يبدو أن إدارة الرئيس بايدن للأزمة من وراء الستار قد ساعدت في منع نشوب حرب أكبر في الشرق الأوسط، في الوقت الراهن. لكن ذلك الانتصار التكتيكي الذي أحرزته الإدارة الأمريكية هو في واقع الأمر جزء من فشلها الاستراتيجي الأكبر في المنطقة.

على مدى الأسبوعين الماضيين، اجتهد الرئيس بايدن من أجل ضمان عدم تحول تبادل إطلاق النيران العلني غير المسبوق بين إسرائيل وإيران إلى صراع مكتمل الأركان.

بعد أن ضربت إسرائيل القنصلية الإسرائيلية في سوريا في الأول من أبريل فقتلت ضباطا كبارا في الجيش الإيراني، دعا الرئيس بايدن إيران علنا إلى عدم رد الضربة مع تفاوضه سرا على ترتيب انتهى برسالة إيران المحكمة التي جاءت على هيئة وابل من الصواريخ والمسيّرات التي تم إسقاطها قبل أن تلحق ضررا كبيرا في إسرائيل. ثم حاول الرئيس بايدن إقناع إسرائيل بعدم الانتقام. ولم يمتثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للأمر، لكن رد إسرائيل كان خافتا للغاية فتجاهلته إيران عمليا، ووصفه وزير الأمن الوطني في حكومة نتنياهو بالرد «الأعرج».

للرئيس بايدن فضل مستحق في ترتيب هذه الحيلولة الحاسمة للتصعيد. فقد أطلقت إيران هجمة فشلت، وكان ذلك هو المراد منها، وجاء رد إسرائيل محدودا بحيث أمكن أن تزعم إيران أنها لم تتعرض لهجمة أصلا. لكن في حين أن مناورة الرئيس بايدن ساعدت في اجتناب كارثة فورية، فإن سياساته هي التي وضعت الشرق الأوسط في مساره الخطير الراهن. فإسرائيل وإيران منخرطتان منذ أكثر من عقد في حرب خفية، ولم يقتربا قط من هذه الحرب الشاملة.

منذ هجمات حماس في السابع من أكتوبر، يرفض بايدن استغلال نفوذ أمريكا الكبير على إسرائيل للسيطرة على سلوك حكومة نتنياهو، أو ضمان وقف إطلاق النار، أو ردع إسرائيل عن اقتراف ما قد يرقى إلى جرائم حرب أو العمل بما يناقض المصالح الأمريكية. وبدلا من ذلك، مضى بايدن من وراء نتنياهو، حتى حينما غلَّبت إسرائيل الانتقام على المصلحة.

فقام بايدن بتسليح إسرائيل في غمار ما قالت محكمة العدل الدولية: إنه يمكن اعتباره منطقيا إبادة جماعية، وتضمن ذلك تحايله مرتين على مراجعة الكونجرس وإشرافه على شحنات أسلحة. وقد سخرت وزارة خارجيته من زعمه أن سياسة أمريكا الخارجية ترتكز على حماية حقوق الإنسان بقطعها بأن إسرائيل لا تقترف جرائم حرب في غزة. والأهم على الإطلاق أنه استعمل الفيتو ثلاث مرات ضد قرارات لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تطالب بوقف إطلاق النار. وسمح لقرار من هذا النوع بالصدور الشهر الماضي، ثم قوّضه على الفور بزعمه أنه قرار غير ملزم.

لم تؤد هذه السياسات فقط إلى إطالة أمد الحرب في غزة، والإسهام في مجزرة للمدنيين وعزل للولايات المتحدة على المستوى الدولي. ولكنها أججت أيضا خطر نشوب حرب إقليمية يسهل أن تُستدرج إليها الولايات المتحدة. وقد أدت حرب غزة إلى خرق وقف إطلاق النار غير المكتوب بين القوات الأمريكية في الشرق الأوسط و«الميلشيات» العراقية والسورية المتحالفة مع إيران فأدى ذلك بدوره إلى تصاعد كبير في الهجمات على القوة الأمريكية ومقتل ثلاثة من أفرادها العاملين في يناير. ورد الرئيس بايدن باستعمال القوة ضد هذه «الميلشيات» وضد الحوثيين في اليمن مقرِّبا الولايات المتحدة من صراع علني.

