انبعاث الأندلس في غمرة الحرب على غزة
تاريخ النشر: 5th, June 2024 GMT
اندلعت "حرب" ما بين إسرائيل وإسبانيا، على خلفية تاريخ الأندلس. منعت السلطات الإسرائيلية القنصل الإسباني من الالتقاء بالفلسطينيين وتقديم أي دعم لهم بالقدس والضفة الغربية. ودعا إسرائيل كراتز، وزير الخارجية الإسرائيلي، السلطات الإسبانية إلى دراسة السبعمئة سنة من حكم المسلمين للأندلس، ردًّا على عزم إسبانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
والحقيقة أن من يحتاج لدراسة فترة حكم المسلمين للأندلس هو وزير خارجية إسرائيل نفسه، فليس هناك فترة عاش فيها اليهود رخاءً وعطاءً كما عاشوا في فترة الأندلس المسلمة. والمادة موجودة بوفرة، وقد اشتغل عليها باحثون من كل المشارب والعقائد، ومن أهمهم ليفي بروفنسال، الذي يُعد كتابه "تاريخ الأندلس المسلمة" مرجعًا أساسيًّا في الدراسات الأندلسية. وهو فرنسي يهودي، وُلد بالجزائر وعاش بالمغرب (توفي في خمسينيات القرن الماضي)، وقدّم أيادي بيضاء في الدراسات الأندلسية. ويُعرف للمغاربة سابقته في دراساته عن الغرب الإسلامي وترجمته لبعض المصادر إلى الفرنسية.
والطريف أن ذلك الباحث، خلال تهيئته لرسالته عن الأندلس، كان إذا استعصى عليه النفاذ إلى وجه من وجوه الحياة في الأندلس، جال في أزقة فاس، وغشي أفناءها، وفحص ضروب الحياة فيها، لأنه كان يرى أن الأندلس المسلمة ما تزال حية في فاس. ويمكن أن نضيف عملًا مرجعيًّا لباحث أميركي، هو أبراهام نيومان، بعنوان "اليهود في إسبانيا" صدر سنة 1948 من جامعة برنستون، ومؤلفه يهودي أيضًا. ويرى أن العصر الذهبي لليهود في أوروبا كان إبان "إسبانية المسلمة".
لو فتحنا باب التاريخ وتألق اليهود في مناحي الحياة كلها بالأندلس، بل توليهم مناصب المسؤولية، لأعيانا الجهد. منهم الطبيب والوزير حسداي بن شبرط (في عهد الخليفة الأموي الحكم المستنصر)، وابن النغريلة في عهد ملوك الطوائف. ناهيك عن ضروب المعرفة التي أخذ فيها يهود الأندلس بنصيب، وتأثرهم بنظرائهم المسلمين، من علم الكلام والتصوف والنحو والعروض، وأساليب الكتابة في العربية، ومنها المقامات، والأخذ عن العربية للارتقاء بالعبرية، والكتابة بالعربية، أصلًا، أو بحروف عبرية.
يكفي أن نشير هنا إلى العمل الجبار الذي اضطلع به حسين مؤنس، وقد تولى مسؤولية معهد الدراسات الأندلسية في مدريد، وكتابه المرجعي "فجر الأندلس"، وهو من الكتب التي لا غنى عنها لمن يهتم بالأندلس. ونضيف ما يضطلع به العلامة أحمد شحلان، وهو من أهم المتخصصين في الدراسات الأندلسية والتراث العبري خاصة. الصلة ظاهرة ما بين ابن حزم وأبراهام بن عزرا، وعلم الكلام الإسلامي وكتابات موسى بن ميمون، أو أبراهام بن موسى بن ميمون في "كفاية العابدين" الذي نسج فيه على سَنن "إحياء علوم الدين" للغزالي. وهذا غيض من فيض.
نَذكر بما اضطلعت به مدرسة طليطلة في ترجمة التراث العربي إلى العبرية، في شتى المعارف (بما فيها الطب)، ومنها إلى اللاتينية. وهو جهد قام به علماء يهود، وحفظوا جزءًا من تراث إنساني كاد أن يندثر، ومنها بعض كتابات ابن رشد التي ضاع أصلها العربي، وبقيت في صيغتها العبرية، ونقلها العلامة أحمد شحلان من العبرية أصلًا (وليس من الإنجليزية كما فعل البعض) إلى العربية، كما في كتاب "جوامع سياسة أفلاطون" أو "تلخيص أخلاق أرسطو".
