الإسلام وأهل الكتاب.. الكتب المنزلة
تاريخ النشر: 1st, April 2024 GMT
لقد أنزل الله على أنبيائه كتبًا، هدايةً للناس للإيمان به والعمل بشرائعه، وأول نبي ذُكِر بأن له كتبا هو إبراهيم، حيث ورد في القرآن بأن له صُحُفًا: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)، وعندما تُذكَر الصُحُف فيه فهي صُحُفهما. والقرآن نفسه: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) عبس:13، وقد ربط الله بين ما جاء به القرآن وهذه الصُحُف بقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) الأعلى:18-19، إذًا؛ ما جاء به القرآن من الهدى ليس أمرًا بدعًا، فهو ما في تلك الصُحُف، وليس لأهل الكتاب احتكار الوحي لهم.
القرآن.. نزل مُفصّلًا بلسان عربي: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فصلت:3، ولم يكن النبي يعلم به قبل بعثته: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) يوسف:3. وقد أُنزل القرآن لتعقله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف:2، ولم ينزل دفعة واحدة: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) الإسراء:106، ودعا إلى تدبره ليُتيقن بأنه من عند الله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء:82. هكذا رسم القرآن الصورة عنه للناس ليؤمنوا به. فكيف قدّم نفسه لأهل الكتاب؟
أهل الكتاب.. يعلمون أن القرآن تنزيل رباني: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) الأنعام:114، وهم يعرفون ذلك كمعرفتهم أبناءهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ) الأنعام:20، ولذلك؛ دعاهم إلى الإيمان به: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) النساء:47، وخاطبهم بأن الرسول محمدًا جاءهم بكتاب يبيّن كثيرًا مما يخفون من كتبهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) المائدة:15، بل أن الله دعا نبيه أن يسألهم إن خالجه الشك فيما جاءه، فهم يعرفون بأنه لا يمكن إلا أن يكون إلهي المصدر: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يونس:94.
لقد كانت ردة فعل أهل الكتاب تجاه القرآن على موقفين:
- الإيمان به.. وأغلب أصحابه نصارى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكَ) الرعد:36، و(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) القصص:52-53، فقد جاء موافقًا لما كانوا عليه من هدي الأنبياء، ومنه: (كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ) العنكبوت:47، (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) آل عمران:199.
- الكفر به.. وأغلب أصحابه يهود: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) آل عمران:23، بل سعوا للصدِّ عنه بالخداع: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) آل عمران:72-73.
أما بنو إسرائيل -والمقصود هنا اليهود- فعلماؤهم يعلمون بأن القرآن وحي كالذي أوحي للنبيين: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الشعراء:197، ولذلك؛ دعاهم إلى الإيمان به: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) البقرة:41، وقد بيّن لهم بأنه جاء ليحل مشكلة الاختلاف الديني لديهم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) النمل:76، ورغم كفرهم به إلا أن بعضهم آمن: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) الأحقاف:10.
أما التصور الذي قدّمه القرآن عن التوراة والإنجيل.. فعندما يذكر أهل الكتاب؛ فهو يقصدهما بالكتاب: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) المائدة:68. لم يحدد القرآن زمن نزول التوراة، ولا على مَن أنزلت، وإنما ذكر بأنها أنزلت بعد إسرائيل: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إٍسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) آل عمران:93، ولا توجد آية تصرّح بأنها أنزلت على موسى، وأصرح آية في هذا الشأن: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) الأنعام:91؛ ومع ذلك؛ فهي لا تنص صراحةً على التوراة، فقد تكون هناك كتب أخرى جاءت لموسى. أما الإنجيل فذكره القرآن بلفظ الإتيان على عيسى: (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ) الحديد:27.
