لجريدة عمان:
2025-12-09@01:31:17 GMT

يومٌ مع الفرح الغريب

تاريخ النشر: 11th, March 2024 GMT

- إلى اليوم الناجح لبيتر هاندكه.

يبدأ اليوم عندما أستيقظ مع شعور بأن للعالم طعم معدني في فمي، أخافُ تلقائيًا من الذهاب والعودة بين المناطق المعتمة والأقل إظلامًا للحياة اليومية، ومع ذلك أطرد الفكرة من رأسي سريعًا، وأقول بأن الأمور ستكون على خير ما يرام أو أنها ستمضي في أسوأ الأحوال، أنتقل من السرير إلى الكنبة، أتمددُ هناك بكسل، مصير جسدي الوجوم التام خصوصا في ظل ما يحدث في غزة هذه الأيام، أراقب كل الحركات الميكانيكية التي أفرضها عليه لكي يتحفز قليلا لبداية اليوم، لكن وعلى طريقة أغنية قديمة لا أعرفها لمن «الصباح يصبح مساءً تحت جسدي».

تحيط بي المكتبة التي أستمر في مراكمة الكتب فيها، والتي رتبتها مؤخرا وفقا لدار النشر، طريقة عجلى تشبه اليأس الذي يحول بيني وبين الأشياء بنعومة واسعة، أفكرُ في تصفح الكتب الجديدة التي ما زالت بأغلفتها على الأرض، أن أبدأ بتصنيفها، ثم توزيعها على الرفوف أو نقلها إلى مكتبي في غرفة النوم إلى جوار الفراش، لأهمية قراءتها سريعا. ربما تكون فعالية مناسبة للبدء باليوم عندما فشلت كل الطرق الأخرى. هاندكه يكتب: «بمجرد أن تلوح لي فكرة اليوم الناجح، لا تستمر لمجرد ساعة، وإنما تمتد لتصبح حقبة كاملة من اليأس والحيرة؟ (أم هل يجب أن أقول بدلا من تلوح لي (تظهر كالشبح) أو (تضللني)» يبدو بأنني أريد أن تكون القراءة وعلى طريقة هاندكه عندما يصف نغمة قفل أزرار القميص في الصباح الباكر بأنها بمثابة صوت الشوكة الرنانة الصباحية. تناسبني القراءة دوما، إذ لا تتطلب مغادرة الكنبة أو السرير.

هو يوم عادي إذن. كان ذلك حتى قرأتُ كتابا عن فلسفة كل من دولوز وغوتاري حول التحليل النفسي، يحدقان في فرويد طويلا، في العلاقة المستقيمة التي كرسها بين كل ما نحن عليه، ما نفعله، ما سنكون عليه في المستقبل وعلاقتنا بالأب والأم والطفولة المبكرة، ينكران هذه الصلة، ويريان تأثيرها لا على حياتنا الشخصية فحسب، بل في المنطق الذي ترسخه من كون للأشياء مراجع مصمتة وصلبة، من كون العالم يغرف ويهرف عودة إلى نقطة يبدأ منها كل شيء، ويمكن بالتالي أن نفسر منها أي شيء. ماذا لو كان العالم أكثر تعقيدا؟ ماذا لو أنه لا وجود للخطوط المستقيمة على الإطلاق؟ والعالم هذا العالم شبكات فوضوية وشائكة بلا توقف، فجأة ومع هذه الفكرة تشرق الدنيا في عيني أو كما يقول هاندكه: «بدا الأمر كما لو أن حبات الفراولة الموجودة على حافة الطريق احمرّت أثناء النظر إليها».

يمكن إذن النظر إلى الوحشية التي تقوم بها إسرائيل في قراءة أخرى، قراءة أتمكن من خلالها من أن أفهم، الفهم الذي سيجعلني أتفاءل بنهاية هذا الاحتلال. بدت لي فكرة العدم ساذجة للمرة الأولى، عليّ أن أستمر وعلى طريقة دولوز وغوتاري في التفكير في ما تنتجه الرغبة، في التعقيد وفي إمكانية أن يكون هنالك قصة أخرى. لأدفئ قدميّ إذن، فأنا أحب الجوارب الطويلة، أكافئ نفسي بارتدائها، وبعدها يمكن أن أدوس بخطواتي على البلاط وربما سأتمكن من الخروج من الشقة إلى العمل. لا على طريقة الشاعرة التركية التي أخبرني عنها عبدالله حبيب، التي كتبت قبل انتحارها «أقطع العالم كله في خطوتين» هنالك أقدام دافئة ستقطع عشرات الخطوات مدفوعة بأن للواقع تفسيرات أخرى ما زالت محجوبة عني، أقدام قد تحملني للقيام بكل الأشغال المؤجلة.

