الميناء والاضطراب في شرق السودان
تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT
أحمد بن عمر
قبل أسبوع نفذ العاملون في هيئة المواني البحرية إضراباً لمدة 24 ساعة تحذيرياً لتوقيف ما اسمته " تغول" في أعمال الهيئة المستقلة المسؤولة عن إدارة المواني البحرية، وإصدار قرارات تمس باستقلاليتها، عبر ضم بعض إداراتها لوزارة المالية, وتعتبر هيئة المواني من أكبر هيئات وزارة النقل الاتحادية و تعني بإدارة المواني في السودان.
مشاهد تجمع العاملون أمام بوابة رئاسة هيئة المواني في ميناء بورتسودان منفذين لاحتجاجات ليس شي جديد، فمنذ 6 سنوات و الشهور الأخيرة للمعزول للبشير تحديداً ظلّ الميناء مسرح للصراع الذي أخذ طابع المكونات المجتمعية منذ أعلان ما يسمي "بمؤتمر سنكات" ، ولكن تبدو الأزمة مختلفة هذه المرة و قد تنفجر في الشرق خلال هذه الحرب التي تعتبر بورتسودان هي مقاراً لإدارة الجيش و الحكومة فيها تقوم بادارة الجزء الخاضع لسيطرتها.
خلفية الأزمة
لتحديد أزمة الحكومة الحالية في ببورتسودان و نظرتها لوضع الدولة ففي حالة الحرب يجب عليك أولا الاطلاع علي السلسة التي كتب عنها بعنوان " كارثة سقوط المدن عسكرياً تمهيد لفصل إداري للمدن وليس فصل سياسي للأقاليم " , ففي الجزء الثالث تحدثت عن "موازنة الحرب" التي أجازها جبريل إبراهيم و أيضأ مقال "البحث عن الإيرادات بزيادة الدولار الجمركي" فيجب قرأتها أولا بتمعن .. واليك عزيز/تي القارئ/ة .. الاهتمام بتأثيرات القرارات علي الدولة هو الوسيلة للتفسيرات السياسية للأحداث , فعندما يذكر وزير المالية جبريل إبراهيم في مؤتمر صحفي عن حوجته للإيرادات اعترافه بفقد 80% من إيرادات الدولة بسبب الحرب فهذا يجعل بعض الاتجاهات لتمويل الحرب أمراً يظل البحث فيه عن مشروعية وضع اليد علي المال لتزويد الجيش في حربه علي الدعم السريع أولوية قصوى.
هذا الأمر جعل منذ اليوم الأول للحرب تحدي البحث عن الأمول هو الهم الأكبر فـألان الدولة تعتمد بشكل أساسي علي المنفذ البحري للصادرات والواردات من أجل استجلاب العملات الصعبة و حصائل الصادر من أجل تمويل الحرب وتكاليف تسيير ما تبقي من الدولة مما جعل تفكير وزارة المالية الأول في البحث عن إيرادات إضافيه من الشركات الحكومية أو التابعة للمؤسسات الدولة مما يعني أن هنا أزمة إدارية للمواني بتقاطع البيرقراطية المركزية و المحلية و هو ما سنتناوله.
الأزمة الإدارية للمواني
أ-أنشاء إدارة مراجعة داخلية تابعة للمالية داخل هيئة المواني البحرية
بدأت مبكراً بوصف المكونات المحلية استقبال الوفود الحكومية والحركات تبديدا للمال المحلي الذي يُصرف علي هذا الوضع المختل , ومع تحفظات الجهات المحلية للأمر إلا أن شهر فبراير كان بداية (للرصاصة الأولي)...
فماذا حدث في أزمة السلطة الاتحادية والمحلية؟ ؟ (خريطة الصراع في نقاط) :-
1- قامت وزارة المالية عن طريق إدارة ( ديوان المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية) بمخاطبة مدير هيئة المواني البحرية ليقوم بإنشاء وحدة مراجعة داخلية داخل هيئة المواني البحرية السودانية مع أرفاق اسماء 5 موظفين لتعيينهم , ولكن مديرهيئة المواني المكلف محمد مختار (أعتذر) وعلل أعتذاره بأن لديهم هيئة مراجعة داخلية تتبع لهيئة المواني نفسها.
