الاستكبار الأمريكي والفرعنة الحديثة!
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
حمد بن سالم العلوي
الفراعنة الذين ظهروا في أرض مصر، قد طغوا وبغوا في الأرض، وذلك عندما شعروا بفائض القوة، وفي العام الذي ولد فيه رسول الله موسى عليه السلام، حذَّر السحرة والمنجمون فرعون من ولادة مولود سيكون خطرًا عليه وعلى حكمه، فكما تقول الروايات؛ أن فرعون أمر بقتل كل مولود يُولد في ذلك العام، وذلك بهدف الاستحاطة لنفسه ومنع الخطر عنه، ولكن إرادة الله كانت الأقوى والأمضى من احتياط فرعون، فأرسل إليه الطفل (موسى) عبر اليم ليُربيه هو بنفسه حتى يكبر وتتحقق المشيئة الإلهية، وذلك ليري فرعون وجنوده قدرته على نفاذ أمر الله ولو كره الكافرون، فعندما كبر موسى أصبح كمدًا وحسرةً على فرعون.
وقد بلغ الجبروت الفرعوني أن يُعلن نفسه إلهًا على الأرض والنَّاس، ويقنعهم أنَّه يحيي ويميت، وأن الأنهار تجري بأمره، وقد صدّقه الكثير من السذج، ونتيجة لتلك السذاجة والطاعة الصارمة والانقياد الأعمى والمذل، أصاب الغرور فرعون، فتمادى في تجبره وطغيانه وفساده.
ذلك كان عن الفراعنة ما قبل الميلاد؛ حيث لم يكن لهم من الوسائل ومعالم الإدراك ما يعينهم على الإدراك الصحيح، ويساعدهم على معرفة عمّا يدور حولهم من عوالم أخرى، فاكتفوا بما وجدوه أمامهم من ممكنات ووسائل، فلم يجدوا ما يوعظهم، ليهذّبوا سلوكهم مع الآخرين، فغرّهم أن يُؤمِروا فيطاعوا دون معارضة من أحد، لذلك صدّقوا أنفسهم أنهم بلغوا مرحلة الألوهية والعظمة، حتى عندما أتاه نبيّ الله موسى عليه السلام مُرسلًا خشي إن هو أستمع إليه، أن يفقد المكاسب التي ترسخت في نفوس الناس عن قدراته وربوبيته لهم، لذلك؛ كابر وعصى الرسول، وخشي على الناس أن يتأثروا بمواعظ الرسول فقال مقولته الشهيرة "لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
وهكذا يفعل اليوم فراعنة العصر من الأمريكان، فإذا كان فرعون سيطر على الخلق وأمرهم بعبادته مستغلًا جهلهم؛ فالفرعون الأمريكي الذي يعيش في زمن العلم والمعرفة، ألغى التعريف الإلهي للخلق "الذكر والأنثى" فلم يجد من يعترض عليه؛ بل صف العالم الذي يُسمي نفسه متحضرًا في صف الفرعون الأمريكي، فهذا النمرود الذي يملك قدرًا كبيرًا من القوة، وقد استمد الكيان الصهيوني قوته منه، فصار لا يعير أي اهتمام للقوانين والأعراف الدولية، فإذا كان فرعون مصر أمر بقتل المواليد في عام واحد، فإن الكيان الصهيوني أباح قتل مواليد فلسطين وأطفالها ونسائها على مدى 75 عامًا، وما يزال مستمرًا في القتل، فهو بذلك يتبع النشأة الأمريكية؛ حيث قضت على السكان الأصليين من الهنود الحمر، وذلك لكي يستقر لها المقام؛ فإسرائيل التي أتت إلى فلسطين بمقولة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض؛ أي كانت النية مبيتة لتصفية الشعب الفلسطيني.
وأن الفرعنة الأمريكية الضامنة لهذا الكيان الغاصب، هرعت إلى المنطقة على إثر معركة السابع من أكتوبر 2023 ليقينها أن إسرائيل التي لا تستحمل هزيمة كبيرة كهذه، تقع اليوم في دائرة الخطر الحقيقي، لذلك أحضرت أساطيلها وحاملات طائراتها واستنجدت بتوابعها من الأوروبيين للتعاون في القضاء على المقاومة الفلسطينية، والتي تجرأت بالهجوم على الدولة التي تُقهِر ولا تقهَر، وهذه المقاومة كانت في السابق في دور المدافع.
