1100 مريض بالثلاسيميا في محافظة عراقية بإنتظار أمل إجراء عملية زراعة نخاع العظم - عاجل
تاريخ النشر: 24th, May 2024 GMT
بغداد اليوم- نينوى
غفران (23 سنة) فتاةٌ من حي الوحدة، شرقي مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) مصابة بمرض الثلاسيما أو ما يعرف بفقر دم البحر الأبيض المتوسط، شُخِص مرضُها قبل بلوغها العام الأول من عمرها، فكان لزاماً عليها تلقي الدم من متبرعين في مراكز متخصصة، مع علاج يومي لسحب الحديد المتراكم من جسمها.
تقول بصوت خفيض بعد جولة علاج أنهكت قواها:"قمت بذلك طوال حياتي، مع كل أوجاع المضاعفات المصاحبة، وسأستمر لما تبقى منها.
تصمت للحظات ثم تكمل :"كل ما أتطلع اليه ان تؤمن المستشفيات حاجاتنا وتوفر العلاجات لنا.. لا شيء آخر!".
غفران، فقدت الأمل مثل مئات المصابين الآخرين بامكانية التخلص يوما ما من المرض الذي يحصل نتيجة زواج الأقارب، فهي مقتنعة أنه سيرافقها طيلة حياتها مع تقدمها في العمر وتلاشي فرص اجراء عملية "زرع نخاع" التي تتطلب كلفة عالية وفريق طبي مختص ومعدات متطورة وفحوصات دقيقة لا تتوافر الكثير منها في العراق.
والثلاسيميا واحدٌ من أمراض الدم الوراثية، ينتشر في المناطق التي يكثر فيها"زواج الأقارب" ولايتم فيها الإلتزام بفحوصات ما قبل الزواج، وينقله والدان حاملين لصفة المرض ولا يعانيان منه إلى مولودهما الذي ستظهر عليه آثار المرض في الأشهر الأولى من عمره كما حدث مع غفران.
ويعجز مريض الثلاسيميا عن انتاج كريات الدم الحمراء، لذا يحتاج إلى تلقي الدم من متبرعين مرة واحدة في الأقل شهرياً لإدامة حياته. لكن تكرار هذه العملية يؤدي إلى تراكم الحديد في أعضائه الداخلية واصابة طحاله بالتضخم، وقد يحدث ذلك للقلب والكبد أيضاً، لذلك يحتاج إلى دواء يومي لسحب الحديد وطرده من جسمه عن طريق البول، وأشهر نوعين لهذا الدواء هما (الديسفيرال والأكسجيد).
مثل جميع المصابين بالثلاسيميا، تعاني غفران من تأخر في نمو جسدها وفقر دم شديد، ونحول وخمول كبيرين، وارهاق وضعف في التركيز، وفقدان للشهية في الفترة التي تسبق تلقيها الدم.
وهي تراجع في الأوضاع الاعتيادية شهريا مستشفى الحدباء التخصصي لأمراض الدم في مدينة الموصل لتلقي الدم هناك، والحصول على العلاج. وعلى الرغم من معاناتها، أنهت غفران دراستها الجامعية سنة 2023 وحصلت على البكالريوس في الكيمياء من جامعة الموصل. تقول بينما تعلو وجهها ابتسامة:"رغم كل شيء، لا نرفع الراية البيضاء أمام المرض ليهزمنا".
انتشار المرض
رئيس جمعية الثلاسيميا في نينوى ثائر إبراهيم الطائي، يقول بأن المرض رصد في الموصل أول مرة خلال سنوات العقوبات الاقتصادية على العراق وتحديدا في العام 1997، وبلغت أعداد الأصابات المسجلة وقتذاك نحو 250 إصابة "وكان العدد الحقيقي أكبر من ذلك، لأن المرض لم يكن معروفا، وكان التشخيص الطبي في الغالب يشير إلى أمراض أخرى في ظل ضعف المنظومة الطبية".
في السنوات اللاحقة، ارتفعت الأعداد، خاصة مع سرعة تشخيص المرض بعد حصول الكوادر الطبية على الخبرة الكافية، ووصل مجموع المرضى سنة 2017 إلى أكثر من 1200 مريضا مسجلا في نينوى.
يضيف: "للأسف المئات من المرضى كانوا قد توفوا قبلها، لأنهم لم يكونوا يحصلون على العلاجات اللازمة أو لنقل الدم اليهم في الوقت المناسب لإنقاذ حياتهم".
وفقاً لوزارة الصحة فأن 68% من الزيجات في العراق تتم بين الأقارب، باعتباره موروثاُ ثقافياً واجتماعياً، وهو عامل كبير في زيادة حالات الأصابة بالثلاسيميا، الذي يستمر مع المريض مدى الحياة بكل تداعياته المحبطة والخطرة ما لم يجر عملية زرع نخاع، وهي عملية معقدة ومكلفة ماديا ونادرة في العراق كونها تتطلب جملة شروط طبية وفريقا من الاختصاصيين.
وتوصلت الوزارة في إحصائية أجرتها سنة 2017 إلى أن 4.8 من العراقيين يحملون "جين الثلاسيميا بيتا" وأن أعداد المرضى المشخصين تتصاعد بنحو كبير إذا كانت تقدر في سنة 2001 بنحو 3800 إصابة، وفي سنة 2005 بنحو 7500 إصابة، أما في 2010 فسجلت 12000 إصابة، وفي 2017 بلغت الإصابات 20 الف اصابة.
وفي سنة 2017، ولد في العراق 1054 طفل مصاب باعتلال في الهيموغلوبين (ثلاسيميا وفقر دم منجلي)
يقدر رئيس منظمة "أحياء" لإغاثة مرضى الثلاسيميا عامر الجميلي، وجود 30 ألف مصاب بمرض الثلاسيميا في العراق.
وقال في تصريح صحفي إن منظمته التي بدأت بتسجيل واحصاء المرضى منذ سنة 2013، نلاحظ حصول تزايد سنوي في الأعداد.
عالميا، ووفقا لمنظمة الصحة العالمية (WHO) فأن 7% من سكان العالم يحملون جينات هميوغلوبين معتلة، وأن ما بين 300000 إلى 500000 طفلاً يولدون سنوياً ويعانون من إضرابات هيموغلوبين وأن 30% منهم مصابون بالثلاسيميا، ويولد ما بين 90 ألف إلى 150 ألف طفل سنوياً وهم مصابون بالثلاسيميا، وأن 50 ألفاً إلى 100 ألف منهم يتوفون سنويا.
يربط الباحث خليل أشرف، الزيادة السنوية الحاصلة في الاصابات رغم اقرار فحوص ما قبل الزواج، الى الأعراف القبلية السائدة في كثير من أنحاء العراق التي تشجع على زواج الأقارب، الى جانب سرعة اكتشاف المرض مع تطور الخبرات ونتائج الفحوص المخبرية.