2-قام ديوان المراجعة الداخلية بمخاطبة وزير المالية حول أعتذار مدير هيئة المواني البحرية, فكان رد وزير المالية أن : (يتم الزام مدير هيئة المواني بالقوانين واللوائح).
3 -قام مدير المكتب التنفيذي لوزير المالية في 17/2/2024م بمخاطبة مدير هيئة المواني مجدداً.
4- وبعد ثلاثة أيام نص قانون حول وحدات المراجعة الداخلية و شؤون الخدمة بالدوائر الحكومية أن يتم فصلها من الهيئات الحكومية و تبعيتها للدوائر المتخصصة حسب منشور ( ديوان شؤون الخدمة التابع لوزارة العمل و الإصلاح الإداري) الذي يحمل الرَّقَم 1/2024, وهي من ضمن قرارات كثيرة قام بها الوزير المكلف احمد علي عبد الرحمن.
5-خطوة المالية لإنشاء وحدة مراجعة داخلية كان سببها متابعة إيرادات الدولة وفقاً (للقانون) الذي تم اجازته في يناير 2023م و المسمي ب (قانون التعديلات المتنوعة لولاية المالية علي المال العام), الذي يعطي الصلاحية الأكبر لوزير المالية و قام القانون بتوسيع صلاحيته أيضأ و هو ما جعل الوزير يتدخل ب(القانون).
6- اعتمدت إدارة المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية في حجتها لهيئة المواني البحرية في (الخطاب) علي قوانين اعطيت لوزارة المالية مسبقاً, و قانون ديوان شؤون الخدمة التابع لوزارة العمل و الإصلاح الذي ذكرته أيضأ .. كـأمثـــلة :
(قانون المراجعة الداخلية 2010 ولائحته للعام 2011)*
(توجيهات لمجلس الوزراء رَقَم 5 السابق لسنة 2021م)*
(قرار وزير المالية رقم 25/2021م)*
7-بناءً لذلك رفض مرة أخري مدير هيئة المواني المكلف محمد مختار خطاب الوزير وهو أمر وصفته الحكومة بالتطرف و عدم تنفيذ لوائح المؤسسات.
ب-قضية التخلص من المهملات
قضية المهملات ليست جديدة ففي كل عام او عامين تخرج الي السطح في من لها احقية بيع المهملات عن طريق المزادات, و نذكر أن من العام 2008م في عهد م. إبراهيم حامد مدير المواني كان هناك جدل في الاتفاق في التخلص من المهملات بالرغْم أعترافه ب(قانون) بيع المهملات الذي يتفق عليه من (الجمارك – المالية – النقل) ,والاتفاق يؤكد أنه لا يجوز للمواني (تدليل) المهملات من نفسها, بالرغْم أن حينها وزير الدولة بالنقل (فيليب طون ليك) قد ذكر ان هناك تجاوزات في عملية التخلص من المهملات.
ربما المثال لنوعية هذه الصراعات الداخلية بعيداً وكانت تتسم ببعض المرجعية البيروقراطية للمؤسسات ,حسناً ... فأذا عدنا الي عام الانقلاب الأول 2022م باشرت لجنة "حصر وتكشيف وبيع المهملات بالموانئ البحرية" عملها في بكل هدوء حيث استقبها المدير المكلف للمواني المهندس ابراهيم يوسف بمكتبه بحضور أيضأ مدير التسويق مزمل حسن و هي لجنة مكلفة طِبْقاً لـِ القرار رقم 8 لسنة 2022م و قد قامت اللجنة بحل بعض المشاكل المتعلقة بالبضائع الحكومية و البضائع التي تخص الهيئات و ما خلق إشكالات تتعلق بالتلف و كان لأبد من الوصول لصيغة (تَفَادَى) من المخاطر و الانتفاع بالإيرادات الحكومية.
اذاً...
