د. أحمد جمعة صديق
يتساءل البعض من أين يستمد (حمدوك) التفويضَ للعملِ باسمِ السودانِ؟
وهذا السؤال يُطرح في الغالب عقبَ كلَّ نجاحٍٍ، يحققه حمدوك مع شباب( تقدم وقحت). والسؤال في باطنه (حسدٌ) مغلّفٌ وكأننا قد غدونا - حقاً - شعباً لا يحب النجاح أياً كان ولا يحفل به. ما الذي جري لنا؟ أأغذيت أعيننا عن رؤية الجمال تماماً؟
في رأي أن الأمر لا يحتاج الى كبير جهدٍ لنقول أن (حمدوك) قد فوّضه الشعب السوداني منذ أن وقع عليه الاخيتار ليكون رئيساً لوزراء المرحلة الانتقالية.
ترك حمدوك مقعده الوثير وراتبه الدولاري، ليقوم بمهمة وطنية كان هو أهل لها، فقد تبوأ الرجل من المناصب والمواقع ما يعينه على ادارة هذا الموقع بكل جدارة. وقد شهدنا منذ مقدمه الميمون، أنّ بلادنا قد بدأت تتنفس الصعداء، بعد أن (انكتمت) أنفاسنا ثلث قرن من الزمان. كنا نتذيّل قائمةَ الاممِ في كل ما هو جميل ونتقدمها في كل قبيح.
في أول أيامهم، تحدث (حمدوك) ورجالُه عن الاقتصاد وقالو ان مشكلة الاقتصاد في السودان هو هيكل الاقتصاد نفسه، وبدأو فعلاً في العلاج. كان بعض العلاج قاسياً حين تجرأت حكومة حمدوك من رفع الدعم من بعض السلع... وهو اجراء؛ لولا ادراك الشعب نتائجه الايجابية على المدى البعيد، لكان كفيل بأن يطيح بالثورة في يوم واحد. ولكن الشعب بحسه الثوري أدرك أن العلاج في (الكي) رغم قساوته.
نعم كانت مشكلة الاقتصاد السودني ومازالت مشكلة في هيكل الاقتصاد نفسه، كصاحب الدار يريد أن يضع الدهان على الحائط أو يوصل الكهرباء أو يدق البلاط - ولا يمكن ان يستقيم الامر اذا كان السقف (يخر موية) طول الخريف. ما فعله حمدوك ووزراء ماليته ومستشاريه أن بدأوا في اصلاح السقف، حتي يتسنى الجلوس تحته بأمان والعمل في توصيل الكهرباء وعمل الدهانات وتركيب البلاط. وقد كانت النتائج ايجابية حيث ادرك المجتمع الدولي بمؤسساته المالية جدية هؤلاء الثوار ونضج تفكيرهم، فاعانهم بمؤتمر باريس الاول في مايو 2021 وكان اقل ما نتج عنه هو اعفاءُ قدرٍ كبيرٍ من ديون السودان، وجدولة بعضها ومنح السودان صلاحية وحق الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية لاصلاح الاقتصاد، بجلب رؤوس الاموال، والتي غادرت وامتنعت عن دخول للسودان منذ سياسة التأميم المشئومة التي انتهجها النميري بانقلابه المشئوم.
ثم تم رفع اسم السودان من القائمة السوداء، وتوقفت المضاربات في الدولار واستقر سعر الصرف وبدأ الجنيه السوداني يسترد عافيته، فانخفضت اسعار العقارات والسيارات وبعض السلع الاستهلاكية، وصار بنك السودان (يدلل) الدولار في سوق الله اكبر ولاي مشتري....