ومع ذلك فهو يعتقد بأن أعداد الإصابات الحقيقية أكبر بكثير مما مسجل:"قسم من أولياء أمور المرضى يصطحبونهم لتلقي العلاج في محافظات أخرى، وبعضهم من المتمكنين مادياً يأخذونهم إلى خارج البلاد لتلقي العلاج، وهنالك من تظهر عليهم الأعراض ويتوفون دون أن يعلم الوالدان بأنهم مصابون بالثلاسيميا، ولاسيما في الأرياف".
بارقة أمل
تبلغ أعداد المصابين بالمرض المسجلين في مركز الثلاسيميا بنينوى 1100 مصاباً والكثير منهم تغلب عليهم المرض، وليس بمقدورهم في ظل فقدان الأمل بالشفاء لتضرر أبدانهم بنحو بليغ أو عدم وجود متبرع لهم بنخاع العظم وفرص لإجراء عملية نقله إليهم، سوى إنتظار الموت.
وبحسب الدكتور مدين الغريري، مدير مستشفى الحدباء لأمراض الدم وزراعة نخاع العظم، الذي افتتح بمدينة الموصل منتصف العام 2023 وهو المشفى الأول من نوعه في المدينة، فإن معدل الوفيات جراء المرض في نينوى يبلغ ما بين 2 إلى 3 حالات سنوياً، لكنه يؤكد بأن ثمة بارقة أمل، إذ أن تطوراً كبيراً حدث في المحافظة بتوقف ظهور المرض منذ 2023، جراء برنامج وقاية ينفذ منذ عشر سنوات وضعته جمعية الثلاسيميا مع دائرة الصحة وإدارة المحافظة ومجلس القضاء الأعلى.
وأيضاً مع إفتتاح مستشفى الحدباء بعد سنوات طويلة من الإنتظار، وإجراء ستة عمليات جراحية لزراعة نخاع العظم فيه خلال الشهرين الأولين من 2024 بإشراف فريق طبي إيطالي، يقوم بتدريب الكوادر الطبية في المستشفى لإكتساب الخبرات اللازمة من أجل إجراء العمليات المماثلة في المستقبل القريب.
وعن كيفية ظهور أعراض مرض الثلاسيميا، يشير دكتور مدين، إلى أن اقتران شخصين حاملين لصفته، ينجم عنه وباحتمالية تصل نسبتها إلى 25% ولادة طفل مصاب بالثلاسيميا: "زواج شخص حامل للمرض والطرف الآخر طبيعي ينجم عنه ولادة طفل حامل لصفة المرض وليس مصابا به أي لا تستوجب حالته علاجاً".
ويؤكد بأن الثلاسيميا ينتشر في المناطق القبلية بشكل أكبر بسبب "زواج الأقارب والجهل، وتتعدد الحالات في العائلة نفسها رغم علم أربابها باحتمالية ولادة طفل آخر مصاب".
وبسبب طبيعة سكان محافظة نينوى ذات الأغلبية القبلية-العشائرية، فأن هنالك نحو (5%) من بين السكان الذين تزيد اعدادهم عن أربعة ملايين نسمة يحملون صفة المرض، أي أكثر من مئتي ألف شخص، وهنالك دوما إحتمالية كبيرة لزواج اثنين حاملين لصفة المرض وإنجاب مصابين به، ولهذا فرضت الجهات الرسمية فحص ما قبل الزواج (برنامج الوقاية).
الأمل الوحيد لشفاء مريض الثلاسيميا بنحو نهائي، بحيث لايكون بعدها بحاجة إلى التزود بالدم بما يحمله من عوارض وأحيانا مخاطر أو أدوية طرد الحديد، يكون بالحصول على متبرع بالنخاع مطابق 100% نسيجيا مع نخاع العظم في جسده. وهو أمر نادر جداً وقد يقتصر فقط على الأشقاء التوائم أو بضربة حظ تشبه العثور على أبره في كومة قش خارج نطاق العائلة.
وحتى الحصول على متبرع لاينهي المشكلة، فالأمر يتطلب عملية زرع نخاع معقدة التفاصيل في الهند أو ايطالياً لأن العراق لم يكن يمتلك، قبل افتتاح مستشفى الحدباء، البنية التحتية ولا المقدرة الطبية لإجراء مثل هكذا عمليات تتراوح كلفتها بين 70 إلى 250 ألف دولار (91 مليون دينار إلى 325 مليون دينار).
وكانت جمعية الثلاسيميا في نينوى والتي قوامها أولياء أمور المرضى، قد أرسلت بين عامي (2005- 2022) 49 مريضاً مع المتبرعين بالنخاع إلى ايطاليا بموجب اتفاقيات مع مستشفياتها، وأجريت لهم عمليات زراعة نخاع العظم فيها، عاد منهم 47 أصحاء وتوفي إثنان فقط.
مستشفى لزراعة النخاع
خلال أول شهرين من 2024، شهدت نينوى وللمرة الأولى، إجراء ستة عمليات زراعة نخاع العظم في المحافظة، ثلاثة لكبار في السن وأخرى لأطفال، أجريت في مستشفى الحدباء، بحسب د.منصور معروف منصور، المخول بصلاحيات مدير صحة نينوى، والذي أكد بأن نجاح مثل هذه العمليات "يعني بان نينوى ستكون خالية من الثلاسيميا في المستقبل القريب".
وكان مستشفى الحدباء قد أفتتح في 15أيار/مايو 2023، بسعة 81 سريرا وبكلفة اجمالية مقدارها 38 مليار دينار (25 مليون دولار أمريكي) بعد انتظار دام سنوات من قبل المصابين بأمراض الدم كالثلاسيميا واللوكيميا وسواهما، والذين كانوا يراجعون عدة مستشفيات داخل نينوى وخارجها.
فضلاً عن ذلك، فان هذه المستشفى تضم كذلك مركز الثلاسيميا، وإجراء اختبارات التطابق النسيجي، وهي تقدم خدمات علاجية للمرضى وتزودهم بالدماء.
وقبل افتتاح المستشفى، وتحديداً في 13 آذار/مارس 2023، تم توقيع عقد التدريب الخاص بزراعة نخاع العظم مع منظمة AVSI الإيطالية، لإعداد كوادر طبية قادرة على إجراء عمليات زراعة النخاع والتي أجرت ثلاث منها بالفعل.
تقول الطبيبة الإختصاص رنا نظام الدين ناظم، مسؤولة قسم فصل ومعالجة الخلايا الجذعية، ان المستشفى أجرت شهري كانون الثاني/يناير، وشباط/فبراير 2024 ثلاث عمليات فصل خلايا جذعية من متبرعين، في الأخيرة منها والتي استغرقت ثماني ساعات، خضع المتبرع إلى علاجات منشطة ومكثفة لغرض تحرير تلك الخلايا إلى الدم.