-سؤال.. لماذا الاحتجاج الآن ؟
ولكن في مارس 2024م اندلعت من قبل المواني مؤكدة علي اعتراضها في عملية التخلص وهو أمر يجعلنا نتسأل لماذا قامت هذه الاحتجاجات في أمر بيرقراطية القرارات ؟ ربما السُلطات اعلي هذه المرة, فهي لجنة شكلت بموجب قرار من مجلس السيادة للتخلص من المهملات مع التأكيد علي خضوعها لقسمة الايرادات بما ذلك ضمان لمواني نفسها , و أن كان الأعتراض علي المدة الفعلية ( من 3 أشهرا لي 45 يوم) فهو غير منطقي من قبل هيئة المواني ففي هذه الحالة المواني نفسها مستفيدة من القرار لفائدة مهمة و هي : ( المساحة و تدوير الأرضيات يجعل من حركة الإيرادات جيدة من ناحية تشغيل), و المتضرر هو التاجر الذي ننتظر أن تمثله اللجان المختصة.
-الجواب.. في تفكير العمال والمظفون
يتضح لنا أن أمول المهملات (ملك للعاملين وفقاً لقانون مجاز مسبقاً و الذي لا يمكن إلغاءه إلا بواسطة برلمان) حسب ما ذكر سامي الصائغ عضو نقابة المواني البحرية التي استند إلي هذه الحُجة للاحتجاجات , و يبدو أن الأخوة العاملين يحتاجون الي المزيد علي الاطلاع علي قانون ولاية المالية علي المال العام لمعرفة كيف يتحرك الوزير من الناحية القانونية فالحال بعد يناير 2023 مختلف كما هو في السابق .
سابقاً لم يكن هناك ولاية مالية علي المال العام و الهيئة لها الحق في التصرف في الفائض بعد تحقيق الربط السنوي للايرادات وفق اللوائح الصادرة من هيئة الموانى البحرية, ولكن مع التغيير في السياسات في السنوات الاخيرة للنظام تعتبر المالية أن ايراد الموانى هو أيراد للدولة مع الاحتفاظ بحق المواني نفسه الذي أعتبرته هيئة المواني "تغولاً" .
نتيجةً لذلك تظل الاحتجاجات حول اي محاولة لتدخل الدولة في المواني سلباً أو ايجاباً شيئاً أداة تعبيرية لها أبعاد سياسية ومجتمعية في بورتسودان من قِبل المموظفين و العمال, رغم محاولة النظام البائد مسبقاً في التعديل بأدخال الشركة الفلبينية كمثال و بعدها شركة مواني دبي و اخرها ميناء ابو عمامة في عهد انقلاب البرهان حميدتي قابلته احتجاجات و اضرابات ,فهذا الصراع يمكننا تلخيصه في نظرة المكونات المجتمعية و العاملين في الهيئة بأنه صراع نفوذ بين السُلطة المركزية و السُلطة المحلية .
الميناء و الإضراب والاضطراب هل ستكون هناك أزمة في شرق السودان؟
اندلعت الاحتجاجات من المظفون التابعين لهيئة المواني البحرية ومن ثم قامت وقفات احتجاجية نظمها عمال هيئة المواني البحرية ثم تلتها احتجاجات من اللجنة العليا لمناهضة الخصخصة الذي تحول لاحقاً لإضراب تحذيري لمدة 24 ساعة في 10 مارس, وسلمت لجنة مفوضة من العمال الأسبوع الماضي مذكرة لمجلس السيادة مطالبة بإلغاء القرار وأمهلت المجلس 72 ساعة للرد.
أيضأ تدخل مكون البجا ( كعادته المحببة) في الشرق عن طريق مجلس نظارات البجا و العموديات المستقلة في الأمر, حيث حذرت بالمساس بهيئة المواني البحرية في بيان ممهور بتوقيع المتحدث الرسمي باسم المجلس (طه فكي) طالبت فيه البرهان للتدخل بتجميد الإجراءات التى اتخذها وزير المالية درءًا للفتنه التى بدأت شرارتها فى ألانتشار.
ملخص المؤشرات...
1-مشروع قانون التعديلات المتنوعة لولاية المالية على المال العام
هذا القانون الذي تم اجازته في يناير 2023م هو قانون غير شرعي لأنه صادر من سُلطة انقلابية و موقع بتوقيع عبد الفتاح البرهان نفسه رئيس مجل السيادة , و أن كان هناك شخص يري غير ذلك فعليه تقبل الأمر إذا بما في ذلك مجلس نظارات البجا (الحامي المجتمعي) و هيئة المواني التابعة للدولة و التي هي مؤسسة غير معنية بشرعية السُلطة مادام إنها تابعة للدولة.