وبرغم قول الرئيس الأمريكي مرارا إنه يساند حل الدولتين، فقد دفع بسياسات تجاهلت ـ في أفضل الحالات ـ حق الفلسطينيين في دولة، ومنعتهم ـ في أسوئها ـ من ذلك. وقبل الحرب لم تظهر إدارة بايدن اهتماما يذكر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعجزت عن التراجع عن قرارات الحقبة الترامبية العديدة، من قبيل إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن والقنصلية الأمريكية في القدس التي كانت نقطة الاتصال الدبلوماسي الرسمي بين الولايات المتحدة والفلسطينيين. لقد أكدت صيغة الشرق الأوسط الخاصة بالرئيس دونالد ترامب أن حل الدولتين لم يعد مفتاح السلام في المنطقة. بل إن التكامل الاقتصادي بين الدول العربية وإسرائيل هو الذي من شأنه أن يأتي بالسلام، وأن على الشعب الفلسطيني أن يقبل عمليا بأن يكون مصيره هو الاحتلال الأبدي.

واصل الرئيس بايدن توجيه الطاقة الدبلوماسبة في البناء على اتفاقات ترامب الإبراهيمية. وقد قدمت هذه الاتفاقات تنازلات أمريكية كبيرة لدول عربية في مقابل توقفها عن المطالبة بدولة فلسطينية شرطا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتبنى الرئيس بايدن هذا النهج في مطلع رئاسته، وسعى إلى التفوق على ترامب بمحاولة إدخال أهم دولة عربية وهي المملكة العربية السعودية. لكن من خلال منع أي أمل في إمكانية أن تؤدي جهود السلام إلى تحقيق مطامح الفلسطينيين الوطنية ـ حيث لا تقدم الاتفاقات ما يزيد على وعد هزيل بـ«طريق» إلى دولة ـ جعل الرئيسان ترامب وبايدن العنف الفلسطيني أرجح احتمالا.

وبدلا من إعادة تقييم هذا النهج بعد السابع من أكتوبر، تشبث الرئيس بايدن بتلك الصيغة. توقف سعي الرئيس بايدن إلى اتفاقية تطبيع مع الرياض عندما اندلعت الحرب. والآن تمتلئ واشنطن مرة أخرى بطَنين الشائعات حول مدى قرب بايدن من إنهاء اتفاقية بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحكومة إسرائيل اليمينية.

برغم طرح هذا كله باعتباره خطة جديدة مبتكرة للشرق الأوسط، فإنه كله مماثل بدرجة مخيفة لاستراتيجية الولايات المتحدة الفاشلة منذ عقود لتنظيم المنطقة في مواجهة إيران بدلا من دعم بنيان أمني شامل في الشرق الأوسط يتضمن جميع حكومات المنطقة. وفي حين أن عداوة إيران الأيديولوجية لإسرائيل عميقة الغور، فقد ألمحت إيران في مناسبات عديدة في الماضي إلى أنها ـ في سياق ترتيب إقليمي أكبر لا يقصيها ـ مستعدة للتعايش مع أي اتفاقية إسرائيلية فلسطينية يجدها الفلسطينيون أنفسهم مقبولة.

لقد اتبع الرئيس بايدن سياسات دفعت الشرق الأوسط إلى شفا الحرب. ولا ينبغي أن نقلل من نجاحاته التكتيكية في تجنب أسوأ نتائج سياساته. ولكن هذه النجاحات لا يمكن أن تعوض عن فشل حكومته الأوسع في اتباع استراتيجية تجلب الأمن الحقيقي لأميركا والسلام الحقيقي للشرق الأوسط.

تريتا بارسي مؤلف كتاب «خسارة عدو: أوباما وإيران وانتصار الدبلوماسية» وهو نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي.

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط الرئیس بایدن

إقرأ أيضاً:

ما هو «الشرق الأوسط الجديد»... الحقيقي هذه المرة؟!