وتضيف:"خضعت بعدها الخلايا الجذعية إلى معالجة خلوية ومن ثم تم تجميدها، وسيدخل المريض المتبرع له بعد شهر إلى الردهة مجدداً ليخضع إلى علاج كيمياوي مكثف ثم يتلقى الخلايا الجذعية التي أخذت من المتبرع".
وذكرت بأن هذه العمليات تجرى حالياً تحت إشراف كادر من الأطباء الإيطاليين المتخصصين، وأن هدف المستشفى هو إجراء 100 عملية مماثلة في الأقل خلال السنة الواحدة "شرط تأمين العلاجات والمواد والمستلزمات الضرورية".
مدير مستشفى الحدباء دكتور مدين الغريري، يقول بأن عملية زرع نخاع العظم لاتخلو من الخطورة ونسبة نجاحها هي 90 بالمئة مع بعض المضاعفات، وكلما كان عمر الخاضع لها صغيراً كلما كانت فرص نجاحها أكبر، وهو يأمل بحصول جميع المصابين بالثلاسيميا، على فرصة لإجراء عملية زراعة نخاع العظم.
ويضيف:"نجاح هذه العملية يعتمد أيضاً على حالة المريض الصحية نسبة الحديد في جسمه وكفاءة الكبد ووجود متبرع متطابق نسيجياً بنسبة 100%، والذي يفضل أن يكون حاملاً لنفس صنف الدم، ويعتمد كذلك على إن كان المريض قد تلقى علاج ومتابعة جيدة قبل اجراء العملية".
وبناءً على كلام دكتور مدين، فهذا يعني بان الكثير من المرضى لن يكونوا قادرين على الخضوع لهذه العملية، ولا سيما الذين لايملكون متبرعا بالنخاع أو الذين لم تعد العملية مجدية بالنسبة إليهم بسبب التقدم في العمر أو تضرر أعضائهم الداخلية.
وكانت جمعية الثلاسيميا في نينوى قد عقدت اتفاقية مع مستشفى تخصصي في جزيرة سردينيا بإيطاليا وأرسلت 49 مريضا وأجرت لهم عمليات زراعة نخاع. لكن تلك الإتفاقية وبحسب ثائر الطائي مدير الجمعية، توقفت بعد افتتاح مستشفى الحدباء في الموصل ومباشرة الكادر الإيطالي الذي هو ذاته الذي دعم الجمعية والمصابين في السابق "بالإشراف على تأهيل وتدريب الكوادر الطبية في نينوى وفقا لعقد أبرم بين الجانبين الإيطالي والعراقي".
وعن نفقات إجراء العمليات، يقول الطائي ان الهند تجري عمليات في هذا المجال "بتكلفة تزيد عن 70 الف دولار لكن بمعدلات نجاح أقل، أما في إيطاليا فان تكلفتها تقترب من 250 الف دولار امريكي وبنسب نجاح أعلى، وهذا المبلغ يجعل من اجراء العملية على النفقة الخاصة أمراً مستحيلاً".
وهذا ما يتطلب مضاعفة الدعم لمستشفى أمراض الدم في الموصل كونه نواة لعلاج المصابين بالثلاسيميا في العراق. وهو ما يدفع الطائي الى مناشدة الحكومة المحلية في نينوى لتبني خطة دعم مستمرة للمستشفى الذي "يعاني من قلة التخصيصات في الوقت الحالي".
كما دعا الحكومة المحلية في نينوى الى تفعيل الاتفاق مع الجانب الايطالي من جديد لارسال وجبات جديدة من المصابين بالثلاسيما الى ايطاليا لاجراء عمليات زراعة نخاع العظم، كون مستشفى الحدباء لا يمتلك القدرة على اجراء عمليات لجميع الحالات المرضية.
على قوائم الانتظار
قلة التخصيصات والكوادر المؤهلة ومتطلبات أخرى، تضع المئات من مرضى الثلاسيميا على لوائح الانتظار، يحدوهم الأمل بأن يأتي اليوم الذي يتخلصون فيه من معاناتهم اليومية مع المرض وتداعياته على صحتهم وحياتهم الشخصية.
"أدعو المسؤولين أن يشملوا ولدي، بعملية زراعة نخاع العظم"، هذا ما ترجوه نادية (47 سنة) من سكان ناحية القيارة جنوب مدينة الموصل، لولدها "محمد" البالغ من العمر 12 سنة.
ترافق الأم إبنها ليتزود بالدم في مستشفى الحدباء، مرة كل أربعة أسابيع. تأخذها نوبة بكاء وهي تقول:"والده المنتسب في الشرطة قتل منتصف العام 2012، وكان عمر محمد وقتها أقل من سنتين".
تأخذ نفساً عميقاً قبل أن تواصل:"كان يصطحبه لتلقي الدم في الموصل، وفي بعض الأحيان، عندما كان لا يجد الدم في المستشفى، ولا متبرعين، كان هو (والده) من يتبرع له بالدم".
ثم تقول بنبرة توسل:"كل ما أتمناه في حياتي، أن يجري محمد عملية زراعة نخاع العظم، لا أريد أن يموت أبني، وأريده أن يعيش حياة طبيعية مثل الآخرين بدون مرض أو دماء وأدوية، أنه أمر منهك مع كل عملية نقل دم ندخل في دوامة خوف لا تنتهي".
نجاح برنامج الوقاية
يؤكد رئيس جمعية الثلاسيميا في نينوى ثائر إبراهيم الطائي، تراجع نسبة الإصابة بمرض الثلاسيميا في المحافظة بنحو لافت خلال الأثني عشر سنة المنصرمة، وذلك في خلفية فرض شرط إجراء فحص الثلاسيميا قبل إبرام عقود الزواج في محكمة الأحوال الشخصية بنينوى "وهو ما جعل نسب الإصابة بالمرض في أدنى المستويات".
وشهد العام 2012 التزام المحاكم الشرعية في نينوى بعدم إتمام عقود الزواج بدون إجراء فحص الثلاسيميا، وفي حال كون الخطيبين حاملين لصفة الثلاسيميا لا يبرم العقد.
مصدر في محكمة استئناف نينوى، ذكر بـأن هنالك استثناءات قد تحدث، بأن يقوم البعض بإبرام عقد الزواج خارج نطاق المحكمة، أي بعقد زواج "ملا أو سيد"، وبعد سنوات يراجعون المحكمة لابرام العقد أمامها فيضطر القاضي للموافقة كون الزواج كان قد تم، ولم يخضع الطرفان لفحص الثلاسيميا.
وذكر أن الفحص كان يجرى منذ سنة 2012 مجاناً، لكن في العام 2019، أصبح يكلف المقبلين على الزواج 75 الف دينار عراقي (57 دولار).
في 14 آذار مارس 2022، أعلن الاتحاد الدولي للثلاسيميا (TIF) نجاح تجربة تطبيق برنامج الوقاية من الثلاسيميا في نينوى بعد مرور 10 سنوات من إطلاقه، إذ اثمر البرنامج عن توقف ظهور ولادات ثلاسيمية جديدة في المحافظة.