حذرنا من هذا القانون في فبراير 2023م من ما سيسببه من (استبداد) أداري في الدولة فهو قانون كرس لوزير المالية النفوذ و الصلاحيات الواسعة بتبعية ديوان المراجع العام الي سُلطات وزير المالية .. (لك أن تتخيل) وهي النقطة الفاصلة التي تتيح للوزير مراجعة شركات الحكومة التي تتبع له في آن واحد.
فلا ينسي العمال و الموظفين في هيئة المواني البحرية ي أن الهيئة شركة حكومية خاضعة بالقانون لولاية وزارة المالية علي المال العام و يحق لها مراجعة الاداء الداخلي مع التعزيز بقانون المراجعة الداخلية لأجهزة الدولة القومية لسنة 2010م بضمان كل سلطاتها التي سمح لها الدخول الي اي مرفق و أتخاذ الاجراءات (حفاظاً علي المال العام).
فأن كان هناك احتجاج حقيقي للفائدة العامة و للسودان فليقم المحتجون في هيئة المواني البحرية و المكونات المجتمعية بالتنسيق مع بقية المؤسسات في الدولة لتجميد هذا القانون الي أن تأتي سُلطة تنهي الانقلاب و الحرب و ينظر لهذا القانون مرة أخرى , فمن حيث المبدأ ولاية المالية علي المال العام ظللت أبشر به ولكن من حيث التنفيذ فقد صاحبته الكثير من المشاكل, فلا تستطيع قانونياً هيئة المواني بمنع المالية من انشاء وحدة مراجعة داخلية ولا تسطيع منع المالية من الوصول الي إيرادات الدولة سواءً كانت في الجمارك أو المواني او أي متحصلات.
2-التخوفات المصحوبة بالمؤامرة
التوترات بين النقابات او المكونات المجتمعية مع وزير المالية جبريل إبراهيم ليست الأولي حيث يعتقد السكان المحليون أن وزير المالية يريد أفارقهم و تشريدهم من الميناء الذي يمثل موردهم المتمثل في الحفاظ علي عصبة المكونات و توازناتها في الشرق و قد سبقه وزير الملية في العهد السابق معتز موسي الذي تصدى له العمال والمكونات بشراسة في عدد من القضايا أبرزها (الشركة الفلبينية).
وهذه التقاطعات يمكن أن تستثمر فيه أي جهة تريد لشرق أن يشتعل سواءً كانت هذه الجهة (خارجية أو داخلية ) , وما حدث في تقديري الشخصي هي ليست مشكلة كبرى بين السُلطات المحلية و المركزية (رغم أن وزارة النقل تكتفي بالمشاهدة وهي الأخرى متخوفة من المالية من التغول حسب القانون الجديد), و تفسيري حول حساسية الأوضاع والتعبئة في قضايا الشرق في السنوات الاخيرة هي ما قادت الي هذا الاحتقان , و الحال كما نشاهد قد يقود الأوضاع حالياً في شرق السودان نحو أنزلاق يمكن أن تعقبه فوضي في عاصمة الجيش والحكومة.
3-تمويل الحرب
يقود الجيش الدولة الآن في الحرب , و سخرت الدولة ما تبقي من سُلطة إدارية لتمويل الحرب و يعد جبريل إبراهيم وزير المالية أكثر المُخلصين لقضية الحرب , فقد قام بوضع موازنة حرب تتضمن الأولوية القصوى لتمويل مشتريات الجيش و المرتبات العسكرية من الدولة نفسها , و هو أمر طوارئ اقتصادي يجعل من المالية تتجه نحو الميناء للاستفادة من أمواله التي تمثل 350 مليون يورو سنوياً في اسوء حالتها بعد الانقلاب الذي شهد قبل ذلك قفل الناظر(ترك)للميناء , و الأن ورغم انخفاض حركة الشحن الي 20% بعد سقوط ولاية الجزيرة الا أن الميناء قادر علي تمويل جزء شحيح من متطلبات منصرفات الحرب عبرها , وكل استراتيجية التمويل تتم بمباركة البرهان نفسه و مساعديه ..فماذا سيفعل البرهان كوسيط لجأت له نظارات البجا (علي المدي المتوسط حتي نهاية العام الحالي) ؟
اخيراً..