لم يبقَ في عالمنا العربي إعلاميٌّ أو محلّلٌ سياسي، أو دخيلٌ على المهنتين، إلا وحاضر ودبّج مقالات على مرّ العقود الأخيرة عن «الشرق الأوسط الجديد». غير أنَّ الشرق الأوسط الذي نراه اليوم حالة مختلفة عما كنا نسمعه، مضموناً وظروفاً.

منطقتنا صارت، مثل حياتنا ومفاهيمنا السياسية - الاجتماعية، خارج الاعتبارات المألوفة. بل يجوز القول إنها باتت مفتوحة على كل الاحتمالات. وهنا لا أقصد البتة التقليل من شأن نُخبنا السياسية أو الوعي السياسي لشعوبنا، أو قدرة هذه الشعوب على التعلّم من أخطائها... والانطلاق - من ثم - نحو اختيار النهج الأفضل...

إطلاقاً!
اليوم، نحن وأرقى شعوب الأرض وأعلاها كعباً في الممارسة السياسية المؤسساتية في زورق واحد.
كلنا نواجه تعقيدات وتهديدات متشابهة. ولا ضمانات أن «تعابير» كالديمقراطية والحكم الرشيد في دول ذات تجارب ديمقراطية راسخة، كافية إذا ما أُفرغت من معانيها، لإنقاذ مجتمعات هذه الدول مما تعاني منه... وسنعاني منه نحن.

بالأمس، سمعت من أحد الخبراء أنَّ الاستخدام الواسع لتقنيات «الذكاء الاصطناعي» في مرافق أساسية يومية من حياة البشر ما عاد ينتظر سوى أشهر معدودة.

هذا على الصعيد التكنولوجي، ولكن على الصعيد السياسي، انضمت البرتغال قبل أيام إلى ركب العديد من جاراتها الأوروبيات في المراهنة عبر صناديق الاقتراع على اليمين العنصري المتطرف، مع احتلال حزب «شيغا» الشعبوي شبه الفاشي المرتبةَ الثانية في الانتخابات العامة الطارئة، خلف التحالف الديمقراطي (يمين الوسط)، وقبل الحزب الاشتراكي الحاكم سابقاً.

تقدُّم «شيغا» في البرتغال، يعزّز الآن حضور الشعبويين الفاشيين الذي تمثله في أوروبا الغربية قوى متطرفة ومعادية للمهاجرين مثل: «الجبهة الوطنية» في فرنسا، و«فوكس» في إسبانيا، و«إخوان إيطاليا» في إيطاليا، وحزب «الإصلاح» (الريفورم) في بريطانيا، وحزب «الحرية» في هولندا، وحزب «البديل» في ألمانيا.

ثم إنَّ هذه الظاهرة ليست محصورة بديمقراطيات أوروبا الغربية، بل موجودة في دول عدة في شرق أوروبا وشمالها، وعلى رأسها المجر. وبالطبع، ها هي ملء السمع والبصر في كبرى الديمقراطيات الغربية قاطبةً... الولايات المتحدة!

في الولايات المتحدة ثمّة تطوّر تاريخي قلّ نظيره، لا يهدد فقط الثنائية الحزبية التي استند إليها النظام السياسي الأميركي بشقه التمثيلي الانتخابي، بل يهدد أيضاً مبدأ الفصل بين السلطات.

هذا حاصل الآن بفعل استحواذ تيار سياسي شعبي وشعبوي واحد، في فترة زمنية واحدة، على سلطات الحكم الثلاث: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، يضاف إليها «السلطة الرابعة» - غير الرسمية - أي الإعلام.

ولئن كان الإعلام ظل عملياً خارج الهيمنة السياسية، فإنه غدا اليوم سلاحاً أساسياً في ترسانة التيار الحاكم بسبب هيمنة «الإعلام الجديد»، والمواقع الإلكترونية، و«الذكاء الاصطناعي»، و«أوليغارشي» ملّاك الصحف والشبكات التلفزيونية، ناهيك من وقف التمويل الحكومي لإعلام القطاع العام. وما لا شك فيه أن مؤسسات هؤلاء، بدءاً من رووبرت مردوخ (فوكس نيوز) وانتهاء بإيلون ماسك (إكس) ومارك زوكربرغ (ميتا) وجيف بيزوس (الواشنطن بوست)... هي التي تصنع راهناً «الثقافة السياسية» الأميركية الجديدة وربما المستقبلية، بدليل أن نحو 30 من وجوه إدارة الرئيس دونالد ترمب جاؤوا من بيئة «فوكس نيوز» ونجومها الإعلاميين.

