الإسرائيلي يورام هازوني.. معبود اليمين المتطرف في العالم
تاريخ النشر: 13th, May 2024 GMT
تساءل موقع ميديا بارت الفرنسي عن الرجل الذي كان رائد التحالف بين المتعصبين اليهود ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي يسعى للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية، بعد أن رددت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني أفكاره، واتخذ منه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أحد مصادر فكرة "ديمقراطية غير ليبرالية".
وللرد على هذا السؤال اعتمد ميديا بارت على مقال من العدد الجديد من "مجلة المنادي" (Revue du Crieur).
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تايمز: هذا ما تعنيه إقالة شويغوتايمز: هذا ما تعنيه إقالة ...list 2 of 2هآرتس تستعرض قصص جنود إسرائيليين انتحروا بعد طوفان الأقصىهآرتس تستعرض قصص جنود ...end of listهذا الرجل -حسب مقال بقلم جوزيف كونفافرو بالموقع- هو يورام هازوني الذي ولد عام 1964 في إسرائيل، ونشأ في الولايات المتحدة، حيث قدم أطروحته في النظرية السياسية، وهو يعيش الآن بين البلدين كمبشر بأيديولوجية "القومية المحافظة"، ومن الصعب نفي تأثير هذا الفيلسوف الإسرائيلي الأميركي على العديد من القادة الأكثر يمينية في العالم.
بقي هازوني في الظل حتى عام 2018، عندما نشر عمله "فضائل القومية" باللغة الإنجليزية الذي أصبح من أكثر الكتب مبيعا وترجم إلى حوالي 15 لغة، وهو مستوحى من انتصارات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والمؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وأضاف ميديا بارت أن هازوني أنشأ مؤسسة "إدموند بيرك" في واشنطن، على اسم السياسي البريطاني المعروف بمعارضته الشرسة للثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، وهي تهدف -حسب المقال- إلى "تعزيز النزعة القومية المحافظة في الغرب"، وإلى التأثير على الانتخابات الأميركية بتقديم برامج للمرشحين الأكثر يمينية خلال تجمع نخبة الحزب الجمهوري.
الديمقراطية غير الليبرالية
وذكّر الكاتب بمؤتمر القومية المحافظة 2 (NatCon2)، الذي انعقد في ولاية فلوريدا عام 2021، وحضره عدد كبير من المدافعين عن مواقف كل منها أكثر رجعية من سابقه، من أمثال جوش هاولي السيناتور الذي يعترض على التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020، وتيد كروز، سيناتور تكساس الإنجيلي وماركو روبيو المعروف بمواقفه المشككة في المناخ ومناهضته للإجهاض، وجي دي فانس الذي دعم الترامبية، وغيرهم من اليمين الجمهوري.
وقد حضر العديد من هذه الأسماء في مؤتمر القومية المحافظة 3 في ميامي، إلى جانب حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، الذي كان المنافس الرئيسي لترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري.
وترى الباحثة مايا كاندل، في تحليلها لظاهرة ترامب، أنها حركة "قومية محافظة" أو "شعبوية قومية"، لها أصداء عديدة مع الشعبوية الأوروبية، وأنها "حركة متنوعة تجمع جزءا كبيرا من المثقفين المحافظين الذين توحدهم كراهيتهم المشتركة وتغذيها مساهمات اليمين الأميركي المتطرف، الذي استعار ترامب منه أفكاره".
المؤتمرات القوميةولا تهدف مؤسسة إدموند بيرك إلى تأسيس وهيكلة "النزعة المحافظة القومية" في الولايات المتحدة فحسب، بل تمتد الآن إلى أوروبا، من خلال تنظيم مؤتمرات مثل "مؤتمر القومية المحافظة" ببروكسل الذي حضره في مارس 2022، ماتيوس مورافيتسكي وجانيز جانسا، رئيسا حكومتي بولندا وسلوفينيا آنذاك، ومؤتمر القومية المحافظة بالمملكة المتحدة الذي حضرته في مايو/أيار 2023 وزيرة الداخلية اليمينية سويلا برافرمان ومايكل جوف، المؤثر في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والنائب المحافظ المؤثر جاكوب ريس موغ.
