صحيفة الاتحاد:
2025-05-14@21:26:27 GMT

صلاح ستيتيّة.. قراءة الوجه الآخر للصّمت

تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT

بقلم: فرانسوا كسافيي
ترجمة: أحمد حميدة

«الشّعر الذي يتسنّم قمّة علاماتنا، هو بالنّهاية العلامة الوحيدة التي لا تقبل التّبعيض والتجزئة، وأعني بذلك أنّ غموضه.. غالباً ما ينكفئ لفائدة كمال آخر جديد. كما أعني أنّ العلامة بوصفها ذات طبيعة مزدوجة - إذ تكون متلكّأة بين الثّقالة واللّطافة - فهي سرعان ما تمّحي متى أطلّ الشّعر، بعد أن تكون قد تخفّفت سراً من حمولتها لفائدة حضور مجنّح.

. مجنّح بصورة صارمة.
فكيف يتأتّى للألْطفِ دَحْرَ الأثقل؟ أريد أن أقول هنا.. إنّ الشّعر يقيم سلطته المطلقة انطلاقاً من كلّ ما هو مبهم، بما في ذلك الزّمان والمكان، ومن تلك الصّيحة المشهودة: «أنا لا أعرف» (صلاح ستيتيّة).
...
إنّ هذا الاستشهاد الذي قد يختزل رؤية ستيتيّة إلى الشّعر، يكشف إلى حدّ ما عن جانب من تصوّره المتفرّد لأدوات التّعبير عن فنّه. فلئن كان ستيتية شاعراً قبل أن يكون مفكراً وكاتباً ومترجماً.. ويكون قد عانق العمل الدّيبلوماسيّ، فإنّ ذلك يعني أنّه كان بحاجة ماسّة إلى الكلمات للتّعبير والإفصاح. لذا.. نراه قد تخيّر الشّعر، تلك الموسيقى الرّوحانيّة الأثيرة والأقرب إلى آذان القلب، إذ كان يتغذّر عليه في الحقيقة إبداع شيء آخر، وهو الذي كان دوماً يعلم أنّ الفكر- كما أشار إلى ذلك شيلر –«ينبغي له المرور بالكلمات كيما يعود إلى الفكر».
صلاح ستيتية هو ذلك السّاحر المدهش والبحّاثة الذي، وهو يقودنا إلى بستان الخرافات، يخبرنا عن الجانب الآخر الأكثر صفاء فينا، ذلك الجزء الضّئيل الذي يظلّ متمنّعا علينا، لأنّنا لا نعرف كيف نتخاطب معه، أو حتّى الإنصات إليه. ويسري ذلك السّحر فينا بفضل ما استكنّ في سرّ هذا الإنسان من فراسة وتبصّر، جعلته يعمل، بكتابة محكمة.. مستجمعة وبليغة، على الجمع بين عالمين مختلفين ودمجهما حدّ الانصهار، عالمي الشّرق والغرب. هكذا.. كان باستطاعته كشاعر.. بثّ الحياة في العفاريت التي تسكن شعره، وشدِّ أنتباهنا إلى روعة الحلم، الذي يتجاور فيه الرّوحانيّ والحسيّ.
لو كان بوسع ستيتية أن يكون محض فكرة، أو دخاناً رمادياً متصاعداً في الهواء، أو ريح صبا، لكان من دون شكّ أسعد النّاس. ولكنّ الأمر في عالم الكثافة ليس كذلك، وهو ليس كذلك أيضاً بالنّسبة لنا نحن، القرّاء البسطاء، القادرون على قراءة وإعادة قراءة أبياته الحالمة والمدندنة، وتلك الصّيغ الخيميائيّة لمفرداته المزهرة، التي متى جُمِعتْ، شكّلت.. لا جملةً، وإنّما صورة رشيقة عن الرؤية الفذّة التي كانت لهذا الرّاوي المدهش. بلى ! إنّ لشعر ستيتية تلك الطّاقة الإيحائيّة التي تميّز الأعمال الأدبيّة الكبرى، فمتى استوقفتنا كلماته، سرعان ما ستندمغ تلك الكلمات في أعماق كياناتنا لتستنفر مشاعرنا وانفعالاتنا. فهل ينبغي أن نرى في ذلك علامة سحر يمتلك ستيتية أسراره؟ أم تراه يريد أن يبيّن لنا أنّ وراء كلّ المشاعر المبثوثة في الشّعر ثمّة أمر آخر مدهشاً ومثيراً؟