سادتي والله قد عبرنا،
لقد عبرنا تماماً،
اذ كان رئيس الوزراء في طريقه الى (اسبانيا) في نفس اسبوع الانقلاب البرهاني في 25-10- 2021 بشأن البنيىة الاساسية كلها في السودان، ثم الى (المانيا) ليوقع مع (سيمن) مشروع معالجة كهرباء السودان الى الأبد. ولكن الحقد والحسد ملأ قلوب الحاقدين والحاسدين فأوعزوا لبرهانهم بقطع الطريق بذلك الانقلاب، واطفئت شمعة من ملايين الشموع كانت تضئ النفق.
لقد كان مشروع الاتفاق الاطاري هو نهاية الصراع على السلطة وقد وقّع الدعم السريع على ما جاء في الاطاري وكنا على وشك أن نرى البرهان يوقع هو الآخر، ولكن أدرك الكيزان أن تلك هي النهاية الفعلية لمشروعهم في السودان فبادروا بالانقلاب. وها نحن نخوض في نتائجه الآن ونتجرع مرارته. وقد اتضح لنا الآن ان الأطراف الثلاث لا تملك برنامجاً للخروج من هذه النفق المظلم لانها فعلا لا تريد لهذه الحرب ان تنتهي:
- الكيزان
هؤلاء أدركوا تماماً أن نجمهم قد أفل اذ كانت تلك المليونيات التي تزيّن شوارع الخرطوم وكل مدن السودان؛ رفضٌ صريحٌ لمشروعهم الفاشل الذي امتد ثلاثين عاماً من القتل والنهب والسلب والعبث بالمال العام. وقد اشعلوا هذه الحرب ليس لاسترداد ملكهم العضود كما يظن البعض - اذ اصبح هذا من رابع المستحيلات ان يعودوا الى حكم هذا الشعب_ ولكنهم اشعلوها انتقاماً من هذا الشعب الذي اقتعلهم من جذورهم، وكان ظنهم أنها باقية في أيديهم الى الابد...
ما يفعله الكيزان الآن في ازكاء نار الحرب واطالتها، ليس الا انتقاماً من شعبٍ رفض وجودَهم تماماً وباي صورة من الصور. ولا يهمهم كم ستستمر هذه الحرب، لانهم بعيدون عنها، فقد أمنّوا انفسهم ووطنوا عوائلهم خارج مرمى النيران، كما فعل البرهان بعائلته في تركيا- خارج السودان، مع ما توافر لهم من ارصدة سابقة في البنوك في تلك الديار...فما عاد يهمهم شئ طالما البنات والاولاد في أمان، ومواصلين دراساتهم في أرقى المدارس والجامعات. وطالما السيدات المحترمات يتسّوقن بالفيزا والماستركارد في أرقى المعاضر بين دبي واسطنبول. نعم هم أشعلوا الحرب، بل وجلبوا لها الوقود باغراء الشباب بالتجنيد، وسلحوهم من غير تدريب، ليقاتلوا عنهم بالوكالة واطلقوا عليها حرب (الكرامة) افكاً وزوراً.
وستستمر الحرب – للأسف الشديد - لأن الجمرة لن تحرق الا (الواطيها) وهم لا يطأون جمراً الآن، بل أقدامهم وأرجلهم على النجيلة والحرير والماء. هم بعيدون عنها ويديرونها بالوكالة... يقول الناس ( لا للحرب) وهم ينادون (بالبل بس) وهم انفسهم لا يصيب هذا (البلل) من قريب أو بعيد.
أوليس هذا أمر يثير العجب أن يطالب انسان باستمرار الحرب؟
هل هذا أمر طبيعي؟
الا يخالف ذلك طبيعة الاشياء؟
- البرهان وزمرة الكهان من الرتب الرفيعة:
هؤلاء أيضاَ سيظلون يؤججوا نار الحرب الى يوم الدين لأن وقف أو ايقاف الحرب ليس من مصلحتهم، اذ سيستدعيهم الشعب للوقوف أمام قضاة التاريخ الذي لا يرحم- طال الزمن أو قصر – لابد انهم واقفون أمام قضاة التاريخ... وبقية القصة ملعوم للجميع... ان تقف الحرب عند هؤلاء الجنرالات (فكرة مخيفة)، تجعلهم يرتجفون هلعاً، لانها تعني ذهاب السلطة والثروة ثم المصير المحتوم بعد محاكمات عادلة ان شاء الله ك(نورنبيرج) يشهدها كل العالم. الجنرالات سيستمرون في استثمار هذه الحرب واطالة أمدها لانهم يرتعدون خوفاً من مواجهة المصير المحتوم.
