سردية ذاتية لأحمد زين عن الضابط الذي ترتعش فتحتا أنفه حين يغضب أو يتوتر!
تاريخ النشر: 30th, April 2024 GMT
صدر عن دار جسور للترجمة والنشر كتاب "الضابط الذي ترتعش فتحتا أنفه حين يغضب أو يتوتر" للكاتب المصري أحمد زين. والكتاب الصادر حديثا هو مزيج من أدب السير الذاتية والقص الأدبي وصنفه كاتبه تحت عبارة سردية ذاتية.
يحكي لنا الكاتب عن طفولته وتفتح وعيه داخل أسرة لها ماض سياسي وكيف أثرت هذه النشأة على اهتمامه بالعمل العام الأمر الذي أوقعه في مشاكل متعددة مع أجهزة الدولة الأمنية وقبضتها التي لا ترحم.
يحدثنا الكاتب عن علاقته بالسياسة وعن كيفية اعتقاله عام 1995 وهو طالب في جامعة القاهرة، كل ذلك في رابط سردي يتنقل به بين زمنين منفصلين؛ عن فترة من شبابه وجانب من طفولته.
ينقل لنا الكاتب بعضا من مشاهداته وشهاداته داخل السجون المصرية لمجموعة من الطلاب الجامعيين ويومياتهم في الزنازين. كما يستعرض الكاتب من خلال نشأته عددا من الأحداث والذكريات في عقد الثمانينيات والتسعينيات.
عنوان الكتاب الطويل نسبيا ركز على الضابط الذي أمر باعتقال الطالب وزملاءه والذي مارس عبر سنوات دورا محوريا في ارهابهم ومحاولة ثنيهم عن دورهم في العمل الطلابي.
رغم أن الكتاب تجربة شخصية في المجتمع المصري، إلا أن بعض القراء سيجد ارتباطا بالكتاب كونه عاكسا لكثير من الملامح السياسية والاجتماعية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات التي مرت بعالمنا العربي والتي تتشابه في كثير من بلدانه.
صدر للكاتب أحمد زين من قبل مجموعة قصصية منذ نحو عشرين عاما تحت عنوان "الحرية إرادة"، والكاتب وهو صحفي مصري يعيش في بريطانيا منذ أكثر من عشر سنوات، درس اللغة العربية وآدابها في دار العلوم، ثم دراسات عليا في الفلسفة، وحصل على دبلوم النقد الفني من أكاديمية الفنون بالقاهرة، وفي مسيرته المهنية كتب وأنتج عددا من الافلام والمسلسلات الوثائقية والسينمائية.
مقتطفات من الكتاب
1
قال لي بكل تبرم وملامحه تزداد حدة: لماذا تضع نفسك يا بني في عداء للدولة من بداية حياتك الجامعية؟ دعك من اتحاد الطلاب، والتفت لمستقبلك الذي يضيع... لم أفهم ما الذي حشر هذا الكلام الكبير في حديثنا، وكنت مستغرقًا في تفكير عميق، بأمرين: أولا لماذا يصبغ الدكتور شعره باللون البني المائل للحمرة، والذي لا يكاد يخفي جذور الشعر البيضاء، كنت أرى هذا اللون سخيفًا، وثانيًا: في المهمة الثقيلة التي تنتظرني في الخارج للحديث مع ضباط أمن الجامعة للمرة الأولى.
2
حين سلمني للملاحقين كانوا يضربونني بينما يقتادونني بتعجل لسيارة الشرطة، كنت ما أزال أسمع طرقات قلبي.. بوضوح أكثر الآن.. لكنني كنت أسمع أزيزًا لا أدري مصدره تزامن مع ألم بالغ ورعشة في جسدي، كنت أصرخ:
- مالوش لازمة الضرب أنا جاي معاكم..
سمعت صوتي يخرج غريبًا متقطعًا، كأنه ليس صوتي، وبالفعل لم يكن كذلك، كان صوتي مهزوزًا متقطعًا... فهمت حينها أن الأزيز كان لصواعق الكهرباء المحمولة التي انهالت على جسدي من جموع الممسكين بي.