ما هي أخبار صفقة ميناء أبو عمامة بعد التوترات مع دولة الأمارات العربية المتحدة ؟؟
كيف ستتمكن من الحكومة والجيش من تمويل الحرب في حالة قيام احتجاجات في الشرق؟؟
كيف سيتفادي البرهان (التخدير المؤقت) للأزمة و التلاسنات بين المالية و المكونات المجتمعية المستمرة منذ أشهر؟؟
dr_benomer@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المکونات المجتمعیة المراجعة الداخلیة وزارة المالیة جبریل إبراهیم ولایة المالیة وزیر المالیة من المهملات هذا القانون تمویل الحرب فی الشرق
إقرأ أيضاً:
السودان بين خرائب الحرب والسياسة، وأمل البناء
السودان بين خرائب الحرب والسياسة، وأمل البناء
وجدي كامل
بعد اندلاع الحرب الكارثية والمأساوية التي عصفت بالسودان، لم تعد البلاد تحتاج فقط إلى وقف القتال أو إعادة الإعمار المادي، بل باتت الحاجة أكثر إلحاحًا إلى إعادة ضبط “ساعة الحياة” في العقول، وإطلاق طاقات التفكير النقدي لدى الأفراد والمؤسسات على حد سواء. فبدون إحداث تحول جذري في محتوى وطريقة التفكير، سنظل نعلّم الأجيال القادمة دروس الفشل كما ورثناها، وعندها لن ينفع الندم.
إن الثقافة السياسية السائدة، في مختلف الخطابات، لا تزال أسيرة لتجارب الماضي، ويمكن وصفها بثقة بأنها “ثقافة سياسية تقليدية”، بذات القدر الذي نحوز فيه على سياسيين “تقليديين” يدينون بمعارف وتاكتيكات عمل غيّر محدثة، وان اجتمعوا على مطلب المدنية والديمقراطية. ان ارتكاز فهم السياسة على الصراع حول السلطة ومغانمها، دون إيلاء الاهتمام الحقيقي بتطوير البرامج والرؤى التي تُعنى بالقضايا الجوهرية، وعلى رأسها: محاربة التخلف والفقر والفساد، والنهوض بالبنية التحتية للوعي الثقافي للمجتمعات.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن هناك فجوة عميقة بين التنظيمات السياسية — “الأحزاب”— وبين المجتمعات السودانية. وهذه الفجوة لا تبقى عائقًا فحسب، بل تصبح مجالًا خصبًا لأعداء التغيير والتطور، الذين يستثمرونها ببراعة لعرقلة عمل التنوير “على قلته”، ومنع تحقيق التنمية الكلية العادلة.
وفي هذا السياق، تلعب الثقافة الدينية والاجتماعية — في كثير من الأحيان — دورًا سلبيًا مضادًا لتطور العمل السياسي نفسه، إذ لا تزال العقلية العامة تفتقر إلى المساحات والقابليات التي تحتضن الأفكار العلمية والاحتكام لنتائج التقدم المعرفي والتقني. فغياب هذه القيم عن مراكز التفكير الاستراتيجي بالسياسة يعمّق من أزمة التخلف ويعوق أي محاولة جادة للتحول المدني والديمقراطي في عالم سيدير السياسة فيه، بعد قليل، الذكاء الاصطناعي كتقنيّة متقدمة في صناعة السياسة.