- الدعم السريع:
هي مليشيا تقوم على النهب والسلب وان اقتضى الامر القتل بدم بارد وهذ ما حدث. اذن هي سلطة غير مؤهلة للحكم بحكم تكوينها الرعوي وبحكم انعدام كودارها من التنكوقراط. مشروع الدعامي ان يقاتل ليحصل على الغنائم ولذلك كل ما يفعلونه هو اجتياح المدن والقرى ونهب ما تيسر ثم الارتكاز هناك يوماً او يومين لمزيد من النهب، وبعدها والهروب الي غنيمة اخرى. الدعم السريع يسيطر عملياً على رقعة واسعة من الارض ولكن لا يستطيع ان يقيم حكومات أو ادارات في هذه الاراضى لسببين: الاول انهم لا يريدون الاقامة في هذه الاراضي لعدم القدرة على ادارتها وبعدم وجود كادر اداري وفني يقود العمل في هذه الاراضي المحتلة. والسبب الثاني كما قلنا ان هذه مجموعات بدوية ليس من طبيتعها الاستقرار اصلا بل القتل والغنيمة ثم الفرار. اذن ليس للدعم السريع اجندة تؤهلهم على المدى البعيد لاستمرار في هذه الحرب العبثية.
ويبقى الدور الاساسي للمدنيين الذين خرجوا وهتفوا للسلام والحرية والعدالة وطالبوا الجيش للثكنات والجنجويد ينحل. هم لا يملكون من أدوات القتال سوى هذه السلمية والتي هددت عرش الطغيان واسقطته الى الابد. فالشق المدني هو المنتصر في النهاية وهؤلاء لا يحتاجون الى تفويض. كل سوداني – يسعى لخير السودان – مفوض بالضرورة ان يتكلم ويطالب ويعمل لارساء الديموقرطية والحكومة المدنية. وما يقوم به حمدوك ورفاقه لا يحتاج لتفويض من أحد وليكن الأمر (تطوع) وهو كذلك، على حسابهم يحتسبونه عند الله في سبيل هذا السودان. هل في ذلك مانع؟؟
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه الحرب فی هذه
إقرأ أيضاً:
محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..
مهدي رابح
حسبو محمد عبد الرحمن، القيادي في المؤتمر الوطني، نائب رئيس الحركة الإسلامية ونائب رئيس الجمهورية واللواء في جهاز الأمن.. كل ذلك سابقاً طبعاً، وحاليا احد قيادات الدعم السريع وعقولها المدبرة.
هذه الشخصية المفصلية في الأزمة الحالية لن تجد لسيرتها أثرا تقريبا في الخطاب السائد من كلا طرفي الحرب، بل لن تجد لها أثرا حتي في الخطاب الذي يناهض استمرارها ويسعى لإيقافها..
والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا؟
في تقديري لأن ذلك يتناقض مع السرديات التبسيطية السائدة حاليا، ويكشف حجم التعقيد الذي تتسم به ازمتنا وصعوبة تعريفها تعريفا صحيحا، بكافة مستوياتها..
وبذلك أعني، وفي المستوى الأول، أن الحرب الحالية هي دون شك صناعة إسلاموية بامتياز بدأت منذ استيلاء الاسلامويين على الحكم بانقلاب عسكري عام 1989م، وبناءهم لنظام سياسي قائم على الاستبداد والقمع والفساد والافلات من العقاب، ثم نهبهم لثروات السودان وتدمير وتسييس مؤسساته وعلي راسها القطاع الامني والعسكري والعمل علي زرع الفتنة بين مكونات المجتمع المختلفة بتزكية الدوافع الاثنية والجهوية، وانشائهم لقوي مسلحة موازية أبرزها الدعم السريع نفسه.