وحينما أفل نجم الحضارة الإسلامية بالأندلس، ودُفع اليهود إلى الهجرة، اختاروا بلاد المغرب ومصر والأستانة مستقرًا، ونزحت أقلية إلى البرتغال، ومنها إلى أمستردام، ومنها أسرة سبينوزا، الذي كان متأثرًا بالحَبر أبراهام بن عزرا (تلميذ ابن حزم)، ويحمل سبينوزا، بشهادة المختصين، "الحَمض النووي" للأندلس في مسعاه للتوفيق بين الإيمان والعقل. يكفي أن نشير إلى أن مصطلح السفارديم إنْ هو إلا ترجمة للتعبير العربي "الكتابيين" إلى العبرية، من "سفر" أي كتاب و"يم"، صيغة الجمع في العبرية.
لكن هنا نتحدث عن الأندلس الرمز، أو الأندلس الفكرة. عادت الأندلس الرمز بعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها سنة 1991، ورعت الولايات المتحدة أول اللقاءات من أجل حل القضية الفلسطينية في مدريد (أكتوبر/تشرين الأول 1991). ولم يكن اختيار مدريد اعتباطيًّا، ولكن لما ترمز له الأندلس. وكانت الأندلس في تعريف المسلمين، هي جزيرة إيبيريا، وليس فقط إقليم الأندلس، مع ما طبعها من تعايش أو على الأصح من توادد، وهو أوسع من التعايش، وهو ما يعبر عنه الإسبان بالعيش المشترك ترجمة للتوادد في القاموس العربي La convivencia.
وعادت الأندلس الفكرة في غمرة الحرب الأهلية التي مزقت يوغسلافيا، وما صاحبها من تقتيل وتطهير عرقي، وكانت هذه السابقة المشينة ما أوحى للباحثة الأميركية مارية روزا مينوكال (وهي من أصول كوبية) بكتابة مرجع عن أوجه الأندلس، عنونته بـ"زينة الدنيا"، ومدار فكرتها، أنه لو أُخذ بسابقة الأندلس والاعتراف فيها بالملل والنحل، لما وقع التطهير العرقي الذي عرفته ما كان يوغسلافيا سابقًا. وقد ترجمت دار توبقال الكتاب بعنوان "الأندلس العربية، إسلام الحضارة وثقافة التسامح" (ترجمة عبد المجيد جحفة ومصطفى جبّاري).
ووُظّف تاريخ الأندلس من خلال قراءة مجتزأة بعد 11 سبتمبر/أيلول، وأجرى الوزير الأول حينها خوسيه ماريا أثنار قراءة مُغرضة لتاريخ الأندلس، وهي قراءة تَرتبط برؤية للمؤرخ كلاوديو سانشيث ألبورنوس، الذي كان يرى أن حلول الإسلام بالأندلس كان عملية اغتصاب، ولكن نبض الشارع ما لبث أن رفض هذه القراءة، ردًّا على انحياز إسبانيا إلى الولايات المتحدة في حربها على العراق سنة 2003، وقامت مظاهرات مناوئة في ساحة باب الشمس، ليس فقط ضد السياسة بل ضد التوجّه.
وتعود الأندلس اليوم، كفكرة، ليس الأندلس الرقعة، ولا الأندلس الحقبة. والأندلس الفكرة ليست توهمًا، وإنما تُبنى على شيء حقيقي، وسابقة فريدة. هذه الأندلس الفكرة هي ما يستحثُّ ساسةً ومفكرين وباحثين، من أجل التعايش، والتسامح بل التوادد.
وليس بعزيز أن تنبعث الأندلس الفكرة في فلسطين، ويعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون، بلا تمييز، وعلى خلاف ما لمز به وزير خارجية إسرائيل، ليس عن جهل، بل عن تجاهل. فالحل هو الأندلس.. هذه السابقة التي عصمت من التمييز والتطهير العرقي، إلى أن سادت فكرة منمطة لدين واحد، ولغة واحدة، أو ما يسميه الباحث الإسباني رودريغو دي زياس بعنصرية الدولة في إشارة إلى ما قامت به إسبانيا ضد المسلمين واليهود على السواء.
لا تموت الأفكار. تسكن، كما الحبة، بطن الأرض، وتأتي عليها السنون العجاف، فإذا نزل الغيث أخرجت شطأها، وأينع عودها، وآتت ثمارها. وحسنًا فعل وزير خارجية إسرائيل إذ ذكّر بالأندلس، ليس من خلال نظرته المغرضة، بل من خلال نظرة موضوعية، وهي التي تنبعث اليوم في إسبانيا، وفي أطيافها السياسية والمجتمعية والثقافية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
الجزيرة نت تحصل على نسخة من رد حماس على مقترح ويتكوف
حصلت الجزيرة نت على نسخة من رد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على مقترح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف للتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتبادل الأسرى.
وقد أعلنت الحركة أنها سلمت الوسطاء ردها على المقترح، اليوم السبت، بما يحقق "وقفا دائما لإطلاق النار وانسحابا شاملا من قطاع غزة وضمان تدفق المساعدات إلى شعبنا وأهلنا في القطاع".
