دروز بلغراد.. شخصيات مسحوقة ونهايات مجهولة
تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT
تقوم رواية (دروز بلغراد) لربيع جابر على سردٍ متمثلٍ في أدب الحروب والسجون والنفوذ والهيمنة على الآخر لا سيما في فترة حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية في أواخر القرن التاسع عشر. وتنقل الرواية للقارئ صورة متخيلة للواقع الذي كانت عليه البلدان العربية وشعوبها فترة الحكم العثماني؛ فصوّرت سيطرة العساكر العثمانيين في تسيير أمور البلاد، وصوّرت لنا السجون وأحوال السجناء فيها وصراعهم من أجل الحياة.
تبدأ الرواية باستخدام تقنيتي الاستباق والاسترجاع؛ إذ يقدم لنا الراوي وصفًا لحالة الشخصية (حنا يعقوب) في سجن الجبل الأسود عام (1872م) أي بعد اثني عشر عامًا من خروجه من بيروت إلى بلغراد على يد جنود العثمانيين. يقوم الجزء الاستفتاحي من الرواية على إظهار الحالة النفسية السيئة للشخصية متمثلة في فراقه لزوجته وطفلته وتذكره لهما، ومعايشة صنوف العذاب والألم، ولعلّ العبارات الآتية تشير إلى ذلك: «أيقظني الهدير وارتجاج الأرض. أين أنا؟ في حبس الهرسك أم في قلعة بلغراد؟ القيود الحديد منعتني من النهوض لكنني أمد رقبتي ومن دون وعي أوشك أن أصيح كما في السنين البعيدة في بلدي البعيد: «بيض بيض، بيض مسلوق». أسمع ركضًا وصراخًا ثم خبطات مرعبة فوقي -على وجه الأرض- كأن حيوانات أسطورية عملاقة تتراكض وتقع وتموت. خوار فظيع يملأ الفضاء وأشم رائحة اللحم الذي يحترق. الرعب يخترق عقلي كحد السيف. عرق بارد كالثلج يبلّ جسمي... لماذا أموت في هذا المكان من دون أن أرى زوجتي وابنتي وبيتي مرة أخرى؟ خرجت في الصبح أبيع بيضًا والشمس لم تطلع من وراء جبل صنين بعد. قبل عشر سنوات، قبل 11 سنة، قبل 12 سنة. التراب يتساقط على رأسي. مكتوب لي في اللوح المحفوظ أنني أطمر حيًّا حبيسًا بلا جرم في هذه الأرض الغريبة؟
أين العدل؟ كيف يصنع الرب بي هذا؟ وهيلانة؟ والصغيرة كم كبرت وأنا لا أراها ولا أسمع صوتها؟». فما هي حكاية (حنا يعقوب) الواردة في المقطع أعلاه؟
يعود بنا الراوي عبر تقنية الاسترجاع إلى بيروت في عام (1860م) ساردًا حكاية حنا يعقوب والدروز الذين سيصبح حنا يعقوب واحدًا منهم بحكم ما يراه الجنود العثمانيون.
تنطلق الأحداث عندما اتجه الشيخ غفار لمقابلة إسماعيل باشا ليشفع في أبنائه المسجونين مع 550 درزيًّا المقبلين على عملية الترحيل خارج البلاد نظير ما فعلوه في أثناء حروبهم بالمسيحيين. لكن إسماعيل باشا يرفض شفاعته ولمنزلة الشيخ غفار وكبر سنه يقدم له إسماعيل باشا عرضًا وهو أن يختار واحدًا من أبنائه الخمسة ليخرجه من السجن. هنا تبدأ حكاية حنا يعقوب الذي تأخذه الأقدار إلى المكان والزمان اللذين يرتبط فيهما بالشخصيات وتنطلق حكايته لسنوات طويلة.
كان حنا يعقوب يبيع البيض في مرفأ الميناء لحظة ترحيل الدروز، ولأن الشيخ غفار اختار واحدًا من أبنائه ليخرج من السجن فكان لا بد على الجنود إيجاد من يحل محل سليمان غفار عز الدين، فكان حنا يعقوب. في هذا المشهد تتقاطع شخصية حنا يعقوب بائع البيض الذي عوّض نقصا واحدا من الدروز مع شخصية (حلمي أمين عبد السيد) في فيلم التحويلة 1996م بطولة أحمد عبدالعزيز وفاروق الفيشاوي ونجاح الموجي. فقد كان حلمي أمين/ نجاح الموجي موظف تحويلة في محطة القطارات، وهو رجل بسيط لديه أسرته البسيطة الفقيرة ويبحث عن نقود لعلاج ابنته، وعندما كانت الشرطة ترحّل مجموعة من المسجونين السياسيين إلى السجن هرب واحد من المسجونين الأمر الذي دفع ضابط الشرطة إلى استبداله بعامل التحويلة ليكون مكان المسجون الهارب. هنا تتشابه الشخصيتان كثيرًا في الظروف والظلم والاختطاف القسري ثم الإخفاء والإبعاد عن أهله وناسه.
