عندما يبكي الإبداع لرحيل عبود سيف الدين
تاريخ النشر: 5th, May 2024 GMT
زين العابدين صالح عبد الرحمن
أخر عقد السبعينات و بداية الثمانينات شهدت الإذاعة السودانية تطور جديدا من الناحية الإبداعية طالت كل الأقسام، و كان لخريجي معهد الموسيقى و المسرح القدر المعلا في ذلك. هؤلاء كانوا مستوعبين في إدارة الإخراج و المنوعات و هي الأقسام التي تعطي للمؤسسة شخصيتها الاعتبارية و خاصة برامجها في مختلف حقول المعرفة.
تدرب على هذا الجيل العديد من الإذاعيين الذين جاءوا في نهاية عقد السبعينات و بداية الثمانينات و خاصة في الإخراج خطاب حسن أحمد و أبراهيم البزعي و صلاح التوم و سلمى الشيخ سلامة و المرحوم إحسان و عوض بابكر و طارق البحر و السر السيد و احمد طه أمفريب، العبادي و عوض بابكر و معهم البعض الذين اختاروا العمل أولا ثم مواصلة الدراسة في المعهد منهم عبود سيف الدين و عماد الدين إبراهيم و سيد احمد إبراهيم. و بعدهم جاء أزهرى العمرابي و خفاجة حتى لا تخونني الذاكرة.. هذه الكوكبة و الحديث عن الفنون و الإخراج هؤلاء هم الذين وضعوا اللبنة الأساسية الذي غيرالأداء من الدرسة التقليدية للمدارس الحديثة في العمل الإذاعي.
كانت جلساتنا نحن الذين نعمل في " إدارة الأخبار و السياسة" ذات المواد الجافة و التي تقع تحت مجهر المسؤولين على مدار الساعة، و لا نجد خلوة للحكى و بناء علاقات اجتماعية مع الزملاء إلا بعد الثالثة ظهرا، حيث يذهب أغلبية العاملين في الإذاعة، و يبقى قسم الأخبار و المذعيين و الإخراج و القسم الهندسي. و عم قطبي الذي يوزع للكل الشاي و القهوة عليه الرحمة. هذه الفترة التي التقيت فيها مع الأخوين الراحلين عبود سيف الدين و عماد الدين إبراهيم اللذان كانا تلميذان في مدرسة البروف صلاح الدين الفاضل عبود لم يكن متعود الجلوس كثيرا بعد الثالثة، لكن عماد كان يجيء بعد الثالثة، و الغريب الأثنين لا يتحدثون كثيرا.. تأثير صلاح الدين كان ظاهرا على أداء عبود سيف الدين في كيف توظيف الحواس في استيعاب الرسالة الإذاعية، لآن صلاح الفاضل يعتقد: يجب أن لا يعتمد الخيال من جانب واحد " الراسل" بل كيف يستطيع الراسل أن يحرك خيال " المتلقي" لكي يتجاوب مع الرسالة و يشارك أيضا في توظيفها لكي يتم استيعابها، و كان عبود يجيد هذا الضرب من الإبداع من خلال توظيف المؤثرات التي تبدأ صاخبة ثم تتدرج هبوطا، كان عبود يستخدم المؤثر للإنتباه و يتغير في حالة الصعود و الهبوط حسب لونية البرنامج.
مرة بعد الظهر؛ ذهبت و جدت عماد و عبود في قسم الإخرج، عماد جالسا و عبود واقفا بيتحدث، و عماد صمت لا يرد على عبود، من خلال الحديث فهمت أن عبود يتحدث عن شخصية أو مسألة عماد لم يريد أن يتجاوب معه. و فجأة صمت و صرخ و مسك يمعط شعر رأسه.. سألته مالك ياعبود قال عندي حاجة في رأسي ما عاوزه تخرج، و قال دا و هو يشير إلي عماد ما عاوز يتفاهم.. فجاة عماد نقر في التربيزة و غني " يا زمن وقف شوية" و صرخ عبود أي أي أي ياخ.. و ثانية كان في مكتبة الإذاعة..