في الواقع، فإن المؤسسة التي أنشأها هازوني قبل كل شيء تجعل من الممكن إعطاء إطار أكثر رسمية لاجتماعات "المحافظين الوطنيين" التي نظمت في السنوات السابقة في لندن أو واشنطن أو روما.
وفي فبراير/شباط 2020، استضافت العاصمة الإيطالية روما المؤتمر الثاني حول القومية المحافظة، وقدمت فيه جورجيا ميلوني قبل أن تكون رئيسة للمجلس الإيطالي، الفيلسوف الإسرائيلي الأميركي بهذه الكلمات "عزيزي يورام، كتابك سيصدم إيطاليا وسأشارك في ذلك بفرح، لأنني أنوي أن أقتبس منه كثيرا"، في إشارة إلى كتابه الشهير "فضائل القومية".
وخلال هذا التجمع، حضر سانتياغو أباسكال، مؤسس ورئيس حزب فوكس الإسباني، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي جعل من هازوني أحد المرجعيات المركزية في رؤيته لسياسة جديدة استبدادية.
تأثيره في إسرائيلومما لا شك فيه أن تأثير هازوني في إسرائيل هو الأكثر عمقا والأقل ظهورا -حسب الكاتب- إذ استقر، بعد دراسته في الولايات المتحدة، مع عائلته في إحدى أقسى المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وبدأ يكتب مقالات لصحيفة جيروزاليم بوست، وأوصى به رئيس تحريرها ديفيد بار إيلان لبنيامين نتنياهو، وبالفعل ساعد هازوني نتنياهو في كتابة المقالات، وفي كتابه "مكان بين الأمم، إسرائيل والعالم".
وفي مقال رائد حول تأثير هازوني على السياسة الإسرائيلية، يرى الصحفي تشارلز إندرلين أنه يمكننا بالفعل تخمين تأثيره في كتاب نتنياهو، خاصة في طريقته في توجيه التاريخ بحرية لجعله يتناسب مع نظرياته، كما أنه أحد المفكرين الرئيسيين للأيديولوجية الاستعمارية والمسيحية التي تحكم إسرائيل اليوم مع نتنياهو.
وقد أخذ هازوني مكانه -حسب الكاتب- في دائرة الإستراتيجيين الذين ساعدوا نتنياهو على تولي رئاسة حزب الليكود اليميني الرئيسي في البلاد، وأسهم في نقل التحالف بين الاستيطان المسيحاني وقومية الليكود الأكثر تقليدية، من تحالف انتخابي انتهازي ليشكل تقاربا أعمق في وجهات النظر.
نشر هازوني أفكاره من مركز شاليم في القدس الذي عرف مخالفات مالية، حيث وصفه موظفون سابقون بأنه "مهووس بالسيطرة"، ثم غادر لرئاسة معهد هرتزل الأكثر تواضعا، لكنه ظل في فلك مؤسسة تكفاه، المانح الرئيسي لمركز شاليم، وقد مولت إنشاء منتدى كوهيليت السياسي، وهو مركز الأبحاث الصهيوني الديني الرئيسي المتوافق مع أفكار هازوني، حسب مقال في صحيفة هآرتس اليسارية.
وكان منتدى كوهيليت في العمل، عند اعتماد قانون يوليو/تموز 2018 يعرف إسرائيل بأنها "الوطن القومي للشعب اليهودي"، مضفيا الشرعية على التمييز ضد الأقليات العربية والدرزية، وخارقا "إعلان الاستقلال" عام 1948، الذي بموجبه يتعين على إسرائيل ضمان "المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها، دون تمييز على أساس العقيدة أو العرق أو الجنس".
وتساءل جوزيف كونفافرو كيف تمكنت المجموعة الأيديولوجية لهازوني، التي تشكلت بالاتصال بمستوطنات الضفة الغربية والتفاعل مع ممثليها الأكثر تطرفا، والمشبعة بشدة بالإشارات إلى اليهودية وإسرائيل، من الانتشار في الولايات المتحدة وبقدر ما في إيطاليا والمجر.
ووصف هازوني نفسه بأنه "مسحور" بعد اجتماعه في برينستون عام 1984 مع الحاخام مئير كاهانا، مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، الذي سُجن عدة مرات بتهمة التخطيط لأعمال عنف في إسرائيل. وصرح بأنه لا يؤمن بالأساليب الإرهابية التي يتبعها الكاهانيون.