تقوم الرواية على عرض مصائر شخصياتها بدءًا من اللحظات الأولى للترحيل إلى وفاة كل شخصية منها، وكأنها تقوم بمهمة رسمتها الرواية في الأحداث، وهنا بالتأمل في عتبة الرواية نجدها قائمة في تحديد شخصياتها على شقين: (دروز بلغراد) و(حكاية حنا يعقوب). فيظهر لنا الشق الأول كونه قائمًا على جانب جمعي وشخصيات مختلفة تساعد في تقديم الأحداث، أما الشق الثاني فقائم على جانب فردي يحمل حكاية أحد المساجين الذين ارتبطوا بالشخصيات الأخرى في رحلة النفي خارج البلد. وهنا يمكن التوضيح أن الاختلاف واضح بين الدروز وبين حنا يعقوب من حيث الديانة والنسب والمكان إلا أن الظروف جعلته واحدًا منهم يتشارك معهم المصير الواحد والنهايات الحزينة إلا أنه يحمل خصوصية مختلفة عن البقية.
لقد كان حنا يعقوب مشاركًا لبقية الشخصيات الأحداث، بل في أحيان كثيرة نجد حضور الشخصيات الأخرى أكبر، فلمَ خصه الكاتب بالحكاية؟ يبدو أن الرواية تتلاعب بالمشاعر الإنسانية، وتحاول إبراز العواطف التي تنتج عن شخصيات مستكينة في العمل الروائي كما عند حنا يعقوب، وإذا كان الدروز قد أخطؤوا واستحقوا معها العقوبة فإن هناك شخصية أصابها العذاب والتغريب والإبعاد دون أي جرم وهنا تظهر محاولة جرّ القارئ إلى عالم السجون وجلسات التعذيب والقهر للوقوف على صور التعذيب والظلم.
ترسم الرواية مسارات متعددة للأحداث، وترتبط بذلك من خلال خط سير الأحداث والانتقال من مكان إلى آخر، فيظهر لنا التنوع في البيئات والشخصيات والعادات ومعه يظهر صنوف العذاب وآلام السجون ومراراته. ويصبح السجن مكانًا لسرد الأحداث ووصف الشخصيات: السجين والسجان على حد سواء، كما تصبح السجون معادلًا للحكي واتساع رقعة الكلام، فيتوسع السجناء في سرد حياتهم الماضية، وتذكر الماضي، والنظر إلى المستقبل، إنها رحلة طويلة يفرغ كل واحد من الشخصيات الحمولات التي يضج بها عقله، وهنا يتوزّع السرد بين لحظات ثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل. وما ينتج في لحظة الحكي يمثل صراعًا قائمًا بين اللحظات الثلاث، الماضي دفع الشخصيات إلى لحظات الحاضر المليئة بالعذاب والنفي، وهو الذي جعلها تنظر إلى المستقبل بناء على معطيات الحاضر؛ فهناك من فقد بصره في رحلة السجون، وهناك من فقد يده، وهناك من قضى من هول الألم والعذاب.
تتبادل الشخصيات الحوارات والوصف والنظر إلى المصير المجهول في سير الأحداث إلا أن حكاية حنا يعقوب بالتحديد ستأخذ نصيبًا أكبر بعد المجزرة التي وقعت للمسجونين وراح ضحيتها عدد كبير منهم، إلا أن الرواية تحاول رسم مسار العودة لحنا يعقوب، وهو بلا شك مسار موازٍ لمسار النفي والطرد من البلاد بل إنه مسار أشق، فليس من السهل الخروج من السجن والعودة إلى بيروت قاطعًا كل تلك المسافات، فترسم الرواية لمسار العودة اتجاهات متعددة تتمثل في: الهروب الأول، ثم القبض على حنا والحكم عليه بالسجن مرة أخرى، ثم الهروب من الجبل الأسود بعد حريق هائل، ثم الالتحاق بركاب الحجاج وصولًا إلى البلاد العربية، ثم الوصول إلى بيروت.