بعد إفتتاح الإذاعات الإقليمية، عين صلاح طه مديرا لإذاعة الجزيرة في ود مدني و عبود سيف الدين مديرا للبرامج و الإخراج، و ذهبت إليهم عدة مرات، كان عبود في أمدرمان يكثر من الموسيقي المتنوعة سودانية و غربية كمؤثرات صوتية، لفت نظري في أول زيارة أن عبود بدأ يستخدم المؤثرات الطبيعية في البرامج، سألته.. هل المؤثر الطبيعي الذي تستخدمه فرضته البيئة أم تعتقد هو أكثر انتباها؟ قال عبود البيئة لها أثرها في العملية الإخراجية، في أم درمان كنت بشتغل على بعض من الدراما إلي جانب المنواعات، الأن الشغل هنا متنوع دراما و منوعات و ثقافة و سياسة و برامج اجتماعية و غيرها، و كل يحتاج للونية مختلفة، و البيئة بتعطي لونيات مختلفة، و لآن آهل الجزيرة دائما يكونوا في الحواشات و الخضرة و التعب يريدون مؤثرات تتناغم مع هذه الحالات التي تبعث الهدوء و التأمل، كان عبود فعلا مدرسة تتغير من الاحسن إلي الأفضل في تصاعد، لأنه كان يملك بالفعل خيالا موارا و مترع بتفاصيل الإبداع و الأوانه، و كانت تتماشى مع شخصيته الهادئة..
المشاهدة عبر الأذن.. قد كتب فيها أثنين دراسة أكاديمية في عملية توظيف الحواس في الفهم و الاستيعاب، كتب فيها البروفيسور صلاح الدين الفاضل المدير السابق للإذاعة السودانية و الدكتور السعودي المثقف عبد الله القزامي. و هي كيف تحول الصوت لمشاهد رؤية من خلالها يتم الاستيعاب الكامل للرسالة.. و هي القاعدة التي أتخذها عبود سيف الدين محور أدائه من خلال أن يحول الرسالة بدلا من التلقي فقط إلي رسالة حوارية لأن الحوار يخرج بنتاج أكثر نضجا، و هي تعتمد على كيفية التحكم و التوظيف للخيال. رحم الله عبود سيف الدين كان جميلا في كل شيء.ز في حالة صمته و سكونه في حديثه و ضحكتة و سريرته و طبعه، و أخلاقة نسأل الله له الرحمة و المغفرة و القبول الحسن و أن يجعل الجنة مسواه و الخير قفي ذريته...إنا لله و أنا إليه راجعون..
zainsalih@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: صلاح الدین کان عبود
إقرأ أيضاً:
الحج في فكر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي .. بين استهداف الصهيونية لفريضة الحج وجرائم العدوان على غزة
يمانيون / تقرير خاص
في الوقت الذي يلبّي فيه حجاج بيت الله الحرام نداء الله في يوم التروية، متجهين إلى منى استعدادًا للوقوف بعرفة، تتعالى صيحات غزة وأبنائها وجعًا وقهرًا، تحت قصفٍ صهيونيٍ متوحش، يزداد إجرامه يومًا بعد يوم بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. عدوٌ غاشم يرتكب المجازر على مرأى ومسمع من العالم، بينما العرب ومعهم دول الأرض جميعًا يصمون آذانهم، لا يُسمع لهم صوت، ولا يُرى لهم موقف.
في مشهدٍ تتكشف فيه الهوة السحيقة بين الشعائر والمواقف، وبين الطقوس والوعي، تصبح غزة هي ساحة الحج الحقيقية، ومهوى أفئدة الأحرار من أبناء الأمة، الذين لا يركعون للطغاة، ولا يصمتون على الجريمة، ولا يخذلون المستضعفين. هناك، في شوارع غزة المدمّرة، وبيوتها المحروقة، وأجساد أطفالها المسفوكة، يتجلى المعنى الحقيقي للحج، الانحياز لله، وللمظلوم، والوقوف بوجه الطاغوت.