ويعمل هازوني وبشكل أكثر واقعية، على سد الفجوة بين المسيحانية اليهودية والمسيحية الإنجيلية، التي أصبحت تنسيقا أساسيا للميدان الانتخابي الأميركي، وهو يدرك أهمية هذه المنظمات المسيحية الإنجيلية، التي تدعم بقوة الاحتلال المتزايد للضفة الغربية.
الأمة ضد الشعبومع ذلك، فإن نشاط هازوني بمراكز الأبحاث لم يكن كافيا للوصول إلى آذان بعض قادة المعمورة، ولكن ذلك تم له بفضل نجاح كتابه "فضائل القومية" الذي يتمتع بميزة تقديم غذاء للفكر لرؤساء الدول اليمينيين المتطرفين.
والحجة الرئيسية في الكتاب بسيطة ومتكررة إلى حد الغثيان -حسب جوزيف كونفافرو- وهي أن المقياس الصحيح لتنظيم المجتمعات البشرية هو الأمة المنظمة في دولة، ومن الضروري بالطبع تمييز هذا النموذج المثالي عن المنظمات الصغيرة جدا، مثل "نظام القبائل والعشائر"، والكبيرة جدا، مثل "الإمبراطوريات".
وأحد أهداف هازوني المفضلة التي توحد اليوم اليمين المتطرف المعولم، هو "المعولمة الليبرالية"، وهي "أيديولوجية إمبريالية تهاجم القومية والقوميين"، لأنه يرى أن "العالمية تكره الخاص وتشعر بالرعب والاشمئزاز منه"، يقول "إن الحكومة العالمية المثالية تنشأ عندما تكون الأمم قادرة على تصميم مسارها المستقل وتنمية تقاليدها الخاصة، والدفاع عن مصالحها الخاصة دون التعرض لأدنى تدخل".
ويعرف هازوني الأمة على أنها عائلة كبيرة منيعة أمام الأجسام الأجنبية، "إن الهوس بالرخاء المادي والسلامة الداخلية والتراث الجماعي يحول كل عائلة وكل عشيرة وكل قبيلة وكل أمة إلى شكل من أشكال الحصن المحاط بالجدران المهيبة وغير المرئية في نفس الوقت".
فضائل القوميةوهكذا، يرى المؤلف أن "الهيمنة الساحقة لجنسية واحدة ومتماسكة، تتميز بروابط الولاء المتبادل القوية وغير القابلة للانحلال، هي في الواقع الأساس الوحيد للسلام الداخلي في إطار دولة حرة"، ولكن هذا المديح للأمة لا ينطبق على الجميع، وهو لا يعني بالمرة "الدفاع عن حق عالمي في الاستقلال الوطني وتقرير المصير لجميع الشعوب".
ولذلك يطور هازوني "مبدأ الحذر" الذي يدعونا إلى الحذر من تطلعات الناس الذين ليست لديهم بعد دول مستقلة، ومن الصعب عدم التفكير في الفلسطينيين وإن لم يتم ذكرهم -حسب الكاتب- إذ إن هازوني يرى أنه لا فائدة من تعريض دولة وطنية للخطر من خلال إنشاء دولة جديدة بالقرب من حدودها.
وكما هو الحال في هذا الكشف حيث تتزين القومية بكل الفضائل، ولكن لا يمكن أن تنطبق على جميع الناس وجميع الأمم، فإن كتاب هازوني يعمل بشكل أساسي من خلال القياسات المنطقية المتعاقبة -حسب الكاتب- مما يسمح له بالوصول إلى الاستنتاجات المطلوبة دون أن ينزعج من المنطق أو الحقائق التاريخية أو المعاصرة التي تتعارض مع تفكيره.
وقد عارض هازوني باستمرار "شيطنة" نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وصربيا في عهد رئيسها السابق سلوبودان ميلوسوفيتش.