وهو ما يفسر الوجود القوى للاسلامويين في صفوف الأخير وان كان أقل تأثيرا من وجودهم في الجانب الآخر، اي اصطفافا مع الجيش.
أي أن هذه الحرب هي صناعة إسلاموية لم تبدأ باطلاقهم الرصاصة الأولي في 15 ابريل 2023 ولن تنتهي غدا صباحا.
المستوي الثاني هو أن أحد عناصر هذه الحرب الاساسية هي تقاطع المصالح المادية و الصراع على الثروات بين مجموعات محدودة من النافذين. فهي نتاج لانفجار التناقضات والتنافس المتصاعد داخل الكارتيل الاحتكاري اللصوصي، الذي انقلب على ثورة ديسمبر بانقلاب أكتوبر 2021… والذي ضم بجانب بعض الانتهازيين من المدنيين، قيادات الجيش والدعم السريع والاسلامويين وبعض الحركات المسلحة، التي انضمت لهذا لكارتيل بعد الثورة..
اما المستوى الثالث فهو التدخل الخارجي، وبالاخص لدول الجوار الإقليمي، والذي اتخذ طابعا سافرا ظهرت ملامحه منذ عام 2019م، وما نتج عنه من مجزرة بشعة ضد المعتصمين أمام القيادة العامة وما تلي ذلك من انقلاب ثم تمويل ودعم طرفي الحرب حتى اليوم.. فهو صراع غير معلن بين قوى إقليمية تسعى استراتيجيا للسيطرة على السودان عبر وكلائها – ابرزها بالطبع قيادات الجيش والدعم السريع – من أجل تأمين نصيبها من تدفق مياه النيل وتعظيمه أو وضع يدها على منافذ تطل على البحر الأحمر أو على الثروات الطبيعية الهائلة التي تعج بها هذه البلاد المكلومة، او بالمقابل، وفي حال بع الدول الجارة، منع الدول المنافسة لبلوغ الأهداف المذكورة أعلاه.
إن التعريف الصحيح للأزمة يساهم في إيجاد الحلول الصائبة والمستدامة، أي تلك التي تتجاوز الوقف المؤقت والهش للقتال إلى آفاق بناء الدولة.. تلك الدولة التي لم تحظى بها الشعوب السودانية اصلا منذ الاستقلال، اي الدولة التي توفر الأمن والاستقرار والحرية والكرامة لكافة أفرادها بالتساوي.
وذلك يتطلب أن نحدد كل العناصر التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق ذلك – أي الوصول إلى سلام مستدام يمهد لبناء الدولة المنشودة – علي رأسهم الاسلامويين كعنصر مشترك ثابت، لكن أيضا قيادات الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة وتجار الحرب من جهة ومن الجهة الأخرى القوي الاقليمية التي تتحمل وزر هذه المأساة بنفس القدر.
ان اي مقاربة للحل لا تتضمن كيفية التعامل مع العناصر الأخرى لمعادلة الدمار التي تحدث في السودان يعني تطاول أمد الحرب وتعمّق آثارها الإنسانية المروِّعة .
بإستعارة مقولة غرامشي الشهيرة يمكننا أن نختم بالقول إن
“السودان القديم انتهى والسودان الجديد تأخّر في الظهور … وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش.”
وهي في حقيقة الأمر وجوه أو رؤوس متعددة لوحش واحد، ظل يتغذى علي الجهل والفقر والعنف والفساد والظلم الاجتماعي لمدى ستة عقود. ولن يقضي عليه قطع رأس واحدة لأنه سينمو في مكانه رأس جديد كما التنين في الأسطورة السومرية القديمة.