النظرة التي كانت في أعينهم فريدة، نظرة منتصر منتشٍ، كنت أفكر ببراءة غير لائقة، ما الذي يجعل وجوه هؤلاء الغرباء محملة بكل هذا الانتشاء حين ننكسر، ما الذي يجعل جباههم تتألق إذا داسوا جباهنا بنعالهم؟، لماذا يكرهوننا؟ وكيف لا ترف لهم عين حين يلحقون بنا الأذى؟ طوال الطريق نحو سيارة الشرطة كانت الأفكار تتوالى على رأسي: من سيبلغ أهلي بالأمر؟ كيف ستعاني أمي؟ وكيف سيتصرف أبي؟
3
قبل هذه الحكايات كنت أعرف صورة أبي كموظف كادح، مهموم بما اعتبره رأس ماله في الحياة واستثماره الوحيد: العائلة، لكن هأنذا أتعرف على أبي من جديد، يخفي خلف بساطته-ما رأيته وما زلت- بطلا ومناضلا وحكاية أسطورية.
هنا فهمت ذكرى من الطفولة لم أكن أفهمها جيدًا؛ لأن عمري وقتها كان أقل من الخامسة بقليل، حين اصطحبنا أبي لأول مرة للسينما لمشاهدة فيلم لعادل إمام وعبد المنعم مدبولي، لكن توقعاتنا خابت جميعًا؛ لأنه لم يكن فيلمًا كوميديًّا، لكنه كان تراجيديا كاملة اسمها «إحنا بتوع الأتوبيس».. فهمت، بعد حكاية أخي لي عن تاريخ أبي، لماذا رأيت أبي للمرة الأولى والوحيدة في حياته يبكي، في مشهد تعذيب عبد المنعم مدبولي، وقد ربطوه من عنقه بحبل، وجرجره السجَّانون ككلب.
4
الصفعات التي لا تراها مرعبة أكثر من تلك التي تراها وتتوقعها، لا يمكن أن تحمي نفسك بيديك المقيدتين، ولا أن تميل رأسك حتى تخفف أثر الصفعات، دور الغمامة في التأثير عليَّ مخيف، الظلام يجعل كل شيء أكبر، الشرطي الذي وراءك تتحول أنفاسه اللزجة إلى فحيح مخيف، أصوات المحققين تكتسي بنبرة ميتافيزيقية كأنهم يعرفون كل شيء، صوت كوب الشاي وهو يوضع على المكتب يصير منذرًا بإيذاء بدني قادم، الحساسية لكل ما تسمع أو تحسه يتحرك تصبح أعلى، المخاوف تزداد.
الظلام يحيلهم وحوشًا، ينزع بشريتهم، يجعل صوتهم الأجش أكثر قسوة وبلادة... الظلام يلعب لصالحهم، يخفي عني الإرهاق البادي في أعينهم، التململ من أحدهم، ملامح وجه ساذجة وغبية، شاربًا غير منمق تحت أنف كبير يدعو للضحك، صلعة حادة... الضوء سيكشف أنهم بشر كغيرهم يمكن أن تحاورهم، أن تكسبهم، أن تلعب على إنسانيتهم، أو حتى أن تخدعهم، لكن في الظلام ما من سبيل... فهم يتحكمون في المشهد تمامًا.
5
رغم المصير المجهول، كنت سعيدًا بأننا في سيارة الترحيلات، كطفل صغير في نزهة مع أبيه، أقرأ لافتات المحلات: مطعم سمسمة، كلية الفنون التطبيقية، جامعة القاهرة، يلتهب حماس الزملاء عند مرورنا بالجامعة ترتفع صيحات الزملاء في السيارة بهتافات عن الحرية، ورفض الظلم، والإفراج عن مصر، بينما يبدو لنا كوبري الجامعة في الأفق كان الطريق يكتظ بلوحات إعلانية ألبومات جديدة للطيفة، لعمرو دياب ومحمد منير، أفيش فيلم سارق الفرح، قاصد كريم بيومي، بسكوت الشمعدان زي ما بتحبه بيحبك كمان، تلفزيون تليمصر، مسرحية نشنت يا ناصح إخراج عبد المنعم مدبولي، شارع محمد علي شريهان وفؤاد المهندس، الجنزير لمحمد سلماوي، وصورة أشخاص لهم وجه قطة على لوحة ضخمة مضيئة وقد كتب عليها شيكولاتة جيرسي واكلة الجااااو.