لقد كشفت الحرب عن هشاشة المنظومات الفكرية التي صدرت من واقع ما عاد موجودا، واقع تم تشكيل آليات عمله السياسية ابان الحرب العالمية الثانية، كما الحرب الباردة. لقد طرحت المستجدات الكوكبية المرتبطة باعادة تشكيل السياسة أسئلة جديدة حول طبيعة البرامج والأبنية والعلاقات البينية بين السياسة والاتصال السياسي، ما يتطلب في هذا الوقت الحرج، وفي ظل اندلاع الحرب وتزايد نفوذ قوى الفساد الشريرة كتنظيم الاخوان المسلمين، وما اكده من نوايا تدمير الحياة، ونهب الموارد عبر أدوات التضليل والغش المعلوماتي، فإن المواجهة لا يمكن أن تكون إلا بإعادة صياغة المشروع السياسي نفسه من داخل تكنولوجيا الاتصال التي حلت محل الاتصال الفيزيائي القديم.
إن التحالف المزمن بين المال السياسي وعسكرة المجتمعات وتفريغ الحياة من المعاني الاخلاقية والقيم ظاهرة تجلّت بوضوح خلال هذه الحرب، ما يستدعي مقاومة سياسية جديدة تقوم على وعي علمي واقتصادي ديمقراطي، يشتغل على تأسيس اقتصاد وأمن الديمقراطية بعلاقة حيوية ومباشرة مع الحوكمة الرشيدة والعدالة الاجتماعية.
هنا تبرز اهمية الانفتاح على الديمقراطيين خارج التنظيمات السياسية والمدنية بما لهم من كفاءات علمية ومهنية تربطهم بعملية قيادة المقاومة السياسية بدلا عن طردهم وتنحيتهم عنها تحت مسوغات انهم تكنوقراط غير فاعلين سياسيا. ان جريرة هؤلاء تتمثل في عدم معرفتهم بادارة الصراع السياسي الموروث الذي يقوم في احلك الاوقات على الشخصنة وتقديم الطموحات الشخصية على الاهلية والقدرة العلمية. لا يجب ترك صناعة القرار السياسي وادارة الدول في اثناء التطور الجاري في السياسة كعلم للناشطين والشخصانيين الذين يزعجهم تولي اصحاب المعارف والقدرات من السودانيين الآخرين بزمام السياسة. ان التهميش الخشن والناعم معا لاصحاب الأفكار الجديدة في تاريخ احزاب الحركة السياسية لا يزال يلقى باثاره القاتلة في تجميد حركة التجديد السياسي والديمقراطي بتغييب دور السياسات في السياسة السودانية.
لعل أبرز ما تحتاجه المرحلة، وان لم يكن الانشاء النقدي للسياسة القديمة فهو “تطعيم” الفكر السياسي بمضامين علمية واضحة، تُسهم في وضع خارطة طريق لمواجهة تداعيات الحرب ووقف التدهور الشامل الذي يهدد كل مجالات الحياة من خلال التفكير الجاد والمستنير لكسر دائرة الصراع السياسي وتجميد القضية العاجلة والأكثر الحاحا لايجاد الحل اليوم قبل الغد والمتمثلة في اقامة الوحدة السياسية الوطنية المناهضة لهيمنة وسيطرة التيارات الدينية وعلى راسها تيار “الاخوان المسلمين”.
إن المجتمعات السودانية بحاجة إلى صيانة ما تم تدميره من وعى قبل، واثناء، وبعد هذه الحرب. ان العمل لبناء السياسات يصبح في هذه المرحلة احد أهم برامج التنظيمات السياسية والمنظمات المدنية في سبيل وضع خطط متكاملة تعمل على ايقاف الحرب والانخراط في مهامً البناء الوطني البديل، وعلى وصفة دمج المهام وليس تقسيطها، باستنهاض المسؤلية السياسية التي يجب توجيهها لخدمة المجتمعات بدلا عن خدمة التنظيمات، والمنظمات، والأشخاص في المسعى القاتل لنيل السلطة والدولة كغنيمة دون قدرة على وضع برامج وتأهيل مستحق، وعناية لازمة باسئلة المستقبل.
في هذا الجزء المتبقي سأحاول توصيف ما اعنية بأهم فكرة ربما تضمنها الجزء السابق وهي كيف نغير الثقافة السياسية؟
من أجل إحداث تغيير جذري في الثقافة السياسية السودانية لما بعد الحرب، ينبغي أن يكون لدينا نهج متكامل يقوم على معالجة جذور القضايا السياسية في البلاد، بالإضافة إلى تطوير الفكر السياسي والمؤسسي، مع ضرورة العمل على بناء بيئة سياسية قادرة على استيعاب وتبني ممارسات ديمقراطية تساهم في تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. يقتضي ذلك تقوية المؤسسات، تعزيز الشفافية، وزيادة مستوى الوعي السياسي لدى المواطنين، حتى يتسنى لهم المشاركة الفعالة في الحياة السياسية، وتغيير الواقع السياسي من صراع وتنازع إلى تعاون وبناء مستدام.