التوراة والإنجيل.. أنزلهما الله هدايةً للناس: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) آل عمران:3-4، وكان الأنبياء يحكمون بالتوراة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) المائدة:44. وقد وصف الله الأنبياء بالإسلام ولم يعتبرهم يهودًا، فهم خارج «الطائفية الدينية». ويبدو أن نسخة التوراة زمن النبي محمد لم تكن هي التي لدى اليهود والمسيحيين اليوم، فربما أنها ضاعت، وهي التي كان فيها حكم الله: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) المائدة:43، وقد طالب القرآن أهل الكتاب أن يقيموا التوراة والإنجيل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) المائدة:66. وهدّد الله أهل الإنجيل إن لم يحكموا بما أنزل فيه: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة:47، وكذلك؛ هذا الإنجيل ربما يكون قد ضاع، أو من الأناجيل التي لا يعترف بها المسيحيون، ويسمونها المنتحلة.
شاع لدى المسلمين منذ القِدَم تحريف التوراة والإنجيل، ويستدلون عليه بالقرآن، ولكن لا يوجد نص صريح عليه، فالآية: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) النساء:46؛ لم تذكر تحريف اليهود للتوراة، وإنما ذكرت «الْكَلِمَ» وبيّنت التحريف فيه، ومثله قول الله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) المائدة:13. وأما قوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) آل عمران:78، فهو «ليُّ اللسان بالكتاب»، وليس تحريفًا في النص المكتوب، كما أنه لم يُعرّف المقصود بـ«الكتاب». وكذلك آية الأنعام:91 السابقة تبيّن بأنهم يخفون كثيرًا من «الكتاب»، والإخفاء ليس التحريف.
وأما الآية: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة:75؛ فهي تتحدث عن بني إسرائيل الذين يسمعون القرآن ثم يحرّفونه، وهو تحريف ما يسمعونه منه ليصرفوا الناس عنه، وهذا خارج نطاق حفظ الله للذكر القرآني. ومثله ما ورد في المائدة:41.
ختامًا.. شكّلت مسألة تحريف التوراة والإنجيل جدلًا دينيًّا وعلميًّا واسعًا، ولم يعد التحريف الذي أصابهما خافيًا، وهذا ما يجعل التفريق بين النُسَخ المحرّفة وتلك التي تحدث عنها القرآن ضروريًّا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التوراة والإنجیل أهل الکتاب آل عمران ال ک ت اب تحریف ا الص ح ف
إقرأ أيضاً:
هيئة الكتاب تصدر رواية «جبل الشوع» لـ زهران القاسمي
أصدرت وزارة الثقافة المصرية، ممثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، رواية جديدة بعنوان "جبل الشوع" للكاتب العُماني زهران القاسمي، وذلك ضمن سلسلة الإبداع العربي المعنية بنشر أبرز الأعمال السردية في العالم العربي.
تدور الرواية حول رحلة يقوم بها بطل العمل عبد الله الصربوخ، بعد تقاعده من الخدمة العسكرية، حيث يعود إلى ماضٍ لم يغادره، بل بقي حيًا في الذاكرة رغم مرور الزمن.
يصاحب البطل في رحلته أربعة من أصدقائه، أحدهم والده، وينطلقون معًا في مسارات متعددة بين عُمان، البحرين، الهند، وزنجبار، في سردية تمزج بين التوثيق والتخييل.
يعتمد القاسمي في الرواية على نسق السرد الحر، متنقلاً بين الأمكنة والأزمنة، ليكشف عن تاريخ من الشح والمعاناة، صراع طويل مع قسوة الطبيعة وظروف العيش في حياة القبائل.
كما ترصد الرواية تناقضات صارخة ومعاناة إنسانية شديدة، تضع الشخصيات في مواجهة الرحيل والفقد والظلم.
ويُعد زهران القاسمي أحد أبرز الأصوات الأدبية في سلطنة عمان، حيث ولد عام 1974، وله عدة أعمال شعرية وسردية، من أبرزها "جوع العسل" و"تغريبة القافر"، وحصد العديد من الجوائز الأدبية، أبرزها الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2023، ووسام الإشادة السلطاني عام 2024.
تأتي الرواية كإضافة مهمة في مشهد السرد العربي، وتؤكد حرص هيئة الكتاب على تقديم أصوات أدبية متنوعة، تسلط الضوء على تجارب إنسانية من عمق الثقافة العربية.