وصلنا الآن إلى شارع النيل بالعجوزة، وأنا ما زلت أقرأ: «جرحوني وقفلوا الأجزخانات» لحسام حسني، «بتحب مين» لأنغام، «صديق» لحميد الشاعري، «ديدي» للشاب خالد، «تجيش نعيش» لعلي الحجار، سيمون «في حاجة كدة»، خالد عجاج «وحشتني»، «ولا تصدق» لأصالة، «أرض الشرق» هشام عباس، ايمان البحر درويش «يا وابور يا مولع»، باسكال مشعلاني «نظرة عيونك»، ذكرى «وحياتي عندك».
صعدت السيارة كوبري أكتوبر، تجاوزت ميدان التحرير ونزلت في شارع رمسيس، أذكر نفسي بكل شيء كأنني أخشى أن أنساه لاحقًا: هذه شجرة، هذه سيارة صفراء، هذا شاب يوصل الطعام للساهرين.. كانت السيارة تجري مسرعة، طرقات القاهرة الفارغة عقب منتصف الليل في الشتاء، توقع بعض الزملاء أننا ذاهبون إلى مصر الجديدة حيث مقر نيابة أمن الدولة العليا، تمنيت لو طال الطريق؛ لأنني على مدار ساعة تقريبًا استمتعت كثيرًا بكل لحظة فيها عبر لعبة التخيل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير المصري ميدان التحرير مصر الطلبة ميدان التحرير سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت
بسم الله الرحمن الرحيم
#قوافل_الغضب التي هزّت #عروش_الصمت
دوسلدورف/ أحمد سليمان العُمري
في عالم يُحاصر الأطفال بين أنياب الاحتلال وأقدام الأنظمة العربية، انطلقت قافلتان: واحدة بحرية من أوروبا وأعقبتها أخرى برية من تونس؛ حملتا نفس الحلم: كسر الحصار عن غزّة، لكنهما اصطدما بنفس القسوة، قسوة تثبت أن الخيانة العربية والغطرسة الإسرائيلية وجهان لعملة واحدة. هنا قصّة أولئك الذين رفضوا أن يكونوا حرّاساً لهذا السجن الكبير.
مقالات ذات صلة لماذا يخفق القلب فرحًا أو حزنًا؟ وأيهما أشد وطأة؟ 2025/06/20الليلة التي غرق فيها الضمير العالمي
«تياغو» البرازيلي ذو العشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن مشاركته في رحلة سفينة «مادلين» ستنتهي به في زنزانة إسرائيلية تحت الأرض. «كنا 12 ناشطاً فقط على متن السفينة»، يقول بصوت يرتجف، «عندما حاصرتنا الزوارق الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، وكأننا أسطولاً عسكرياً وليس متطوعين يحملون أدوية الأطفال».
بين الأمل والقمع
انطلقت السفينة من ميناء «كاتانيا» في جزيرة صقلية الإيطالية في الأول من يونيو 2025، تحمل على متنها ناشطين من جنسيات متعددة، بينهم الناشطة البيئية “غريتا تونبيرغ” والنائبة الأوروبية ريما حسن. كانت الشحنة رمزية بحجمها وعظيمة بأبعادها، تشمل مئات الكيلوغرامات من المواد الأساسية كالطحين والأرز وحليب الأطفال، بالإضافة إلى معدات طبية وأطراف صناعية وأجهزة تحلية مياه.
هدف الرحلة كان واضحاً: كسر الحصار البحري عن القطاع ونقل رسالة تضامن صامتة لكنها مدوّية، غير أن هذه المبادرة الإنسانية واجهت القسوة نفسها التي تحاصر غزّة، ففي التاسع من يونيو، وبعد ثمانية أيام من الإبحار، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية السفينة في مياه دولية. اعتُقل الناشطون، وتحولت رحلة الأمل إلى فصل جديد من الاعتقال والاضطهاد، حيث واجه الناشطون ظروفا قاسية من الحجز والتفتيش المشدد، في محالة واضحة لكسر إرادتهم ووقف صوت التضامن الدولي.