جاء ذلك في بيان صدر عن الإتحاد ودعا فيه وزارة الصحة العراقية إلى اتباع الخطوات التي اتبعتها نينوى في الوقاية من المرض في كافة مناطق البلاد، وطلب المساعدة من الخبراء الذين عملوا على البرنامج الناجح لتقليل ولادة الأطفال المصابين.
وأوصى البيان بتطبيق التجربة على مستوى العراق ككل وإصدار قانون بهذا الصدد:"كما هو الحال في كثير من دول العالم التي كانت تعاني من ارتفاع في عدد مرضى الثلاسيميا".
ويشير الناشط في مجال الصحة، علي باسم، أن برنامج الوقاية الذي يقصده اتحاد الثلاسيميا، لايقتصر على فحص ما قبل الزواج المعمول به، بل أيضاً إلى بث الوعي في المجتمع بخطورة المرض وآثارة السلبية العميقة على المريض والأسرة بحد سواء.
ويشير إلى أن الكثير من الزيجات تبرم عقودها خارج أروقة المحاكم ولاسيما في القرى والأرياف، وهي بغالبيتها زواجات بين الأقارب وهذا هو السبب بحسب رأيه في ظهور إصابات بمرض الثلاسيميا"لهذا يجب أن ينفذ برنامج وقاية يغطي هذه المناطق".
تداعيات ومشاكل نفسية
فضلاً عن الآلام التي يعاني منها المصابون بالثلاسيميا وتداعيات المرض على حياتهم الاجتماعية، هنالك مشاكل أخرى تواجههم كالنفسية، وصعوبة الحصول على الدواء في بعض الفترات، ومتطلبات نقل الدم، وعدم وجود سجلات للتطابق النسيجي، أو مختبرات مؤهلة لإجرائها.
د.أسماء غانم المتخصصة في الطب النفسي وتدريسية في جامعة طب أربيل، تقول بأن دراسات أثبتت أن 30% من المصابين بمرض الثلاسيميا يكونون عرضة للإصابة بالإكتئاب، وتلفت إلى أن هنالك مراحل للتأثيرات النفسية للمصاب، تبدأ في مرحلة الطفولة التي يشخص فيها المرض عادة.
وتوضح:"الطفل المصاب يحتاج إلى مراجعات متكررة للأطباء والمستشفيات والمختبرات ونقل الدم إليه بنحو دائم ومنتظم فينتابه القلق، ويستاءل إن كان في خطر أو إن كان سيموت، ويتفاقم قلقه عندما تزيد العائلة من اهتمامها به".
كما ان المريض سيجد نفسه مضطرا للاعتماد على الآخرين في معظم الأحيان، وهذا سيسبب له شعوراً بالنقص "وبمرور الأيام سينخفض مستواه الدراسي بفعل معاناته من المرض وغيابه المتكرر عن المدرسة بسبب تلقيه الدم والعلاجات، وأحينا يصبح لديه رهاب من المستشفيات والحقن، بل وحتى من ثياب الطبيب".
أما في مرحلة ما قبل البلوغ وبعدها:"سيكتشف بأنه يختلف عن الأخرين، بسبب قصر قامته وتأخر علامات البلوغ لديه، وتكون لديه مشكلة في التكيف مع المجتمع المحيط، وهي من مسببات الكآبة وقد تظهر لديه بوادر عنف ضد زملائه وربما يتهم والديه بأنهما كانا السبب وراء حالته".
وتشير إلى أن مريض الثلاسيميا يواجه بعد البلوغ مشاكل تتمثل في صعوبة حصوله على وظيفة مقارنة بزملائه الأصحاء، فيشعر بعدم الأمان لأن مستقبله يكون مجهولاً، وقد يشكل ذلك منعطفاً في حياة البعض، بتعاطي المخدرات مثلا في محاولة للتخفيف من العبء النفسي.
وتؤكد د.أسماء بأن المريض يحتاج إلى فريق عمل لكي تخف عنه أعراض المرض وتداعياته النفسية، فريق يضم طبيب أطفال، وطبيب نفسي، ومقدمي المساعدة من ممثلي منظمات المجتمع المدني "يعملون معا على توعيته ومعالجته من القلق والرهاب والكآبة".
تنمر وقلق دائم
عبد الله أحمد (22 سنة) طالب في كلية الحقوق بجامعة الموصل، مصاب بمرض الثلاسيميا، لا يخفي ألمه من تعرضه للتنمر سواء في الحي السكني أو الجامعة أو السوق "تكفي أحياناً نظرة عطف من أحدهم لمظهري وقامتي القصيرة لتسبب لي جرحاً".
ويقول بأنه يواجه أحياناً أسئلة واستفسارات من الناس يصفها بالجارحة "لماذا وجهك شاحب؟ لماذا بياض عينيك أصفر؟ لماذا لاتأكل اللحم والمعدنوس؟ لماذا لاتذهب إلى السادة والشيوخ لتلقي العزامة والرقية الشرعية؟".
لعبد الله، قصة طويلة مع المعاناة بسبب مرضه، فخلال السنوات الأولى من عمره تلقى الدم والعلاجات الخاصة بطرد الحديد الناتج عن تكرار نقل الدم في مدينة الموصل، لكنه أضطر في السنوات الأخيرة إلى التوجه وبنحو شهري إلى العاصمة بغداد لتلقي الدم هناك:"بسبب الحساسية التي اعاني منها جراء طريقة نقل الدم في الموصل، وأيضاً لضمان توفر الدم المطابق لي في بغداد وهو من صنف A-".
وهو يعتقد بأن المستشفيات لا تقدم العلاجات الكافية لمرضى الثلاسيميا، المتمثلة بالعلاجات الطاردة للحديد نوع ديسفيرال:"الكميات التي توزع لا تكفي شهراً، فضلا عن نقص المستلزمات الخاصة بإعطاء الدم".
عبد الله، يعي تماماً بان فرصته للحصول على متبرع وإجراء عملية زراعة نخاع العظم ضئيلة قياساً بالمرضى الأصغر عمراً، لكنه يأمل بأن يتخلص من المرض ذات يوم:"ليس أمامي سوى التفاؤل".
مصاعب نقل الدم
عدم وجود تقنية فلترة الدم في العراق أي فصل مكوناته وإعطاء المريض فقط حاجته إلى الصفائح الدموية أو سواها على سبيل المثال يسبب الكثير من الآلام الجسدية للمصابين بالثلاسيميا، وبعضهم يعاني من حساسية جراء ذلك.
ويجري العرف في حال حصول المريض على كيس دم من متبرع يودعه في مصرف الدم، بأن يحصل في المقابل من المصرف على ثلاثة أكياس دم من نفس صنف دم المريض.