ومن أجل إنقاذ هذه الأنظمة القومية والانفصالية، يستخدم الباحث أسلوبه البلاغي الثاني، وهو المقارنة، التي تسمح له بالتقليل من أهمية الجرائم أو إضفاء طابع نسبي عليها، قائلا "السبب الذي يبرر المعاملة التي يتعرض لها هؤلاء الناس هو أن مواطني جنوب أفريقيا والصرب يعتبرون أوروبيين وأن المعايير الأخلاقية تطبق عليهم ولا علاقة لها بما هو متوقع من جيرانهم الأفارقة أو المسلمين".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات ترجمات فی الولایات المتحدة القومیة المحافظة فی إسرائیل حسب الکاتب
إقرأ أيضاً:
إسرائيل انتصرت.. ولكن على شرعيتها!
لوقت مضى كنا عربا ومسلمين نسخر من مقولة "طهارة سلاح جيش الدفاع" وأنه "الأكثر نظافة ومهنية، في العالم"، بل لم نكن نعترف أن هذا الجيش للدفاع بل كنا نقول دائما إنه للعدوان والقتل وارتكاب المذابح، كما سخرنا من فرية "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كونها محاطة ببحر من "الأعداء العرب" الذين حاولوا "رميها في البحر"، فضلا عن مقولة أنها "واحة الديمقراطية" أو "فيلّا وسط غابة شرق عربي بدوي متوحش". والحقيقة أن كل هذه المصطلحات كانت عماد الرواية والدعاية الإسرائيلية التي صرفت عليها مليارات الدولارات على مدار عقود، وباعتها بسلاسة للرأي العام الغربي، حتى اكتسبت "شرعية وجود" غير قابلة للتساؤل أو التشكيك، وركب قادة ونخب الغرب هذه الأكاذيب التي باتت مسلّمات بين شعوبهم، فوفّروا للكيان أحزمة أمان دولية سياسية واقتصادية وعسكرية غير قابلة للاختراق، وأقنعوا شعوبهم بأن موقفهم "الأخلاقي" يقتضي مد يد المساعدة لليهود المساكين المحاطين بالوحوش العرب المتهيئين لأكلهم.
وكان هذا جسرا عبرت عليه أرتال من العون العسكري والاقتصادي واستثمارات وشراكات علمية، و"وحدة حال" بين مؤسسات الكيان ومؤسسات الغرب على اتساع أنواعها وتخصصاتها. وبالمجمل بنى الكيان بسبب كل هذا اقتصادا مفرط القوة، وصناعات عسكرية وتقنية متقدمة جدا، بل غدا مستأثرا بميزة غير موجودة في أي بلد في المنطقة، وهي حيازته للتكنولوجيا النووية التي مكنته من صناعة القنبلة الذرية بمعونة مباشرة من فرنسا، التي ويا لسخرية الكذب تهدد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية اليوم بعد أن ابتلع الكيان جل أو كل الأرض الفلسطينية!!
لا تقوم الدول بدون شرعية دولية، ولا يمكن لأي كيان أن يصبح عضوا في المجتمع الدولي دون أن تتوفر له هذا الشرعية، وليس مهما هنا أن تكون هذه الشرعية مبنية على الأكاذيب أو ارتكاب الجرائم، المهم أن تجد من "يحملها" على محمل الجد، ويسوّقها للدخول إلى المؤسسات الدولية كهيئة الأمم والمؤسسات والاتفاقات المنبثقة عنها. وهكذا وبناء على كل ما تقدم أصبح كيان العدوان والاغتصاب الذي قام على جسد الشعب الفلسطيني كيانا "محترما!" له وزنه في الساحة الدولية، وله مكانة مرموقة في سوق الإنجازات العلمية والصناعية و"الهاي تك" على نحو الخصوص، ما مكنه من تصدير منتجاته في هذا المجال إلى أكثر دول العالم تقدما، ناهيك عن دول العالم الثالث التي زُرعت بخبراء الكيان ومرتزقته من تجار الموت والحروب، بل "تطلع" كثير من أنظمة العرب للاقتداء(!) بما حققه هذا الكيان من تقدم علمي، وسوّقوا هذه الفرية على شعوبهم لتبرير ما سمي "التطبيع" مع الكيان، وهو في الحقيقة تتبيع له ودخول في مجاله الحيوي لخدمته.