حيث يُسرق الحليب باسم السيادة
بينما كانت الناشط البرازيلي تياغو على متن السفينة يخترق البحر في محاولة مقدامة لكسر الحصار عن غزّة، جرى اعتقاله مع بقية زملاءه الشجعان بوحشية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسُجنوا في ظروف مهينة، دون أن يُراعى كونهم ناشطين إنسانيين؛ جاءوا بصفتهم المدنية لا كمقاتلين.
معاناة هؤلاء الشبان بالرحلة وفي السجون الإسرائيلية لم تكن حدثًا معزولًا، بل امتداد لمعاناة غيرهم من الأحرار الذين لا ينتمون إلى هذه الأرض جغرافياً، لكنهم ينتمون لها أخلاقياً وإنسانياً.
من تياغو إلى ريما حسن، النائبة الفرنسية الفلسطينية التي لم تشفع لها حصانتها الأوروبية، مروراً بالناشطين بين تركي وألماني وإسباني وهولندي… الخ الذين اعتقلوا أو طُردوا أو شُوّهت سمعتهم لأنهم فقط تجرّؤوا على رفع علم فلسطين في عواصمهم.
وإن كانت يد الاحتلال قد امتدت في عرض البحر لتقمع من جاؤوا متضامنين، فإن اليد الأخرى، المخفية تارة والمكشوفة تارة أخرى، كانت تضرب على اليابسة. ففي مصر، تعرّض الناشطون من “مسيرة غزّة” للضرب والإهانة والتنكيل على أيدي قوات أمن بلباس مدني، في محاولة ممنهجة لإظهار أن الاعتراض يأتي من “المواطنين العاديين”، وليس من الدولة.
لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري – وهو الزخم العارم لفلسطين – قد انقلب على المبدأ. بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت هؤلاء المتضامنين ليست يد الشعب، بل يد السلطة، وهي اليد ذاتها التي تصافح القتلة هناك، وتمنع المساعدات هنا، وتحاصر الفلسطيني في جسده ومعيشته وتُمعن في عزل كل من يحاول الوصول إليه.
بهذا المشهد، تتكامل المأساة مع الهزل، وتغدو الجغرافيا السياسية للمقاومة محكومة بمنظومتين: شعوبٌ تتقد بالشجاعة رغم البعد، وأنظمةٌ تشتغل لحساب الاحتلال وإن رفعت شعارات ضده. وهنا، كما يؤكّد الحال راهناً، فإن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يواجه مقاومة ضارية من أنظمة ترى في بقاء الاحتلال حماية لاستقرارها أو امتداداً لاستعمارها، أكثر مما ترى فيه جريمة تستحق المواجهة.
وفي ليبيا، حيث تسيطر قوات حفتر، كانت العراقيل بذريعة البيروقراطية والتعنّت الأمني في أقصى درجاتها، إذ منعت قوافل التضامن من المرور، وواجه ناشطون تحقيقات مطولة وإجراءات تعسفية، مما يعكس تنسيقاً أمنياً واضحاً وفاضحاً مع الاحتلال.
هذه التجارب المشتركة، من الاعتقال في سجون الاحتلال إلى التضييق في الحدود ومطارات الدول العربية والحدود البرية، تؤكّد حجم العقبات التي تواجه أي محاولة حقيقية لكسر الحصار وإيصال الدعم لغزّة، كما تؤكّد أن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يلقى مقاومة شديدة من أنظمة تحابي الاحتلال أكثر مما تُساند شعوبها في قضاياه المصيرية.
الرسائل التي كتبها الجلادون بتواطئهم
الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، والسيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزّة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمرّ من بواباتهم بجوازه وكرامته.
أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مُطمئنة إلى أن الطرق إلى غزّة ما زالت مغلقة.
قافلة الصمود رغم عودتها اليوم لم تُكسر، عادت إلى تونس بجراحها وتحمل شيئاً أعظم من العبور: يقظة الضمير. لم تصل الشاحنات، لكن وُلدت إرادة جديدة، وكُسر الصمت، وإن لم تنجح سفينة ماديلين والصمود، فسيأتي بعدهما قوافل أخرى، بالآلاف، فإرادة الشعوب لا تنضب، وغزّة لا يمكن أن تُحاصر إلى الأبد.
إذا مُنعوا اليوم من العبور، فستُحوّل الأرض كلها إلى معبر؛ القوافل والسفن لم تمت، بل صارت فكرة لا تموت.