لكن وفي كثير من الأحيان لايملك المصرف الرصيد الكافي، لذلك تم تشكيل لجنة تنسيقية مشتركة من مصرف الدم الرئيسي ومديرية الوقف السني في نينوى وجمعية الثلاسيميا، تقوم بحملات للتبرع بالدم، تستهدف بها الجوامع وجامعة الموصل ومنتسبي أجهزة الأمن في بعض الأحيان والمواطنين بنحو عام.
ويذكر أطباء متخصصون في أن هنالك فرقاً جسدياً واضحاً بين مرضى الثلاسيميا في العراق وبلدان أوربية مثلا، إذ تكون أعراض المرض غير ظاهرة عليهم بشكل لافت هناك، كما أن أعمارهم تكون أطول بسبب العناية الطبية وأخذ ما يحتاجونه من الدماء "المفلترة أو المفروزة" في حين أن العراق يفتقر إلى مختبرات لفصل الدم.
مدير مصرف الدم في نينوى، الدكتور محمد دواج خالد، يقول بأن أبواب المصرف مفتوحة لإستقبال المراجعين والمتبرعين لأربع وعشرين ساعة في اليوم، ويتم تجهيز مرضى الثلاسيميا بأكثر من 75 قنينة (كيس) من الدماء يومياً بنحو مجاني، كما يجهز 23 مستشفى حكومي وأهلي في المحافظة بحصة أو حصتين أسبوعية، وأن هنالك رصيد للطوارئ بالأصناف المطلوبة من الدماء.
ويراجع ممثل من مستشفى الحدباء، يومياً مصرف الدم للحصول على 70 إلى 75 قنينة دم، لتلبية حاجة مرضى الثلاسيميا إذ تحدد لهم مواعيد للقيام بذلك، اما أصحاب أصناف الدماء النادرة، فيضطرون أحيانا للبحث عنها في محافظات أخرى.
غير أن مرضى ثلاسيميا وبعض أولياء الأمور، اكدوا بأنهم لايجدون الدم في المصرف بنحو دائم، وحدث في مرات كثيرة أن أضطروا للذهاب الى الجوامع وجامعة الموصل بأنفسهم والبحث عن متبرعين.
شحة الدواء
(الديسفيرال) هو الدواء الذي كان يستخدمه مرضى الثلاسيميا بنحو يومي لطرد الحديد من أجسامهم بسبب تكرار عمليات نقل الدماء، وهو عبارة عن محلول 500 غم، يخلط بمياه معقمة، وتوضع عبوتها بداخل مضخة صغيرة، تضخ الدواء بواسطة أنبوب ينتهي بابرة تسمى (الفراشة) تُشك في جلد بطن المريض أو رقبته أو كتفه، وتمكث هنالك بين 10 الى 12 ساعة.
يقول أسعد هاني (55 سنة) من سكان الحضر جنوب مدينة الموصل، أنه وزوجته كانا يحرصان على أعطاء الدواء لأبنهما (محمد 15 سنة) عندما كان يخلد إلى النوم، وذلك لضمان عدم نزعه الأبرة التي يضعانها تحت منطقة السرة وأنهما كانا يتناوبان على مراقبته لغاية الصباح.
لكن وقبل سنوات قليلة فقط، وصل دواء جديد أسمه أكسجيد (أبيجيد)، وهو عبارة عن حبوب توضع في كأس ماء أو عصير برتقال سعة 100 أو 200 مليلتر، ثم يحرك بمعلقة بلاستيكية حتى يتحول إلى محلول فيشربه محمد على معدة خالية، قبل تناوله الطعام بنصف ساعة في الأقل.
يقول أسعد:"تغيرت حياة ابني بعد تناوله الدواء الجديد، إذ تغيرت نفسيته بعد تخلصه من أبرة حقن الدواء السابق". ويضيف "نحن لا نتوقف عن القلق عليه، ونأمل أن نحصل في يوم ما على متبرع للنخاع يتطابق معه، لتكون هناك فرصة لإنقاذه من مرضه".
لكن ليس جميع المرضى محظوظون مثل محمدـ بتقبل أجسادهم لدواء الأكسجيد، والأطباء المتخصصون يؤكدون بأن هنالك من يعاني من حساسية إزاءه أو تتواجد في أجسادهم نسب عالية جداً من الحديد، لذا يضطرون لمواصلة حياتهم مع أبر الديسفيرال.
الدكتور مدين، مدير مستشفى الحدباء، يؤكد حاجة مريض الثلاسيميا الأكيدة إلى علاج طارد للحديد تبدأ منذ سن الثالثة أو عند "تجاوز فحص الفرتين في الدم 1000 درجة".
ويذكر أن هنالك في الوقت الراهن دواءان طاردان للحديد هما:"فيال دسفرال عن طريق الحقن تحت الجلد، وحبوب اكسجيد"، مشيراً إلى أن مستشفاه ستتلقى قريباً نوعاً ثالثاً من الأدوية الطاردة للحديد هو حبوب "دفربرون".
وينبه إلى أن المركز التخصصي للثلاسيميا في الموصل، يعاني من شحة في المستلزمات الطبية والأدوية الخاصة بالمرضى التي توفر مجاناً على نفقة وزارة الصحة. ويستدرك:"لكننا نشتري أحيانا على النفقة الخاصة علاجات بقيمة تصل الى 10 آلاف دولار".
ويضطر بعض المرضى الى شرائها بأنفسم مما يشكل عبئاً مالياً ثقيلاً عليهم ولا سيما أن معظمهم من عائلات فقيرة، وبعضها معدمة.
التطابق النسيجي
من المشاكل الأخرى هو عدم وجود سجل للتطابق النسيجي في العراق، كما أن البلاد ليست عضوا في السجل الدولي للتطابق النسيجي، ووفقاً لأطباء متخصصين، إذا لم يكن للمصاب شقيق سليم توأم أو مطابق نسيجياً، فهذا يعني أن يغامر الأبوان بإنجاب طفل آخر على أن يكون سليماً وبعدها معرفة إن كان متطابقاً نسيجياً مع شقيقه، ويؤكدون بأن ذلك أمر محفوف بالمخاطر.
وتتم آلية فحص التطابق، بأن ترسل عينة من دم المتبرع مع عينة من المتبرع له إلى مختبر الفحص، ويتم في ضوء ذلك تحديد نسبة التطابق، والتي من النادر جداً أن تكون 100% وهو ما يتطلبه الأمر لإجراء عملية زراعة نخاع العظم.
وقبل سنوات من الان كان يتم الإعتماد على مختبر في العاصمة بغداد لإجراء فحص التطابق النسيجي، لكن وبسبب فشلة ولمرات عديدة في تقديم نتائج صحيحة، إضطر المرضى إلى إجراء الفحص خارج البلاد.
في الوقت الراهن، يعتمد المرضى في نينوى على إجراء فحص التطابق في دهوك، بحسب دكتور مدين الذي يقول:"لدينا في المستشفى كذلك مختبر تطابق نسيجي وقد بدأ حديثاً باجراء الفحوصات ونعتمد على نتائجه للفحوصات الأولية قبل اجراء عملية زرع النخاع".