1- ترسيخ الديمقراطية كمبدأ دستوري وممارسة يومية– دستور ملزم ودائم: يجب أن يتم تضمين الديمقراطية في الدستور السوداني بشكل واضح، بحيث تكون ممارستها مكفولة في كافة جوانب الحياة السياسية. هذا يشمل التأكيد على حقوق الإنسان، حرية التعبير، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
– التمكين السياسي للمواطنين: على جميع الأحزاب السياسية أن تقوم بدور حيوي في نشر وتعزيز ثقافة الديمقراطية داخل المجتمع. هذا لا يعني فقط مشاركة المواطنين في الانتخابات، بل يعني أيضًا تمكينهم من النقد البناء والتحليل السياسي، وتبني سياسات تشجع على التعددية الفكرية، والمشاركة السياسية الواسعة.
– التركيز على حقوق الأقليات: على الأحزاب السياسية أن تركز على حقوق جميع الفئات المجتمعية، بما في ذلك الأقليات الدينية والعرقية، وتوفير منصات لهم للمشاركة في صنع القرار السياسي.
2- إنشاء مراكز بحثية متخصصة لصناعة القرار السياسي.– تحليل علمي للواقع السياسي: يجب أن تكون هناك مراكز بحثية أكاديمية مستقلة تعمل على دراسة وتحليل القضايا السياسية والاجتماعية في السودان، بهدف بناء سياسات مبتكرة. هذه المراكز ينبغي أن تتيح للأحزاب السياسية الاستفادة من التحليل العلمي لصياغة حلول قابلة للتنفيذ.
-التقارير والدراسات البحثية: ينبغي أن تساهم مراكز البحث في إعداد تقارير ودراسات موضوعية تقدم حلولًا مستدامة للقضايا السياسية والاجتماعية المعقدة، بناءً على بيانات علمية ومعطيات حقيقية.
– التعاون بين الأكاديميا والسياسة: يجب تشجيع التعاون بين المؤسسات الأكاديمية والأحزاب السياسية لتطوير رؤى وسياسات تستند إلى البحث العلمي، مما يقلل من الخطابات الشعبوية والعاطفية التي تضر بمصلحة البلد.
3- تعزيز العلاقة بين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.– تطوير التعاون بين الأحزاب والمجتمع المدني: يجب أن تسعى الأحزاب السياسية إلى تبني سياسات تشجع على الشراكة مع المجتمع المدني، مما يسمح للمجتمع المدني بدور محوري في تطوير ثقافة الديمقراطية والمشاركة الفعالة.
-التوسع في الحوار المجتمعي: يمكن للمجتمع المدني أن يساهم في تسهيل حوارات مجتمعية واسعة، تجمع بين الأحزاب، النقابات، ومنظمات حقوق الإنسان، والقطاع الخاص. يساهم هذا في خلق بيئة سياسية صحية تضمن تنوعًا في الآراء وحلولًا مستدامة.
– إشراك الشباب والنساء: لابد من ضمان تمثيل النساء والشباب في مختلف الهيئات السياسية، خاصة في لجان السياسات وصنع القرار. يعمل هذا على تمكين فئات المجتمع الأكثر تهميشًا، ويعزز التنوع السياسي.
4- إصلاح المنظومة الإعلامية لضمان الشفافية والمساءلة.– الإعلام المستقل والشفاف: من أجل أن يكون الإعلام أداة قوية لتحقيق الديمقراطية، يجب أن يكون الإعلام مستقلًا عن أي جهة حكومية أو حزبية، ويعمل على نقل الحقائق بموضوعية، بعيدًا عن التضليل أو التحيز.