وسيط بين ثقافتين
في البدء كان ثمّة إنسان شرقيّ، لبنانيّ.. أي حتما فينيقيّ، دفعته لغته الأمّ العربيّة، ودينه الإسلام إلى الكتابة باللّغة الفرنسيّة، في ظرفيّة شهدت تنامي فكرة النّهضة العربيّة، وأصبح يُنظَر من خلالها إلى كلّ تنازل عن اللّغة الأمّ تفريطاً في الهويّة.
ولم تخامر هذه الفكرة الاختزاليّة أبداً خيال الشّاعر، بل إنّ ستيتيّة عمل على العكس من ذلك من أجل أن تنفتح كلا الثّقافتين، الغربيّة والشّرقيّة، الواحدة على الأخرى. وحين تولّى إدارة مجلّة «الشّرق الأدبي» في بيروت خلال الستّينات، كان قد شرع بعد في أداء دور الوسيط بين هاتين الثّقافتين، فبادر بكتابة البحوث وإلقاء المحاضرات لاطلاع الجمهور الفرنسيّ على خصوصيّة الخيال العربي. ومن ناحية ثانية.. سعى في لبنان إلى حفظ الجسر المترنّح الذي كان يصل الغرب بالشّرق من التّداعي، وإرساء أسس خطاب «متوسّطيّ» بالغ الوجاهة وقائم على القيم الإنسانيّة الأصيلة.
لقد كان ستيتية ديبلوماسياً سياسياً، ولكنّه كان أيضاً ديبلوماسيّ القلوب، إذ كان من القلائل الذين عملوا على تطويع فتنة الشّرق، بما انطوى عليه هذا الشّرق من إرث ثقافيّ وهّاج، وإشاعته في الغرب، وهو المثقّف العربيّ الوحيد الذي توفّق في الكتابة بالفرنسيّة عن العروبة، التي وجد المترجمون عناء كبيراً في الكشف عن حقيقتها لغير العرب. وإن كان لا شيء يعدل الأصل، فإنّ ستيتيه قد كتب لنا العربيّة بلسان فرنسيّ وارف البيان، وبمثل ذلك الزّاد فحسب غداً بإمكاننا الاقتراب من «الجانب الآخر المحترق والبالغ الصّفاء»: ذلك هو عنوان ديوانه الصّادر سنة 1992، والذي رسّخ مكانته الرّفيعة كعلم شامخ من أعلام الشّعر الجديث.
وقد أقرّت الأكاديميّة الفرنسيّة ذلك الاعتراف الدّولي حين منحته سنة 1995 «الجائزة الكبرى للفرنكوفونيّة». كما خصّصت له ندوتان سنة 1996. ولكن بعيداً عن كلّ تلك الضجّة، سوف يظلّ ستيتيّة شاعراً بالغ التّواضع والإخبات، شديد التعلّق بالقيم الشّرقيّة، إنسانيّ إلى أبعد الحدود.. وحلو المعاشرة، وسوف يظلّ بشكل ثابت، رجل الحوار الذي يكون قد فهم الشّعر على أنّه بارقة أمل يمكن أن تغيّر بعمق رؤية الإنسان للوجود.