(ت، ب) والد مصاب بمرض الثلاسيميا عمره 16 سنة، طلب الإشارة إلى الحرفين الأولين من أسمه، قال بأنه راجع قبل سنوات مختبراً في العاصمة بغداد لإجراء فحص التطابق النسيجي لإبنه المصاب مع شقيقه:"وظهرت النتيجة ان التطابق 100%".
بعدها تقدم بطلب لجميعة الثلاسيميا من أجل الحصول على منحة إجراء العملية في إيطاليا:"لم أكن أملك المال الكافي، وجمعية الثلاسيميا تكفلت بكل شيء، وتحقق حلمنا بالسفر إلى إيطاليا لإجراء العملية".
حدث ذلك قبل سيطرة تنظيم داعش على الموصل في 2014، يتابع الأب:"نظمنا كافة الأوراق المطلوبة وحصلنا على موعد لإجراء العملية وتأشيرة سفر، وتذاكر طيران، وذهبنا بالفعل".
يغمض عينيه كانه يراجع في ذهنه ذكريات تلك المرحلة، قبل أن يضيف بحرقة:"بعد وصولنا إلى سردينيا بكل ما نحمله من آمال، أكتشفنا هناك، بان فحص التطابق النسيجي الذي أجريناه في بغداد لم يكن دقيقاً، وأن أبني الأصغر لايمكن أن يتبرع بنخاعه لشقيقه المريض".
يقاوم رغبة في البكاء ويواصل:"مر على تلك الصدمة التي أثرت فينا بنحو كبير سنوات، لكنني مازلت متمسكاً بالأمل بأن نحصل على متبرع بالنخاع ذات يوم وأن نجري العملية هنا".
• انجز التحقيق تحت اشرف شبكة “نيريج” ضمن مشروع قريب المدعوم من قبل CFI
المصدر: وكالة بغداد اليوم
كلمات دلالية: مرضى الثلاسیمیا برنامج الوقایة نخاع العظم فی ما قبل الزواج مدینة الموصل زواج الأقارب فی المحافظة الکثیر من مصرف الدم على متبرع یحتاج إلى فی الموصل فی العراق عملیة زرع إجراء فحص من متبرع فی الوقت نقل الدم من المرض المرض فی زرع نخاع یعانی من أن هنالک یقول بأن الدم فی لم یکن إلى أن إن کان
إقرأ أيضاً:
من نقد التاريخ إلى نقد اللاهوت.. صادق جلال العظم وتفكيك العقل الديني
في عمق الجنوب السوري، حيث تمتزج الحجارة السوداء بعبق الزعتر البري، وحيث تتحد جبال السويداء الشامخة بسهول الجولان السليبة، تولد التعبيرات الأولى للإنسان عن ذاته: أنغام شجية، وكلمات مقتضبة، لكنها مشبعة بالحضور والذاكرة. هناك، لا يُغنّى الناس للترف، بل لأن الغناء امتداد للوجود، ومرآة لعلاقة متجذّرة بين الإنسان ومحيطه، بين العشق والمقاومة، بين الغياب والصمود.
في السويداء والجولان، لم تفلح آلة الاحتلال ولا حملات التهويد ولا سياسات الاقتلاع في طمس ملامح الهوية. بقيت الأصالة عصيّة، تُصاغ في الحكايات الشعبية، في الأهازيج، في أسماء الأماكن، وفي الأناشيد التي تعبر الأجيال كما تعبر الجبال. نمطٌ من التعبير الشفهي الشعبي، يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه يخفي في جوهره هندسة كاملة لهوية متماسكة، تنبني على الكرامة، والانتماء، والمقاومة اليومية للنسيان.
هذه الأصالة ليست حنينًا متجمّدًا للماضي، بل طاقة ثقافية حية، تمنح المجتمع مناعة في وجه التفكك، وقدرة على التماسك في وجه الاحتلال والاقتلاع الرمزي. ففي زمن تتكالب فيه محاولات طمس الذاكرة وتزييف التاريخ، تبقى تلك التعبيرات الشعبية بمثابة صمّام أمان، تردّ الروح للجماعة، وتؤكد أن الانتماء ليس شعارًا، بل ممارسة يومية، وصوت، وحركة، ومخيال جماعي.
من هنا، فإن الحديث عن الأصالة في الجنوب السوري، في السويداء والجولان، ليس استدعاءً عاطفيًا لزمن مضى، بل قراءة في كيفيات البقاء، ومقاومة الذوبان، وصنع المعنى في مواجهة قوى تسعى إلى محو الإنسان من جغرافيته وتاريخه. الأصالة هنا ليست ما تبقى، بل ما يجعل البقاء ممكنًا.
إذا كان هشام جعيّط قد دشّن مسارًا نقديًا جديدًا في الفكر العربي المعاصر من خلال مساءلة الجذور التاريخية للسلطة السياسية في الإسلام، وتحليل الكيفية التي تم فيها تبرير الحكم وتوطيده عبر التحالف مع المرجعيات الدينية، فإن صادق جلال العظم يُمثّل استئنافًا حادًا لهذا المسار، ولكن من زاوية مغايرة: زاوية تفكيك البنية اللاهوتية التي تشكّل عقلنا الجمعي وتعيد إنتاج الخضوع باسم المقدّس.ومن رحم هذه الأرض التي تنحت هويتها بالصبر والمقاومة، لم يخرج فقط المزارعون والمغنّون والشهداء، بل خرج منها أيضًا المفكرون والمجددون، أولئك الذين حملوا ترابها في لغتهم، وهمّها في أفكارهم، حتى وإن اشتبكوا معها نقدًا وتشريحًا. فالأصالة هنا لا تُعادِل الجمود، ولا تُخاصم السؤال، بل تتسع لجدلٍ حيّ بين الموروث والتحوّل، بين الوفاء للمكان، وضرورة مساءلته.
وفي هذا السياق، يبرز اسم صادق جلال العظم، أحد أبرز المفكرين السوريين في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي عُرف بجرأته في نقد التراث والدين والمؤسسة، دون أن ينفصل يومًا عن انتمائه العميق لهذه الأرض. فرغم ما اتسمت به طروحاته من حدّة نقدية وشجاعة فكرية، ظل العظم، في جوهر مشروعه، ابنًا لهذه التربة الثقافية السورية الخصبة، التي لا تكفّ عن إنتاج المعنى، ولا تتردد في إعادة النظر في ذاتها.
من جعيط إلى جلال العظم
إذا كان هشام جعيّط قد دشّن مسارًا نقديًا جديدًا في الفكر العربي المعاصر من خلال مساءلة الجذور التاريخية للسلطة السياسية في الإسلام، وتحليل الكيفية التي تم فيها تبرير الحكم وتوطيده عبر التحالف مع المرجعيات الدينية، فإن صادق جلال العظم يُمثّل استئنافًا حادًا لهذا المسار، ولكن من زاوية مغايرة: زاوية تفكيك البنية اللاهوتية التي تشكّل عقلنا الجمعي وتعيد إنتاج الخضوع باسم المقدّس.
