من الحزن و الخوف. أخذتها الطبية منتزعة إياها من حالة القنوط تلك. نادته ليقوم بالترجمة. رفضت زهرة الكلام و حملت أدويتها و غادرت. لم يثق في عودتها لأخذ بقية العلاج بعد ظهور نتائج الفحصوات. سألها هل عندك مكان تذهبين إليه؟ قالت نعم. تبعها قلبه أولا ثم نظراته المدماة بالفجائج المتواترة و الرغبة.
ذهب للإستراحة المخصصة للعاملين الذكور. تمدد في سريره يسترجع حصيلة اليوم من نكبات. زارت خاطره، إبتسم لها، رأها في حُلَة صيفية بمدينة بعيدة و متقدمة. قطع سكون خلوته صوت أحدهم يقول: يطلبونك في العيادة. عندما وصل إلي المشفي رأي ما أفقده مهنيته بالكامل عندما خلعت أسمالها. فتصبب عرقاً و استوثق من أنه مسحور و أنه في سبيله ليكون مَحَلّق آخر أمام تاجوجه التي مزّق الحزن، الخوف و العنف وجدانها. تعرّضت زهرة للإغتصاب.
لم تكن مشكلة بالنسبة له، عنده من المعرفة المهنية ما يطبب به جراح الجسد و أتعابه. عنده درجة معقول من الخبرة في التعامل مع إنتكاسات الروح جراء الفواجع" . إنتهي ما قاله صاد عن حمّو وزهرة
حمّو منتوج آدمي في سودان ما قبل حرب البرهان و حميدتي. بالمناسبة ما زالت تلك الحرب مستعرة. يعرف الجميع كيف بدأت. لا يعرفون متي تنتهي. يعرف الكثيرون أهداف هذه الحرب و البعض لا يعرف.
في سودان ما قبل الحرب يتزوج الطبيب مريضته، يغتصب المدرس تلميذته، يعتدي معلّم القرآن علي أطفال خلوته. يري بعض السودانيين من الشمال و الوسط أبناء دارفور و كردفان و غيرهم من أهالي النيل الأزرق أنهم "عبيد ساكت". كان أن صوّت الجنوبيون في إستفتاء عام 2011م علي الإنفصال و بناء دولتهم. لأنهم يأسوا من إستمرار الحروب، التهميش الإقنصادي و السياسي و القهر الثقافي.
عندما غادر حمّو رفقة زوجته زهرة مدينة تونس متوجها إلي فرنسا. انتهت زهرة من علاج الإكتئاب و تلقت تدريبا سيكلوجيا متقدما في التعامل مع متلازمة ما بعد الصدمة و مترتباتها. لم تكن فكرتهما الإستقرار في فرنسا. فانتظرا في باريس صدور تأشيرات دخولهم لبريطانيا. إستقرا هناك و يتابعان أخبار الحرب من السوشيال ميديا و محطات التلفزة العربية من شقتهم في ضاحية بيثنال قرين. كتبت هذه القصة لأنه قد جاء بالأخبار أن طبيب سوداني قد مات نتيجة عدة طعنات بسكين مطبخ في منزله بضاحية بيثنال قرين. يقال أن زهرة قتلته عندما عَلِمت بعلاقته مع الطبيبة الفرنسية سيلين التي تزوره هنا في لندن.
طه جعفر الخليفة
اونتاريو- كندا
2 فبراير 2024م
taha.e.taha@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی الجنینة
إقرأ أيضاً:
عندما تذوب الأوهام في بحر المصالح
زكريا الحسني
لا توجد في السياسة أخلاقيات أو مشاعر أو ضمير؛ ففي ساحة السياسة يُعدُّ النظر إلى المصالح هو المبدأ الأساسي الذي يتصدر كل الاعتبارات، ومن هنا تنبثق رواية الدول وعلاقاتها ببعضها البعض، إذ تُظهر دراسة التاريخ بتأنٍ وتدبُّر كيف تُبنى ثقافتنا في التعامل مع الدول والشعوب.