وقد أتى فراعنة العصر لنجدة إسرائيل، وفي حسبانهم منع الدول العربية وهي مردوعة من الأصل؛ بل وفي ذهنها محور المقاومة لترهبه وتمنعه من إسناد المقاومة الفلسطينية، فكان رد حزب الله، أننا لا نخاف أساطيلكم، وأننا أعددنا العدة لها، إن هي تجرأت علينا، فأخذ الأمريكان كلام المقاومة اللبنانية على مأخذ الجد، فابتعدوا عن المنطقة، وليس ذلك وحسب وإنما نصحوا إسرائيل بعدم شن حرب على لبنان حتى لا يقع ما هو في الحسبان.
ولكن الذي ليس في الحسبان، هو الدور اليمني الذي فاجأ العالم أجمع، وقد كان يظن الفرعون الأمريكي، أنه مجرد أن تقترب الأساطيل الأمريكية من اليمن، سيرفع اليمنيون الراية البيضاء، خاصة وأنهم كانوا قد خاضوا حربًا ضروسًا استمرت تسع سنوات مع تحالف قوي بقيادة السعودية، وهي أغنى دولة في المنطقة، فيفترض أنَّ اليمن أصبحت بلدا منهكا من الحروب والحصار، فلا يقوى على الوقوف في وجه أمريكا وبريطانيا العظمى، وربما كان ذلك بناءً على مشورة من وزير الدفاع الأمريكي آخذًا بحكمة أطلقها ابن جلدته عنترة ابن شداد الذي قال: أضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب الشجاع، فخابت نصيحته فوقع مع الشجاع نفسه دون مُقدمات.
لكن اليمن خالف التوقع وتصدّى للقوة الفرعونية، وكان هدف فراعنة العصر، أن يخلقوا فجوة بين القيادة المتمثلة في أنصار الله والشعب اليمني، ولكن حصل العكس، حتى أن بعض القبائل التي كانت على خلاف مع أنصار الله، وجدت نفسها في حرج من خلافها البسيط مقابل مناصرة الشعب الفلسطيني، فأعلنت عن طي صفحة الخلافات، والوقوف مع الأنصار دعمًا للقضية العربية الأولى، ألا وهي: قضية فلسطين الكبرى، فنزل الناس في مظاهرات مليونية إلى الشوارع والميادين اليمانية.
وهنا أضاف اليمن إلى قائمة السفن المتوجهة إلى أم الرشراش (إيلات) السفن التجارية الأمريكية والبريطانية، إضافة إلى السفن الحربية المعادية، فكما يقول المثل: أتوا لتكحيلها فعموها؛ فصاروا الأمريكي اليوم يبحث عن مخرج من اليمن ينقذ هيبتهم التي مرغها اليمنيون الشجعان بالتراب.
فلا نقول إلا صبرًا أهل غزة العزة إن النصر آتٍ، وأن لا أحد سيموت بغير تقدير من الله، وهم مكرمون بالشهادة والحياة الأبدية.. وإنه لجهاد نصر أو استشهاد.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
دروس الفشل العسكري الأمريكي
شهدت السياسة الأمريكية تحولاً لافتاً في تعاملها مع ملف الأزمة اليمنية. فبعد سنوات من الاعتماد بشكل كبير على التواصل والتعاون مع دول إقليمية في إدارة هذا الملف المعقد، تتجه واشنطن اليوم نحو التفاوض المباشر مع “أنصار الله”. هذا التحول، الذي يعكس اعترافاً ضمنياً بقوة الأمر الواقع التي فرضها “أنصار الله” على الأرض، يسلط الضوء على دروس قاسية من الفشل العسكري الأمريكي، ويحمل في طياته خسائر فادحة لما يسمى بـ “الشرعية”.
إن قرار الولايات المتحدة بالجلوس مباشرة مع “أنصار الله” لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تراكم لتحديات وعوامل عديدة أفشلت المساعي السابقة، وعقدت الحملة العسكرية التي استهدفت الحركة. ومن اللافت للنظر أن هذا التفاوض المباشر يجري مع جماعة تصنفها الولايات المتحدة نفسها حالياً كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO). هذه الحقيقة تجعل من التحول في النهج الأمريكي أكثر دلالة، وتشير إلى مدى الإدراك الأمريكي بضرورة التعامل مع القوة المهيمنة على الأرض بغض النظر عن التصنيفات الرسمية.