فبينما اشتغل جعيّط على تفكيك لحظة التأسيس السياسي في الإسلام من الداخل، بوصفها لحظة فاصلة بين الرسالة والسلطة، اختار العظم أن ينقّب في طبقات الوعي الراهن، حيث تستمر أنماط التفكير اللاهوتي في تشكيل علاقتنا بالعالم، وفي إنتاج خطاب يغلّف السلطوي والمألوف بثوب المقدّس، مانعًا مساءلته أو زحزحته. بهذا المعنى، لا يقف العظم خارج أسئلة الأصالة أو الهوية، بل يعيد توجيهها نحو تحرير العقل من بنياته الخاضعة، وفتح أفق نقدي جديد في التعامل مع الموروث.
في مشروع العظم، تنتقل المعركة من ميدان التاريخ إلى ميدان الفكر الديني نفسه؛ حيث تتداخل مفاهيم التقديس، الإيمان، السلطة، والخرافة ضمن نسيجٍ متين من ما يسميه بـ"العقل غير النقدي". فالعظم لا يكتفي بالتاريخ كأداة تفكيك، بل يرى أن نقد البنية اللاهوتية للعقل الإسلامي التقليدي هو الشرط الأول لتحرير الذات من الاستبداد، سواء كان سياسيًا أو معرفيًا.
لقد كان انخراط العظم في جدل الحداثة استجابةً لمأزق حضاري حادّ: انغلاق الفكر الديني وعجزه عن إنتاج مفاهيم حية ومتحررة قادرة على ملامسة الواقع وتحولاته. وإذا كان جعيّط قد فكّك "الفتنة الكبرى" بوصفها لحظة انبثاق للاستبداد السياسي، فإن العظم يتجاوز هذه اللحظة ليقرأ في العقل الديني ذاته البنية الحاضنة لهذا الاستبداد، والمانعة لأي نهضة عقلانية حقيقية.
من هنا، لا يبدو الانتقال من جعيّط إلى العظم قفزة بين مفكرَين، بل تحوّلًا في زاوية الهجوم على نفس البنية المتحجرة: تحالف السلطة مع المعنى، والنص مع التأويل، والتراث مع المؤسسة. وبين التاريخ والدين، تتشكّل خيوط تيار نقدي جذري، يسعى هذا البحث إلى تتبّع معالمه وتأكيد ضرورته كأفقٍ للتحرر الفكري في زمن عربي مأزوم.
نقد الفكر الديني بوصفه شرطًا للتحرر
أولًا ـ العقل الديني كعائق للنهضة
في حين أن "الفتنة" لدى هشام جعيّط تمثل لحظة انكسار سياسي ـ ديني، فإن صادق جلال العظم يذهب أبعد: يرى أن الاستبداد العربي ليس مجرد حادثة سياسية، بل بنية فكرية ممتدة، تستند إلى منظومة لاهوتية ترسّخ الخضوع وتمنح الطاعة طابعًا مقدسًا.
في كتابه المفصلي نقد الفكر الديني (1969)، يضع العظم يده على جوهر المعضلة: الهيمنة اللاهوتية على العقل، من خلال تجريم السؤال، تقديس النقل، وتحويل النصوص إلى مرجع نهائي لا يقبل المراجعة. هذا التقديس، بحسب العظم، لا يقتل الإبداع فحسب، بل يمنع نشوء أي حداثة عربية، لأن الحداثة تبدأ من الشك، لا من الامتثال.
ثانيًا ـ تفكيك الخطاب الديني بوصفه بنية سلطة
يعتمد العظم مقاربة عقلانية تحليلية تُفكك الخطاب الديني التقليدي بوصفه بنية لغوية ومعرفية تُنتج السلطة لا الحقيقة. وينظر إلى البنى المضمرة في الممارسة الدينية، والتي تعيد إنتاج التسلط باسم الإيمان، بوصفها أداة أيديولوجية بيد الأنظمة.
لقد كان انخراط العظم في جدل الحداثة استجابةً لمأزق حضاري حادّ: انغلاق الفكر الديني وعجزه عن إنتاج مفاهيم حية ومتحررة قادرة على ملامسة الواقع وتحولاته. وإذا كان جعيّط قد فكّك "الفتنة الكبرى" بوصفها لحظة انبثاق للاستبداد السياسي، فإن العظم يتجاوز هذه اللحظة ليقرأ في العقل الديني ذاته البنية الحاضنة لهذا الاستبداد، والمانعة لأي نهضة عقلانية حقيقية.يفرّق العظم بوضوح بين الدين كإيمان فردي والفكر الديني كمؤسسة، مؤكدًا أن انتقاده موجّه للثاني. يرى أن الفكر الديني المحافظ لم يعد قادرًا على ملامسة الواقع، بل صار يشتغل كجهاز دفاعي ضد التغيير، والعقل، والحرية.
ثالثًا ـ الكتاب في لحظة ما بعد النكسة
صدر نقد الفكر الديني عقب نكسة 1967، لحظة الانكسار الجماعي في الوعي العربي. في هذا السياق، لم يقدّم العظم تحليلاً للنكسة من زاوية سياسية، بل من زاوية معرفية وثقافية: الهزيمة، في جوهرها، هزيمة عقل، ومخيلة، ونمط تفكير مغلق.
بهذا المعنى، كان الكتاب صرخة فكرية في وجه خطاب قومي مأزوم، وسرديات دينية تُنتج الإيمان لكنها تقتل العقل.
رابعًا ـ العقلانية الجذرية: لا إصلاح، بل قطيعة
يرفض العظم مشاريع الإصلاح الديني التي حاولت التوفيق بين النص والعصر (كأمثال عبده وعبد الرازق). بالنسبة له، التحرر لا يتم عبر التأويل، بل عبر القطيعة. فالحداثة ليست مظهرًا، بل موقف إبستمولوجي يقوم على نزع القداسة عن النصوص والتاريخ، ونقل مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى الواقع.
خامسًا ـ العلمانية كتحرير للعقل
ليست العلمانية عند العظم فصلًا بين الدين والدولة فحسب، بل تحريرًا للعقل من أسر المقدّس. وهي تبدأ، لا من الإصلاح الدستوري، بل من نقد البديهيات التي تحكم الحس العام، ومن تقييد السلطة الرمزية للمؤسسة الدينية في المجال العام.
بهذا المعنى، تلتقي أطروحة العظم مع مشروع جعيّط، مع فارق أن العظم لا يكتفي برفض التداخل السياسي مع الدين، بل ينزع الشرعية المعرفية عن الفكر الديني المحافظ نفسه.
سادسًا ـ التلقي والجدل
أثار نقد الفكر الديني جدلًا واسعًا. تعرّض العظم للملاحقة والمحاكمة، وواجه اتهامات بـ"عداء الدين"، وهو ما أنكره بشدة، مؤكدًا أن نقده موجّه للفكر، لا للإيمان.