في هذا السياق، تتجلى أهمية استحضار رؤية الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه) لفريضة الحج، تلك الرؤية التي أعادت لهذه الشعيرة معناها القرآني الثوري، وربطتها بواقع الأمة، وهمومها، وأعدائها، ومسؤولياتها.
الحج كرمز لوحدة الأمة
يرى الشهيد القائد أن الحج يجب أن يكون موسمًا لتجسيد وحدة الأمة الإسلامية، وهو ليس مجرد اجتماع جسدي لملايين الناس، بل اجتماع روحي وفكري يُظهر وحدة العقيدة، والهدف، والمصير المشترك يقوله :”ألم يجزئوا البلاد الإسلامية إلى دويلات خمسين دولة أو أكثر ؟ وجزأوا البلاد العربية إلى عدة دويلات ، لكن بقي الحج مشكلة يلتقي فيه المسلمون ويلتقي حوله المسلمون ويحمل معاني كثيرة لو جاء من يذكر المسلمين بها ستشكل خطورة بالغة عليهم.”
الحج بين التسييس والتفريغ من مضمونه
يرى الشهيد القائد سلام الله عليه أن الحج في الأصل مناسبة دعوية وثورية، ترتبط برفض الشرك والهيمنة، منذ عهد النبي إبراهيم عليه السلام إذ يقول: هؤلاء يجعلون من الحج وقتًا للموت الصامت، بينما الحج في القرآن دعوة للحياة الحرة، والنهوض في وجه الطغيان.”
الحج في إطار المشروع القرآني
يرتبط الحج في فكر الشهيد القائد بـ”المشروع القرآني”، الذي يدعو إلى العودة الجادة للقرآن كمصدر للهداية والبصيرة ومواجهة الاستكبار العالمي وعلى رأسه أمريكا وإسرائيل و تحرير الإنسان المسلم من التبعية والخضوع للطغاة وإحياء روح الجهاد والثورة في الأمة. فالحج، كما يراه الشهيد القائد، هو منبر عملي لتعزيز هذا المشروع، وهو من وسائل “التربية الثورية” التي تعيد ربط المسلم بواقعه وبقضايا أمته.
لماذا يستهدف اليهود والنصارى الحج؟
يشير الشهيد القائد إلى أن الحج، إذا أُقيم بروحه القرآنية الحقيقية، يُعد تهديدًا لمشاريع أمريكا وإسرائيل لأنه يُظهر قوة الأمة ووحدتها في وجه أعدائها ويُعيد التواصل والوعي المشترك بين شعوب الأمة ولأنه يُشكّل منبرًا عالميًا للبراءة من الظالمين ، ولذلك، تُسخّر قوى الاستكبار أدواتها لتفريغ الحج من محتواه التحرري، مستعينة بأنظمة عميلة تصنع من الحج طقسًا بلا معنى ، في محاضرة (لا عذر للجميع أمام الله) يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه: (لو نقول لكم الآن أن إسرائيل أن اليهود والنصارى يخططون للاستيلاء على الحج فقد تقولون: مستحيل؛ لأن الحج هذا الحج الذي لا نفهمه نحن عندما نحج من اليمن ومن السعودية ومن مصر، نحن العرب الأغبياء عندما نحج، اليهود يفهمون قيمة الحج أكثر مما نفهمه، اليهود يعرفون خطورة الحج وأهمية الحج أكثر مما نفهمه نحن. ما أكثر من يحجون ولا يفهمون قيمة الحج! الحج له أثره المهم، له أثره الكبير في خدمة وحدة الأمة الإسلامية…
دلالة استحضار الخطر الصهيوني في الحج وربطه بجرائم غزة
في ضوء تصاعد جرائم العدو الصهيوني في غزة، وخاصة في السنوات الأخيرة، يُصبح من الضروري استحضار هذا الخطر ضمن مناسك الحج، لأن الحج هو موسم لإعلان البراءة من المشركين والطغاة، كما في قوله تعالى:
﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3]
الصهيونية تمثل أبشع صور الطغيان الحديث، بما تمارسه من مجازر جماعية وحصار وقتل للأطفال والنساء في غزة.