وفي هذا السياق، تتحول السياسة إلى رقصة معقدة تتداخل فيها خطوات الحكمة والدهاء مع مصالح لا تُقاس إلا بالدقة والقراءة العميقة لمعالم الزمن. فكل حركة تُرسم على لوحة التاريخ تُذكِّرنا بأن القوة لا تكمن في العنف أو الهيمنة فحسب؛ بل في قدرة القادة على قراءة معاني الماضي واستشراف مستقبل يستند إلى قيم تضيء دروب الشعوب.
وهنا يبقى السؤال قائمًا: هل ستظل الإنسانية أسيرة لمصالحها المادية، أم ستنهض لترسم مسارًا جديدًا يُعيد للعدل والإخاء مكانتهما في عالمٍ تسيطر فيه الحكمة على الأنانية؟
على الجانب الآخر، ظهر فشل زيلينسكي السياسي جليًّا، إذ وضع بلاده في فوهة المدفع دون بصيرة.. وكما أنشد الشافعي يومًا:
وَاعْجَبْ لِعُصْفُوْرٍ يُزَاحِمُ بَاشِقًا
إلاّ لِطَيْشَتِهِ.. وَخِفَّةِ عَقْلِهِ
وكأنّه يُعيد مشهد أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس، حين سلَّم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا، ليُسدل الستار على سبعة قرون من الوجود الإسلامي؛ ذلك الفردوس الذي لا تزال الحضارات تتغنَّى بمعالمه. في ذلك الزمان، وبخته أمه قائلة: “نعم، ابكِ كالنساءِ ملكًا لم تدافع عنه كالرجال.”
واليوم، يخرج ترامب بتصريحاته الهوليوودية ليعلن: "نحن نريد المعادن النادرة الباقية، وما بحوزة الروس فهو لهم"؛ فهنيئًا لك يا زيلينسكي؛ لقد ذهبت حميتك لتصنع منك بطلًا قوميًا، لكنك صرت بطلًا في مسرحية عبثية؛ حيث تحولت ثروات بلدك إلى غنائم تتقاسمها الذئاب، بينما أصبحت أنت نكرة في تقرير مصيرك ومصير أمتك.
لو أنك واصلت مسيرتك في التمثيل، لكان ذلك أولى لك من كل هذا الدمار والخراب الذي تركته خلفك. يبدو أنك لا تفقه في السياسة ولا تستوعب الأبعاد الاستراتيجية، وربما لم تقرأ التاريخ يومًا. وأما أمريكا، فيبدو أنها باعت أوروبا قاطبة ببخس دراهم.. "إنها حقًّا لعبة الأمم".
كررت روسيا مرارًا وتكرارًا نصيحتها لأوكرانيا: "كوني على الحياد، لا تكوني معنا، فلا ضير في ذلك، ولكن إياك والانضمام إلى معسكر الغرب، فإن الغرب يلعب في الماء العكر". ومع ذلك، أصر زيلينسكي على موقفه، رافضًا كل دعوات التفاهم ومقطوعًا عن كل سبل الحوار. حينها قالت روسيا: "إذا لم تتركي لنا مجالًا للتفاهم، فماذا جنيتَ يا زيلينسكي سوى العداء والدمار؟".
وهكذا، انقلبت الأحلام إلى كوابيس، وتحولت الطموحات إلى رماد. في لعبة الأمم، لا مكان للطيش ولا للعواطف؛ فالتاريخ لا يرحم، والسياسة لا تعرف صديقًا دائمًا أو عدوًّا أبديًّا. قد يكون زيلينسكي أراد المجد، لكنه وجد نفسه في متاهة الأوهام، وأضاع بلاده بين أنياب القوى الكبرى.
وفي مشهد النهاية، تتبدد الأوهام وتتكشف الحقائق؛ تسقط الأقنعة، ويظهر أن القوة ليست في العنتريات، بل في الحكمة والدهاء. التاريخ لا يُكتب بأحلام الطامحين، بل بأفعال الحكماء الذين يدركون أن "الرياح لا تجري بما تشتهي السفن".
ليبقى السؤال حاضرًا: هل كان الثمن يستحق كل هذا الخراب؟ أم أن العناد أعمى البصيرة وأضاع البلاد؟