من أبرز الانتقادات التي وُجّهت إليه:
ـ اعتماده على أدوات نقدية غربية دون مراعاة للخصوصيات الثقافية؛
ـ إغفال البعد الأنثروبولوجي الشعبي في الممارسة الدينية؛
ـ التركيز على الفكر السني دون توسّع في نقد التصوف أو الفكر الشيعي.
ومع ذلك، يبقى العظم رائدًا أساسيًا في تفكيك العقل اللاهوتي العربي، وأحد أوائل من قدّموا مشروعًا فلسفيًا متماسكًا لتحرير الثقافة من الطاعة العقائدية.
سابعًا ـ من نقد الدين إلى نقد الثقافة السياسية
في أعمال لاحقة مثل ذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم، وسّع العظم مشروعه ليشمل نقد الثقافة السياسية، مسلطًا الضوء على تواطؤ النخب القومية واليسارية مع المقدّس، وعلى هشاشة الخطاب الذي يدّعي التحديث لكنه يعيد إنتاج الاستبداد.
يرفض العظم مشاريع الإصلاح الديني التي حاولت التوفيق بين النص والعصر (كأمثال عبده وعبد الرازق). بالنسبة له، التحرر لا يتم عبر التأويل، بل عبر القطيعة. فالحداثة ليست مظهرًا، بل موقف إبستمولوجي يقوم على نزع القداسة عن النصوص والتاريخ، ونقل مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى الواقع.في هذه المرحلة، لا يعود الاستبداد مجرد ظاهرة سياسية، بل بنية نفسية ومعرفية تسكن الخطاب العربي، حتى في صيغته التقدمية.
ثامنًا ـ العظم ضمن التيار النقدي الجذري
مع هشام جعيّط وطيب تيزيني، يشكّل صادق جلال العظم أحد أعمدة التيار النقدي الجذري في الفكر العربي المعاصر، الذي يرفض التلفيق، ويؤمن أن التحرر يبدأ من نقد المسلّمات، لا من ترقيعها.
وإذا كان جعيّط قد فكّك أسطرة التاريخ، فإن العظم مزّق أسطرة الفكر الديني، ودعا إلى تأسيس ثقافة جديدة لا تقدّس السؤال، بل تطرحه من جديد، بلا خوف، وبلا وصاية.
من العظم إلى أفق التيار النقدي الجذري
يشكّل تحليل مشروع صادق جلال العظم محطة مركزية في فهم تحوّل التيار النقدي العربي من مساءلة السلطة التاريخية (كما عند جعيّط) إلى تفكيك البنية اللاهوتية التي تحكم العقل وتُعيد إنتاج الخضوع. فالعظم لم يكتف بممارسة نقد فكري للفكر الديني، بل ذهب إلى الجذور المعرفية التي تحكم بنية التفكير التقليدي في الثقافة العربية، رابطًا بين اللاهوت والخرافة، وبين النص المقدس ومؤسسة السلطة.
بهذا المعنى، يصبح العظم نموذجًا للفكر الذي لا يسعى إلى الإصلاح داخل الإطار، بل إلى تفكيك الإطار ذاته وإعادة صياغة شروط التفكير. ومن هنا تنبع أهمية مشروعه في سياق البحث الذي نرومه، والذي يسعى إلى تتبّع التيار النقدي الجذري لا كمجموعة من المواقف المعرفية المتفرقة، بل كمسار تحرري متكامل يربط بين نقد التاريخ، ونقد الفكر الديني، ونقد الثقافة السياسية.
ومع العظم، نبدأ بالاقتراب من قلب هذا التيار: من الشك كمدخل، إلى القطيعة كمنهج، وصولًا إلى العقلانية الجذرية كموقف. وسيكون الانتقال إلى مفكرين آخرين داخل هذا المسار ـ من أمثال طيب تيزيني أو نصر حامد أبو زيد ـ امتدادًا طبيعيًا لهذا التفكيك المتصاعد، الذي لا يزال في صراعه المفتوح مع المقدّس، والمؤسسة، والذاكرة.
صادق جلال العظم في مرآة الزمن.. وعلى عتبة طيب تيزيني
ربما كان صادق جلال العظم، لو امتد به العمر، ليتأمل بدهشة لا تخلو من المفارقة أن دمشق، المدينة التي شهدت ولادة أطروحته الجذرية "نقد الفكر الديني"، تُدار اليوم في سياق إعادة بناء الدولة من قبل تيار ديني يُعرف بمرجعيته المحافظة، بعد عقود من هيمنة البعث، الذي وفّر ـ رغم تضييقه ـ فضاءً لطباعة أفكاره وتداولها.
لكن العظم، المفكر الجذري، لم يكن معنيًا بالأشكال الظاهرة للسلطة، بقدر ما كان مهجوسًا ببنية التفكير العميقة التي تُنتج الخضوع، سواء ارتدت ثوب القومية أو العباءة الدينية. وما نراه اليوم ليس مناسبة لإصدار حكم مسبق، بقدر ما هو لحظة تأمل في تعقيدات الانتقال العربي، حيث تتبدل القوى، دون أن يعني ذلك بالضرورة ولادة جديدة للعقل.
وفي هذا المنعطف، لا يبدو صادق العظم نهاية لمسار النقد، بل حلقة ضمن تيار أوسع، تتجاوب فيه الأصوات وتتعدد فيه الزوايا. هنا بالتحديد، يظهر طيب تيزيني، المفكر السوري الآخر، الذي انطلق من مرجعية مادية ـ تاريخية، وحاول بناء مشروع نهضوي شامل، يربط بين تفكيك التراث وإعادة تأويله في أفق التحرر.
سنقف في الحلقة القادمة عند هذا المشروع، لنفهم كيف يمكن أن يكون نقد التراث لا مجرد تفكيك، بل عملًا تأسيسيًا جديدًا، يزرع أسئلة المستقبل في تربة الماضي.
في سويداء الحجارة السوداء، كما في جولان الزيتون المقاوم، تتجلى الأصالة لا كحنينٍ إلى ما مضى، بل كقدرةٍ على البقاء عبر المقاومة والتفكير الحر. ومن هذه الأرض التي لم تنكسر تحت الاحتلال، ولا انغلقت على نفسها، خرج صادق جلال العظم، لا ليحتفي بالموروث، بل ليسائله، ويفكك بنيته اللاهوتية الراسخة، ويفتح للعقل بابًا نحو التحرر من الطاعة العقائدية والخضوع الرمزي. لم يكن العظم مفكرًا على هامش قضايا أمته، بل في قلب صراعها الثقافي والسياسي، حادًّا في نقده، جذريًّا في أطروحاته، سوريًّا في انتمائه العميق إلى تربة تصوغ أبناءها بقدر ما تفتح لهم أفق مساءلتها.