ولأن فصل الحج عن قضية فلسطين وغزة وقد تجلت الحقائق أن المخطط واحد والمؤامرة واحدة هو تواطؤ غير مباشر مع العدو. إذ كيف يُعقل أن يجتمع المسلمون في أقدس مكان، بينما الدم الفلسطيني يُسفك في الأقصى وغزة، دون موقف أو صرخة أو شعور بالمسؤولية؟ “الحج موقف، والساكت في الحج ساكت عن جراح الأمة… غزة تُذبح ونحن نطوف صامتين؟! ذلك ليس حجًا لله، بل سكوتًا يُرضي أمريكا وإسرائيل.”
تسخير النظام السعودي لفريضة الحج في خدمة الصهيونية ومخطط السيطرة
قد حذّر الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي مبكرًا من تسخير النظام السعودي لفريضة الحج ليخدم أجندات الأعداء، وفي مقدمتهم العدو الصهيوني وأمريكا، عبر تحويل الحج من فريضة ربانية إلى طقس مُفرغ من مضمونه التحرري والقرآني، يُستخدم للتغطية على خيانات كبرى تُرتكب بحق الأمة.
الحج تحت هيمنة السياسة الأمريكية – الصهيونية
يرى الشهيد القائد أن إخضاع الحج للقرار السعودي المرتبط بأمريكا وإسرائيل يعني عمليًا أن هذه الفريضة لم تعد ملكًا للأمة الإسلامية، بل تُدار وفق توجيهات أعدائها. ويتجلى ذلك في منع الشعارات المناهضة للصهيونية داخل المشاعر المقدسة وقمع الأصوات التي تُطالب بالتحرر أو تندد بالعدوان على غزة أو اليمن أو أي شعبٍ مستضعف وكذلك التحكم السياسي في الحج ومنع من لا يتفق مع التوجهات الأمريكية من أداء الفريضة.
ما بين خيانة الحج والمشاركة في العدوان على غزة
في ظل المجازر التي تُرتكب بحق غزة، تبيّن للعالم أن النظام السعودي، ومعه أنظمة خليجية وعربية أخرى، متورطون سياسيًا وعسكريًا في دعم العدوان الصهيوني، سواء عبر التطبيع الصريح والمعلن مع الكيان الصهيوني وبالتنسيق الأمني والاستخباراتي وكذلك التآمر الإعلامي والتضليل لصالح الكيان وممارسة الضغط على فصائل المقاومة وشيطنة صوت البراءة.
ولذا فإن إدارة السعودية للحج تتحول إلى أداة قمع وتشويه، تمنع المسلم من رفع صوته لنصرة غزة، وتمنع الحج من أن يكون كما أراده الله ، موقفًا من الظالم، وصرخة في وجه المستكبر، وموسمًا لوحدة الأمة على الحق.
التحذير القرآني من خيانة المقدسات
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ – [الحج: 25]
وما أشد الخيانة من تحويل بيت الله إلى ساحة يُمنع فيها ذكر مظلومية غزة، ويُسكت فيها عن أعتى مجرم عرفته البشرية اليوم ’’الكيان الصهيوني’’
خاتمة
قدّم الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي من خلال دروسه ومحاضراته رؤية قرآنية شاملة لفريضة الحج، أعادت لهذه الشعيرة موقعها الجهادي، ووظيفتها التربوية، ورسالتها الجامعة. في زمن يُباد فيه المستضعفون، وتُدنّس فيه المقدسات، وتُحاصَر فيه غزة، يُصبح استيعاب البعد الثوري للحج واجبًا دينيًا وسياسيًا. فالسكوت في الحج عن جرائم العدو، خيانة للرسالة، وانفصالٌ عن القرآن، وتماهٍ مع أعداء الله.