يمثل حنا يعقوب في الرواية الإنسان البسيط الذي يواجه العالم الخارجي دون ثقافة أو سلاح، وهو في هذه المواجهة قابع بين الخوف والرجاء، حتى في علاقته بالشخصيات الأخرى فقد كانت العلاقة فاترة إلا مع بعض الشخصيات، هذه الصورة نجدها أيضا عند حلمي أمين عبد السيد في فيلم التحويلة إلا أن الفارق بينهما في النهاية؛ فقد قُتل حلمي أمين على يد الضابط، أما حنا يعقوب فقد قادته النهايات إلى الالتقاء بزوجته وابنته، هنا تؤدي المشاعر والعواطف في الكتابة أدوارها وتقود القارئ رغم مآسي الأحداث إلى بقعة ضوء آخر النفق. لقد انتهت حكاية الدروز في طرق العودة راسمة حلمًا بالعودة إلى الوطن، وإلى الأهل وإلى الماضي، فكم من حلم انتهى قبل أن يرى النور، وكم من حلم مضى في الطرقات المظلمة حتى وصل رغم العقبات.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حلمی أمین واحد ا من إلا أن
إقرأ أيضاً:
حكاية عشق لا تنتهي… مع عمّان الأهلية
صراحة نيوز ـ د. سمر أبوصالح
حين أقول إن جامعة عمّان الأهلية ليست مجرد مكان عمل بالنسبة لي، فأنا لا أبالغ، إنها نبض القلب، وذاكرة الروح، ومنارة بدأت منها رحلتي، وما زلت أواصل فيها طريق الشغف والانتماء.
بدأت حكايتي معها عام 2004، حين قررت أن أبدأ مشواري الأكاديمي من خلال برنامج التجسير، وكان هذا القرار هو مفترق الطريق الأجمل في حياتي. درست بكل إصرار، وتخرجت بتفوق، ولم يمر سوى أسبوع حتى وجدت نفسي أعود إلى الجامعة، لكن هذه المرة كعضو هيئة ادارية مساعد بحث و تدريس ، شعرت حينها أنني لم أنتمِ فقط لمكان، بل لعائلة كبيرة آمنت بي قبل أن أُثبت نفسي.
ومنذ ذلك اليوم، أصبحت الجامعة لي أكثر من مجرد مؤسسة، أصبحت حضنًا حقيقيًا احتواني في كل مراحل حياتي. أكملت دراساتي العليا بدعم ومحبة لا حدود لهما، تزوجت، وأنجبت، وكبر أولادي وأنا ما زلت في قلب الجامعة، أتنفس من هوائها، وأزهر من دفئها.
توليت العديد من المهام الإدارية، وسعيت بكل حب وصدق لأبقي كليتي، وقسمي، وجامعتي، في أجمل صورة وأبهى حضور. لأنني أؤمن أن من يُحب، يُخلص، ومن يُخلص، يُبدع، ومن يُبدع، يصنع الفرق.
دوامي في الجامعة ليس التزامًا وظيفيًا فحسب، بل هو دوام غرام، بل هيامٌ حقيقي. لدرجة أن كثيرين يظنون أنني لا أستطيع مغادرة الجامعة إلى أي مكان آخر لأنني “مبتعثه”. لكن الحقيقة التي أفخر بها: أنا لست مبتعثه، ولم تمولني أي جهة، بل أكملت دراستي من مالي الخاص، وبإرادة شخصية مني ، فقط لأنني أحببت، وآمنت، وقررت أن أكون.
ومن شدة إيماني برسالة الجامعة، وثقتي بأنها تعمل للرقي العلمي والأخلاقي للطالب والدكتور معًا، لم أتردد لحظة في أن أُسجّل ابنتي فيها، وقد تخرّجت منها بفخر. واليوم، أقولها بصوت عالٍ:
ممنوع على أي أحد من أحفاد العائلة التسجيل خارج جامعة عمّان الأهلية، إلا إذا كان ذلك لدراسة الطب البشري أو تخصصات اللغات.
وأضيف بكل فخر: ستة من أحفاد العائلة الآن مسجلون في الجامعة، بتخصصات مختلفة، لأن هذا الصرح أصبح جزءًا من هويتنا العائلية وامتدادًا لإيماننا العميق بجودة التعليم فيه.
رسالتي للأجيال القادمة: ازرعوا الحب فيما تفعلون. فالنجاح لا يُصنع من الأداء فقط، بل من الشغف، والوفاء، والإيمان. المكان الذي تمنحونه قلوبكم، يمنحكم أكثر مما تتخيلون. وأنا، وُلدت أكاديميًا من رحم هذه الجامعة، وسأظل مدينة لها بكل خطوة في مسيرتي.
شكري الخالص لإدارة جامعة عمّان الأهلية، قيادة وأساتذة وزملاء، لأنهم لم يكونوا فقط شركاء مهنة، بل رفاق درب، وأسرة مؤمنة بالإنسان قبل الألقاب.
كل زاوية في الجامعة تحمل ذكرى، كل قاعة درست أو درّست فيها، كل صباح شاركت فيه طلابي شغفي بالعلم، كل ركن وقفت فيه أتنفس الانتماء الحقيقي… هذه الجامعة تسكنني، بكل تفاصيلها، وكل حكاياتها.
وقد أختصر كل هذا وأقول: جامعة عمّان الأهلية ليست في سيرتي الذاتية فقط…
بل محفورة في قلبي، وساكنة في وجداني، وستبقى دائمًا قصتي الأجمل.
وستبقى روح الدكتور أحمد الحوراني رحمه الله وقلبه ونبضه فينا مهما حيينا.