فمنذ البداية، اصطدمت واشنطن بحقيقة دامغة تتمثل في سيطرة “أنصار الله” الفعلية على مناطق واسعة ومكتظة بالسكان في اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء وميناء الحديدة الاستراتيجي. هذه السيطرة جعلت من أي محاولة لتجاوز الحركة في البحث عن حلول أو تهدئة للأوضاع أمراً غير واقعي، بل وعقيماً.
علاوة على ذلك، أثبتت “أنصار الله” أنها قوة متجذرة بعمق في النسيج اليمني، تمتلك معرفة تفصيلية بالتضاريس المحلية، وولاءات قبلية واجتماعية يصعب اختراقها. طبيعة اليمن الوعرة نفسها شكلت تحدياً إضافياً، حيث يصعب تحديد وتدمير مواقع الحركة في الجبال والوديان المترامية الأطراف. وقد تفاقم هذا التحدي بسبب محدودية قدرة الولايات المتحدة على جمع معلومات استخباراتية دقيقة حول هذه المواقع، مما أعاق أي عمليات برية محتملة.
ولم تقتصر التحديات على الجغرافيا والانتشار، بل امتدت لتشمل القدرات العسكرية المتطورة التي يمتلكها “أنصار الله”. فقد كشفت الحركة عن ترسانة متنوعة من الأسلحة، بما في ذلك صواريخ بعيدة المدى، وامتلاكها لصواريخ فرط صوتية، وطائرات مسيرة حديثة أظهرت قدرة على اختراق المنظومات الدفاعية الأمريكية والإسرائيلية. هذه القدرات مكنت “أنصار الله” من شن هجمات مؤثرة على أهداف بعيدة، ابتداءً من منع الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر ثم المواجهة المباشرة مع حاملات الطائرات الأمريكية وتحقيق إصابات مباشرة، وكذلك تحقيق ضربات مباشرة لكيان الاحتلال في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وآخرها استهداف مطار اللد المسمى إسرائيلياً “بن غوريون” وصولاً إلى اتخاذ قرار بفرض حصار جوي شامل على الكيان بالتزامن مع قرار العقوبات الذي اتخذته صنعاء ضد عدد من الشركات الأمريكية، مما أجبر الولايات المتحدة على إعادة تقييم استراتيجيتها.
إن قدرة “أنصار الله” على التكيف مع الضربات الأمريكية واستمرار عملياتها النوعية، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي تكبدتها الولايات المتحدة، بما في ذلك إسقاط عدد كبير من الطائرات المسيرة باهظة الثمن وخسارة 3 طائرات مقاتلة من طراز F18، كلها مؤشرات على فشل الرهان على الحل العسكري.
لكن هذا التحول في السياسة الأمريكية يحمل في طياته ثمناً باهظاً لما يسمى بـ “الحكومة اليمنية الشرعية”، التي كانت تُعد الشريك الأساسي لواشنطن في إدارة الملف اليمني. فالتفاوض المباشر مع “أنصار الله”، وهي حركة مصنفة إرهابياً من قبل الولايات المتحدة ولم تحظَ بالاعتراف الدولي الذي تتمتع به الحكومة المدعومة من الرياض، يمثل تآكلاً لمكانة “الشرعية” وتقويضاً لادعاءاتها بتمثيل الشعب اليمني.
هذا التحول يرسل رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع القوة الفعلية على الأرض، بغض النظر عن الشرعية الدولية أو حتى تصنيفاتها الخاصة. إنه اعتراف ضمني بأن “الحكومة الشرعية” لم تعد قادرة على تحقيق أهداف واشنطن في اليمن، سواء كانت تلك الأهداف تتعلق بمكافحة الإرهاب أو استقرار المنطقة.
في الختام، يمكن القول إن قرار الولايات المتحدة بالتفاوض المباشر مع “أنصار الله” هو بمثابة شهادة على فشل الاستراتيجيات السابقة، وعلى قوة وصلابة “أنصار الله” كطرف لا يمكن تجاوزه في أي تسوية مستقبلية لليمن. وبينما قد يفتح هذا التحول آفاقاً جديدة نحو تهدئة الصراع، فإنه في الوقت نفسه يمثل خسارة كبيرة لما يسمى “الحكومة الشرعية” التي وجدت نفسها مهمشة في معادلة إقليمية ودولية جديدة تفرضها حقائق القوة على الأرض. إن دروس الفشل العسكري الأمريكي في اليمن ستظل ماثلة للأذهان، مؤكدة على أن الحلول السياسية الشاملة هي السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في هذا البلد المنكوب.