– الرقابة والمساءلة: من المهم أن يقوم الإعلام بدور الرقابة على السلطة التنفيذية، ومؤسسات الحكومة، ويكون أداة للضغط على السلطات لتطبيق القوانين وحماية حقوق المواطنين.
-إعلام تفاعلي ومسؤول: ينبغي أن يساهم الإعلام في بناء حوار اجتماعي مفتوح، ويسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم، والمشاركة في اتخاذ القرارات عبر منصات إعلامية تتيح ذلك.
5- إعادة تعريف الوظيفة العامة كمجال للخدمة وليس الامتياز.– الوظيفة العامة كخدمة عامة: أن يتم تشجيع ثقافة الخدمة العامة التي تعني أن الموظف الحكومي هو في خدمة المواطنين، وليس للحصول على مكاسب أو امتيازات خاصة. وهذا يستدعي اعتماد مبدأ الشفافية والمساءلة في كافة قطاعات الحكومة.
– فصل النفوذ السياسي عن التوظيف: ضمان تعيين الكفاءات في الوظائف العامة بناءً على الجدارة والكفاءة، وليس الولاء الحزبي أو الشخصي، من شأنه أن يحسن جودة الخدمة العامة ويحد من الفساد.
– إصلاح الهياكل الإدارية: يجب على الحكومة إجراء إصلاحات في الهياكل الإدارية بحيث تكون الوظائف العامة مفتوحة للمنافسة ويُمنح فيها الأشخاص الأنسب وفقًا لخبراتهم وكفاءاتهم.
6- إصلاح المناهج التعليمية لتعزيز الثقافة السياسية النقدية.– التركيز على التفكير النقدي: يجب أن تتبنى المناهج الدراسية في جميع مراحل التعليم برامج تعليمية تركز على تنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب. هذا سيمكنهم من تحليل القضايا السياسية والاجتماعية بموضوعية، مما يعزز المشاركة السياسية الواعية.
– إدخال مفاهيم الديمقراطية والمواطنة: ينبغي إدخال مفاهيم الديمقراطية، حقوق الإنسان، والمواطنة الفاعلة في المناهج التعليمية منذ المراحل الأولى، حتى تنشأ أجيال قادرة على ممارسة حقوقها السياسية بمسؤولية.
– التعليم المدني: يمكن إضافة مقررات تركز على ثقافة الحوار السياسي، والتفاوض، والبحث العلمي في المجال السياسي، بهدف إعداد قادة سياسيين قادرين على بناء دولة ديمقراطية.
7- إعادة تأهيل القيادات السياسية عبر برامج تدريبية متخصصة.– تأهيل القيادات السياسية: من أجل تحقيق التغيير المستدام، يجب توفير برامج تدريبية متخصصة تهدف إلى تطوير مهارات القيادة، الإدارة الاستراتيجية، وفن التعامل مع التحديات السياسية والاجتماعية.
– التدريب على الديمقراطية: يجب أن يتعلم السياسيون كيفية تطبيق المبادئ الديمقراطية عمليًا، وكيفية إدارة الحوار السياسي بشكل بناء دون اللجوء إلى العنف أو ضضالتأزيم.
– دعم الشباب و النساء في القيادة: التركيز على دعم وتأهيل الشباب والنساء لتولي المناصب القيادية في الأحزاب السياسية، والهيئات الحكومية، والمجتمع المدني، مما يساعد على تجديد دماء السياسة السودانية.
خاتمة:إن تغيير الثقافة السياسية في السودان ليس مهمة سهلة، فهو يتطلب التزامًا جماعيًا طويل المدى من جميع الفئات السياسية والمجتمعية. لكننا إذا تمكنا من اتباع هذه الخطوات، يمكننا أن نحقق نقلة نوعية في الثقافة السياسية السودانية، ونبني بيئة ديمقراطية تتيح لجميع المواطنين، خاصة الأجيال الجديدة، أن يكون لهم دور فعال في بناء مستقبل بلدهم.
هذا التغيير يحتاج إلى عمل مستمر، إرادة سياسية، ورغبة حقيقية في بناء دولة ديمقراطية عادلة، تعمل على مصلحة الجميع.
الوسومالأحزاب الإعلام الإعلام المستقل الثقافة السياسية الحرب السودان السياسيين الشباب النساء