الحدث الكبير المزلزل الذي وقع في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 فجّر هذه الفقاعة، فالجيش الأكثر أخلاقية في العالم خلع هذا القناع وارتدى ملابس القراصنة ورجال عصابات القتل والإجرام، وأشعل حربا مجنونة وعدوانا غير مسبوق على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وإن استأثرت غزة بالجزء الأكثر دموية ودمارا وتوحشا، وبدد الكيان في حربه المنطلقة من أي عقال أخلاقي أو قيمي أو حضاري أو حتى إنساني، كل ما جمعه من "شرعيات" خلال سني عمره التي سبقت معركة طوفان الأقصى، وأطلق النار بشكل مباشر على كل المبررات "الأخلاقية" التي اتكأ عليها لتبرير اغتصاب فلسطين ومحاولة محو آثار الشعب الفلسطيني، إذ خرج هذا الشعب من رماد سبع وسبعين سنة، هي عمر جريمة اغتصاب أرضه، كقوة عملاقة ذات يد طولى وقادرة على ضرب العصب الحي في "كبرياء" الكيان الذي قدم نفسه للعالم نموذجا للدولة العبقرية الناجحة وحتى الأكثر "أخلاقية!" وقوة في وسط عربي همجي دكتاتوري.
باختصار انتصرت "إسرائيل" على نفسها، وقتلت شرعيتها بنفسها، وبدت على حقيقتها: مشروعا استعماريا ومجتمعا مسموما قاتلا يجوع الأطفال ويقتل النساء ويبيد الحياة بكل مظاهرها بدون رحمة، وداس بقدمين ملطختين بالدماء على كل القيم التي تعارف عليها المجتمع البشري منذ بدء الخليقة وحتى الآن، ولم يعد يشتري روايته السابقة عن مظلوميته وأخلاقيته وتقدمه وديمقراطيته حتى طفل صغير في الغرب، هذا الغرب الذي احتضنه وقوّاه ووفّر له كل ما مكّنه من بناء "إمبراطورية" صغيرة في فلسطين، امتدت تأثيراتها إلى معظم دول العالم..
"إسرائيل" التي "انتصرت" على غزة بتدميرها وتفكيك مجتمعها بشكل كامل وهمجي ومتوحش، مدفوعة بشهية انتقام مجنون مهووس، كانت في الحقيقة وهي ترتكب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية وجرائم تطهير عرقي وتجويع وتعطيش وتشريد لشعب مدني؛ تنتصر على نفسها وتدمر كل ما اكتسبته من "شرعية وجود" لعقود خلت، "إسرائيل" انتصرت في كل معاركها ضد الشعب الفلسطيني لكنها خسرت الحرب!
كيان العدو في فلسطين كان مجرد كذبة، أو فقاعة، صدقها العالم، ثم جاء هذا الكيان لينهيها بنفسه، ويظهر على حقيقته التي تبرّأ منها غالبية يهود العالم من غير الصهاينة، وهذا أعظم إنجاز في التاريخ الفلسطيني والعربي حققه طوفان الأقصى، رغم الثمن الكارثي الذي دفعه الشعب الفلسطيني ولم يزل يدفعه حتى الآن!
أما الكذبة الأكثر إيلاما في المشهد، فتلك المتعلقة بالمقولة العربية الرسمية "فلسطين قضية العرب الأولى!"، حيث اكتشفت الشعوب ولو متأخرة، أن "إسرائيل هي قضية العرب الرسميين الأولى". نقول هذا ونحن نشعر بغصة خانقة، حيث صرفت شعوب هذه المنطقة قرنا من عمرها وهي تنام وتصحو على أكاذيب، منتظرة الفرج من نفس المصدر الذي صنع الكارثة ومدها بأسباب القوة والمنعة، وهذا هو المنجز الكبير الثاني لطوفان الأقصى، الذي لم يكن ليتحقق لولا هذا الخذلان العربي الرسمي الفاضح والمعلن بكل قاحة من لدن البعض لغزة ومأساتها الكبرى!
إسرائيل كمشروع استعماري انتهت وماتت في بلادنا، وبقيت إجراءات "الدفن" وهي عملية قد تستغرق وقتا يعلم الله متى يطول، لكنه يعتمد في الدرجة الأولى على بقاء روح المقاومة متوهجة كالجمر ليس في أنفاق غزة فقط، بل في "أنفاق" العقل الجمعي العربي والإسلامي أيضا!