موسيقى نابضة
يكتب صلاح ستيتيّة حينئذ بلغة مفردة، تلك «الفرنسيّة-العربيّة» التي أبدعها لتظلّ موسيقى كلماتها نابضة بكلّ ما استكنّ فيها من صور وأحاسيس ومشاعر. وفضلاً عن ذلك.. أبدع أسلوباً خاصاً من الكتابة قادراً على توليد إيقاعاتِ وأصواتِ السّرد الشّرقي البالغ الخصوصيّة، كما أمكنه ترويض فنّ التّكرار من دون الوقوع في الإسهاب والإفاضة، فجاء شعره تبعاً لذلك بالغ الإزهار ومتخففاً من الاستعارات المجانيّة.
وهذه الكتابة الجديدة التي كانت في آن.. فاتنة، ثابتة ومتفرّدة، أفادت من كلّ إمكانات قواعد اللّغة لتوليد زخارف عربيّة ساحرة دونما تقيّد بأوزان الشّعر المألوفة. فمن الصّمت إلى الصّرخة، ومن الاستعارة إلى الصّور الغنّاءة، جبلت البلاغة بريشة هذا الشّاعر، وعُجِنت حدّ الاكتمال، حتّى غدت لغة ستيتيّة مطواعة وقابلة للتّشكيل والقولبة الشّعريّة.
إنّنا لنلمس في شعر ستيتيّة حرصاً دائماً على الجمع بين الجسديّ والرّوحانيّ، كما لو أن كلّ منهما يرتهن في وجوده بصورة ثابتة، لوجد الآخر. غير أنّ ذلك الجسديّ الذي يكون متحركاً، يبدو دائما وكأنّه لا يتوقّف عن الإنفتاح ومحاولة الاقتراب من الرّوحانيّ ليكون أدنى منه، حتّى أنّه ليخيّل إلينا أنّ الشّاعر يتوق إلى القبض على الوجود الذي يحيط به.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الفرنسی ة العربی ة ستیتی ة ة التی

إقرأ أيضاً:

اختر ما تقرأ ولمن تقرأ وأين تقرأ

تعتبر القراءة من الأدوات المهمة لتطوير الإنسان وتنمية مهاراته وتغيير سلوكه وتغذية عقله وتحسين ذاكرته واكتشاف ذاته ومعرفة الآخرين وتساعد على التفريق بين الخير والشر والتمييز بين الحق والباطل وهي البوابة الأولى للمعرفة والثقافة وزيادة المعلومات، بل وتساهم أيضا في تقوية مهارة التفكير النقدي وتنمية خيال الإنسان، أما في عصرنا الحاضر الذي تم فيه استبدال أغلب الكتب بالأجهزة الإلكترونية الذكية عن طريق الشبكة العنكبوتية (الانترنت) تراجعت القراءة تراجعاً ملموساً وواقعياً خاصة أن الأجيال الحالية تفضل المقاطع المرئية عن قراءة الكتب والمقالات رغبة في كل سريع ومختصر ومضحك ومثير.

ولا يخفى على الجميع أن هناك نقاط مهمة لابد أخذها في الاعتبار عند القراءة ومن أهمها اختيار الكاتب قبل الكتاب أو المقال الذي يُقدم دائماً ما يفيد بأسلوب تشويقي مميز وحضاري، ومن الضروري أيضاً معرفة الهدف من القراءة وتحديد موضوع القراءة، أما بالنسبة للكتب فيمكن قراءة ملخصات الكتب المرغوب قراءتها عن طريق فهرس الكتاب أو المواقع المعروض عليها الكتاب قبل قراءته مع عدم الاعتماد على الكتب الأكثر مبيعاً أو الأكثر قراءةً لأنه ليس مقياساً في هذا الزمان مع الخطط التسويقية الدارجة للنشر والترويج، بخلاف الروايات التي تعود لمزاج القارئ وقناعاته ورغبته في النوع والأسلوب الذي يميل إليه،