تذكرتُ شيئا بينما أفكر في تدفئة قدميّ الآن، لم يكن مجازا عندما قالت لي صديقتي نوف: «أتعجب من ساقيك، كيف تحملناك» يبدو أن هذه الفكرة تأخذني إلى القدر المنبسط نفسه لهذا اليوم، فرغم نحافة ساقيّ إلا أنهما تحملاني فعلا، الأشياء مرة أخرى لا تبدأ من نقطة مركزية أساسية مسلمٌ بها، من قاعدة ما، أو من منطق مختلق، يمكن للأقدام الرفيعة أن تحملا أحدهم، وأن تأخذانه هنا أو هناك. طرأ على بالي فورا ذلك السؤال في رواية للكاتبة الأمريكية اوتيسا موشفيج عندما قالت لها طبيبتها النفسية: هل تعرفين بأن البقرة تستطيع إما أن تنام واقفة أو مستلقية على الأرض، ترى لو كنتِ كذلك فكيف ستفضلين النوم؟

آه أيها العالم غير الصغير فجأة في عينيّ. يا من يكون فيه النوم أو المشي، أو الذعر أو الإبادة كلها أشياء يمكن إعادة التفكير فيها أخيرا؟! آه أيتها الفكرة التي لمستني كما هاندكه «لمسه شيء آخر.. مثل اللعق الودود من قبل الحيوان الأليف»، سأكتفي أيضا بهذا اليوم العادي، بأقل قدر من الفشل «الفشل غير التام» يكفي بأنه يحدس بأنه أمام هذا الكوكب الغريب قد يتملكه فرحٌ غريب.

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على طریقة

إقرأ أيضاً:

بين الكاتب والمكتوبجى

الصحافة حرفة قبل أن تكون رسالة، فكيف يمكن لمن يمارس تلك الحرفة أن يحمل تلك الرسالة وقد أصابه القلق والخوف من أن يعضه الجوع، وأن يكون مصيره التشرد؟ الواقع الذى يعيشه من يمتهن الصحافة الآن هو الدافع الأول لطرح السؤال، وقبل أن نخوض فى هذا الواقع، أعرض بعض ما قيل عن تلك المهنة ورسالتها.
قيل عن الصحافة إنها رسالة خالدة، وأنها ركن من أعظم الأركان التى تشيد عليها دعائم الحضارة، وأن كل أمة متمدنة يجب عليها أن تحترم الصحافة، وقيل عنها: لا شىء يدل على أخلاق الأمة ومكانتها مثل الجرائد، فهى المنظار الأكبر الذى ترقب فيه حركاتها وسكناتها، هى رائد الإصلاح ورياح التقدم، إنها لسان الأمة وبرهان ارتقائها، فأمة بدون صحافة لا عين لها فتبصر، ولا قلب لها فتشعر.. ما سبق قليل من كثير يوضح أهمية الرسالة فى حياة أى أمة.
ورغم سمو تلك الرسالة فقد عانت الصحافة ومن يمارسها على مر تاريخها فترات عصيبة من التعنت والاضطهاد والقسوة، تشتد وتلين حسب سياسات السلطة الحاكمة، فاخترع الحكم العثمانى مثلًا دور «المكتوبجى» ليمارس الرقابة على الصحف رغم جهله باللغة العربية، وكان من غرائب هذا «المكتوبجى» ما سجله «سليم سركيس» خلال توليه تحرير جريدة «لسان الحال» فى بيروت عما عاناه هو وغيره فى كتابه «غرائب المكتوبجى عام 1896».
ومن غرائب هذا «المكتوبجى» كما يحكى «سركيس» عن تلك الفترة في بيروت، أنه عندما طبع يوسف أفندى حرفوش كتابًا فى الأمثال وورد فيه المثل الشهير «الحركة فيها بركة»، أمر بحذف المثل زاعمًا أن لفظ الحركة تفيد الثورة!، ومن غرائبه أيضًا عندما كتبت جرائد بيروت أن أحمد أفندى سلطانى زايل «أى تارك ومغادر» الثغر لزيارة شقيقه محمد أفندى سلطانى المقيم فى الأستانة، حذف المراقب النون والياء من سلطانى وصار الاسم «محمد أفندى سلطا»، لأن السلطان لا يكون إلا لعبدالحميد!، ومما ذكره «سركيس» فى كتابه: أنه عندما ضجر عبدالقادر أفندى القبانى صاحب «ثمرات الفنون» من كثرة حذف المقالات، زار «المكتوبجى» راجيًا منه أن يحدد لهم خطة يسيرون عليها فى تحرير صحفهم وأن يريهم القانون الذى يخضعون له، فنظر إليه وقال: ألا تدرى أين القانون؟ فأجاب قبانى أفندى سلبًا، فوضع إصبعه على دماغه وقال: إن القانون هنا!
تلك العلاقة بين الكاتب والمكتوبجى يمكنها أن تمر رغم صعوبتها ووحشتها، يمكن التعايش معها وتفهمها رغم قسوتها ومرارتها، ولكن الأَمَّر الذى لا يمكن أن يمر هو حال من يمارسون تلك المهنة الآن، فقد أصبح قطاع عريض منهم يطارده شبح التشرد، وبات شغلهم الشاغل البحث عن عمل خارج نطاق تلك المهنة لسد حاجتهم وحاجة أولادهم قبل أن يعضهم الفقر.
لا يخفى على أحد أن هناك قطاعًا عريضًا ممن يمارس مهنة الصحافة الآن يكافح من أجل البقاء فى مواجهة ارتفاع جنونى للأسعار متسلحًا برواتب متدنية تسير كالسلحفاة فى سباق غير متكافئ مع سرعة هذا الجنون المتصاعد، وبينما لم يصل الكثير والكثير منهم إلى الحد الأدنى للأجور الذى أقره القانون، يجد البعض أنفسهم فى مواجهة مُلَّاك صحف لا يشعرون بهم ولا يألمون لهم، مُلَّاك لديهم أجندات ومصالح ومكاسب مختلفة، يشهرون أسلحة التهديد بالإغلاق وإعلان الإفلاس إذا لزم الأمر.
فى النهاية: أعلم أن هناك من يكره الصحافة كما السلطان عبدالحميد الثانى عندما قال بعد خلعه من عرش السلطنة: «لو عدت إلى يلدز لوضعت محررى الجرائد كلهم فى آتون كبريت»، وأعلم أن هناك من يتوجس خيفة من أرباب القلم كما نابليون الأول عندما قال إنه يخاف من ثلاث جرائد أكثر من مائة ألف جندى، ومنهم من يسير على نهج «نقولا الثانى» قيصر روسيا عندما قال: «جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبح من الشيطان فى مملكتى».. وبين تلك الكراهية والخوف أو التفاهم، يوجد صحفى يريد أن يأكل ويشرب، يريد أن يعيش مطمئنًا بدلًا من تهديده بشبح التشرد أو الخوف من عضة جوع.
أخيرًا: الصحافة لسان الأمة والمرآة التى تريها نفسها اليوم وغدًا وبعد غد.. وما يعانيه قطاع كبير ممن يمارسون تلك المهنة لابد أن يكون له حل عاجل.

[email protected]

مقالات مشابهة

  • ميرفت القفاص زوجة عمار الشريعي: أجمل ايام حياتي مع عمار الشريعي واعيش علي ذكرياتي معه
  • بين الكاتب والمكتوبجى
  • خلص عليها يوم الفرح.. عريس أنهي حياة زوجته في أسيوط والمحكمة قضت بالإعدام
  • حاتم صلاح: لم أتخيل نفسي عريسًا وزوجتي لم ترغب بحفل الزفاف
  • الجبروت الأمريكي على فنزويلا
  • الفرح يعُم العرس الجماعي الحاشد في بركاء.. وإشادات بتجسُّد قيم التلاحم المجتمعي
  • جلال برجس: الرواية الحقيقية تذهب إلى العتمة لتضيئها ولا تمتدح البهجة أو الفرح الزائف
  • عندما يتحوّل الملعب إلى وطن (2)
  • في اليوم العالمي للعمل التطوعي… الزيود: “القلوب التي تعمل للناس لا تُقاس جهودها بالأرقام بل بالأثر”
  • فيرستابن يخطط لـ «ريمونتادا أبوظبي» على طريقة آيندهوفن وبرشلونة