في هذه الأثناء، يرصد العالم التحولات الضخمة في المشهد الأميركي بارتباك وحيرة.
الحروب الاقتصادية ليست مسألة بسيطة، وكذلك، لا تجوز الاستهانة بإسقاط سيد «البيت الأبيض» كل المعايير التي تحدد مَن هو «الحليف» ومَن هو «العدو»... ومَن هو «الشريك» ومن هو «المنافس»!
ولكن، في ضوء التطوّرات المتلاحقة، يصعب على أي دولة التأثير مباشرة في أكبر اقتصادات العالم وأقوى قواه العسكرية والسياسية. ولذا نرى الجميع يتابع ويأمل ويتحسّب ويحاول - بصمت، طبعاً - إما إيجاد البدائل وإما التقليل من حجم الأضرار الممكنة.

أما عن الشرق الأوسط والعالم العربي، بالذات، فإننا قد نكون أمام مشاكل أكبر من مشاكل غيرنا في موضوع اختلال معايير واشنطن في تحديد «الحليف» و«العدو».

ذلك أن الولايات المتحدة قوة كبرى ذات اهتمامات ومصالح عالمية. وبناءً عليه، لا مجال للمشاعر العاطفية الخاصة، وأيضاً لا وجود للمصالح الدائمة في عالم متغيّر الحسابات والتحديات.

في منطقتنا، لواشنطن علاقة استراتيجية راسخة مع إسرائيل التي تُعد «مركز النفوذ» الأهم داخل كواليس السلطة الأميركية ودهاليزها، والتي تموّل «مجموعات ضغطها» معظم قيادات الكونغرس ومحركي النفوذ.

ثم هناك تركيا، العضو المهم في حلف شمال الأطلسي «ناتو»، والقوة ذات الامتدادات الدينية والعرقية والجغرافية العميقة والمؤثرة في رسم السياسات الكبرى.

وأخيراً لا آخراً، لإيران أيضاً مكانة كبيرة تاريخياً في مراكز الأبحاث الأميركية كونها - مثل تركيا - «حلقة» في سلسلة كيانات الشرق الأوسط، ولقد أثبتت الأيام في كل الظروف أن غاية واشنطن «كسب» إيران لا ضربها.

في هذا المشهد، ووسط الغموض وتسارع التغيير، هل ما زلنا كعرب قادرين يا ترى على التأثير في المناخ الإقليمي وأولويات اللاعبين الكبار؟

 الشرق الأوسط

مقالات مشابهة

  • اتصال هاتفي بين وزير الخارجية والهجرة ومبعوث الرئيس الأمريكي الخاص للشرق الأوسط
  • مصر تؤكد ضرورة وقف العدوان على غزة وواشنطن تشيد بدور الرئيس السيسي في الوساطة
  • ما هو «الشرق الأوسط الجديد»... الحقيقي هذه المرة؟!
  • تهديدات الرئيس المشاط تثير الذعر في كيان العدو.. اليمن يعيد صياغة معادلة الردع في الشرق الأوسط
  • صحيفة إسرائيلية: تركيا أصبحت القوة الجديدة التي تُقلق إسرائيل في الشرق الأوسط!
  • خلافات ترامب وماسك تندلع علناً في الشرق الأوسط
  • الإماراتية شيخة النويس أول امرأة على مستوى العالم تفوز بمنصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للسياحة
  • الإماراتية شيخة النويس أول امرأة تفوز بمنصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للسياحة
  • من هي الإماراتية شيخة النويس أول امرأة تفوز بمنصب أمين عام الأمم المتحدة للسياحة؟
  • نظرة على الشرق الأوسط في عقل ترامب