مع العلم أن من أهداف القراءة التنويع والتفتح الذهني ومعرفة تفكير الآخرين وطريقة حياتهم وأسلوبهم للتواصل معهم والاستفادة منهم بعد القيام بالتفكير والتحليل لموضوع القراءة لأن الكُتَّاب بشر وليسوا ملائكة يصيبون ويخطئون وقد يميل البعض منهم بآرائه لما يحب ويريد، كما أن تخصيص وقت يومي مُحدَّد للقراءة من الأمور الجيدة للتحفيز عليها والاستمرار فيها خاصة في الأماكن المناسبة والهادئة للحفاظ على التركيز والاستفادة الكاملة، واستغلال أوقات الفراغ.

ولا ننكر أن القراءة الإلكترونية لها فوائد وإيجابيات كثيرة مثل أن الكتب الإلكترونية خياراً اقتصادياً مناسبا لمعظم القراء، ويمكن توفير إصدارات صوتية ومرئية تجذب القراء لقراءة ممتعة وشاملة، وتعزيز استدامة البيئة بالتقليل من هدر الورق وجعلها صديقة للبيئة، وإمكانية التنقل بين الكتب الإلكترونية بسهولة وإراحة الطلاب والباحثين وتحسين تجربتهم التعليمية والمعلوماتية مع إمكانية الوصول لها في أي وقت وسهولة التقارب والتواصل مع الآخرين وتبادل المعلومات والأفكار إلكترونياً.

أما السلبيات والتحديات للقراءة الإلكترونية فهي كثيرة أيضاً ومن أهمها اشتراط وجود اتصال بالإنترنت ووجود أجهزة إلكترونية ذات جودة عالية، قد يجد كبار السن وغير المُلمِّين بالتكنولوجيا صعوبة في التعامل مع هذه الأجهزة وإجهاد العين بسبب التعرض للضوء الأزرق المنبعث من الشاشات لمدة طويلة، وحقوق الملكية للقراءة الإلكترونية وكثرة الإعلانات والرسائل، وكثرة الكُتَّاب غير المعروفين والمعلومات المضللة في كافة المجالات التي تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم على المدى القريب والمرتبة الخامسة على المدى البعيد خاصة في المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

وأختم بنصيحة عامة وخاصةً لشباب هذا الجيل الذي نشأ على القراءة الإلكترونية ويعتمد على المواقع وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي أختر ما تقرأ على المواقع الإلكترونية وأختر لمن تقرأ حتى تحصل على قراءة فعالة ومفيدة ومسلية وهادفة لفكرك وحياتك على المدى البعيد مع العلم أن تنمية المهارات تتطلب التقليل من الاستخدام الزائد للأجهزة الإلكترونية والاهتمام بالتفكير والقدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات والتعاون مع الآخرين حيث يتم تنميتها بالتفاعل الحركي أو التطبيقات المكتوبة وليس بالاعتماد على التكنولوجيا بشكل كبير.

مقالات مشابهة

  • من العمل التطوعي إلى الطمع و التهافت السياسي: الوجه الآخر لفئة كبيرة من الشباب الجمعوي في تمصلوحت”
  • البحوث الفلكية: سجلنا توابع للزلزال الذي شعر به المصريون
  • اختر ما تقرأ ولمن تقرأ وأين تقرأ
  • الوزير "محمد صلاح": شركة الإنتاج الحربي للمشروعات تساهم في تنفيذ العديد من المشروعات القومية التي تخدم المواطن
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)
  • التراث هوية..هل يمكن التملُّص منها؟
  • ???? الجهة التي سيقع عليها الدور بعد السودان سوف تبدأ الحرب فيها بالمسيرات
  • هل قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر تقضي الحوائج؟.. فيها 5 عجائب
  • ترمب والزيارة التاريخية
  • شبكة بي بي سي: ترامب ودول الخليج.. ما الذي يريده كل طرف من الآخر؟