ويتضمن رد الحركة الإفراج عن 10 أسرى إسرائيليين أحياء و18 جثمانا على عدة دفعات مقابل عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين خلال وقف إطلاق النار لمدة 60 يوما يجري خلالها التفاوض على إنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
وفيما يأتي نص الرد الذي قدمته حماس في 31 مايو/أيار:
"إطار عمل للتفاوض على اتفاق لوقف إطلاق نار دائم"
المدة: وقف إطلاق نار لمدة 60 يوما. يضمن الرئيس ترامب التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار خلال الفترة المتفق عليها.
إطلاق سراح الأسرى والجثامين الإسرائيليين: سيتم إطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين أحياء و18 جثمانا، على أن يتم إطلاق سراح 4 أسرى أحياء في اليوم الأول، وفي اليوم الثلاثين 2 من الأسرى الأحياء، وفي اليوم الستين 4 أسرى أحياء. أما الجثامين فيتم تسليم 6 في اليوم العاشر، وفي اليوم الثلاثين 6، وفي اليوم الخمسين 6.
إعلانالمساعدات والوضع الإنساني:
سيتم إدخال المساعدات إلى غزة فور الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار، وفق البروتوكول الإنساني الذي تضمنه اتفاق 19 يناير (كانون الثاني) 2025، من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها والمنظمات الأخرى بما فيها الهلال الأحمر. إعادة تأهيل البنية التحتية (الكهرباء، الماء، الصرف الصحي والاتصالات والطرق) وإدخال المواد اللازمة لها بما فيها مواد البناء، وإعادة تأهيل وتشغيل المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس والمخابز في جميع مناطق القطاع. السماح لسكان القطاع بالسفر والعودة من وإلى قطاع غزة عبر معبر رفح دون أي قيود، وعودة حركة البضائع والتجارة. خلال فترة المفاوضات يتم الانتهاء من إعداد الترتيبات والخطط لإعادة الإعمار للبيوت والمنشآت والبنية التحتية التي تم تدميرها خلال الحرب ودعم الفئات المتضررة من الحرب، على أن يتم البدء في تنفيذ خطة إعادة إعمار قطاع غزة لمدة 3 إلى 5 سنوات تحت إشراف عدد من الدول والمنظمات بما في ذلك: مصر وقطر والأمم المتحدة.الأنشطة العسكرية الإسرائيلية: تتوقف جميع الأنشطة العسكرية الإسرائيلية في غزة عند دخول هذه الاتفاقية حيز النفاذ. وخلال فترة وقف إطلاق النار، يوقف الطيران الجوي (العسكري والاستطلاعي) في قطاع غزة لمدة 10 ساعات يوميا، وخلال أيام تبادل الأسرى والمحتجزين تكون 12 ساعة.
انسحاب القوات الإسرائيلية: في اليوم الأول يتم إطلاق سراح 4 أسرى إسرائيليين أحياء، على أن تنسحب القوات الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل 2 مارس (آذار) 2025 في جميع مناطق قطاع غزة، وفق الخرائط التي نص عليها اتفاق 19 يناير (كانون الثاني) 2025.
المفاوضات: في اليوم الأول ستبدأ المفاوضات غير المباشرة برعاية الوسطاء الضامنين لوقف إطلاق النار الدائم، حول المواضيع التالية:
مفاتيح وشروط تبادل جميع الأسرى الإسرائيليين المتبقين، مقابل عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. إعلان وقف إطلاق النار الدائم والانسحاب الكلي للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة. (بعد الاتفاق على تبادل الأسرى والجثامين المتبقين وقبل البدء بإجراءات التسليم يتم الإعلان عن وقف إطلاق النار الدائم وانسحاب القوات الإسرائيلية من كامل قطاع غزة). إعلان ترتيبات اليوم التالي في قطاع غزة وتتمثل في: مباشرة لجنة من تكنوقراط مستقلة إدارة كافة شؤون قطاع غزة فور بدء تنفيذ هذا الاتفاق بكامل الصلاحيات والمهام. وقف العمليات العسكرية المتبادلة (العدائية) بين الطرفين لمدة طويلة 5-7 سنوات بضمان الوسطاء (الولايات المتحدة الأميركية ومصر وقطر).الدعم الرئاسي: إن الرئيس جاد بشأن التزام الأطراف باتفاق وقف إطلاق النار، ويصر على أن المفاوضات خلال مدة الوقف المؤقت لإطلاق النار إذا ما انتهت بنجاح باتفاق بين الأطراف، ستقود لحل دائم للصراع.
إطلاق سراح الأسرى والجثامين الفلسطينيين:
في مقابل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين العشرة الأحياء والجثامين الـ18، يتم إطلاق سراح عدد يتفق عليه بين الطرفين من الأسرى والجثامين الفلسطينيين. يتم الإفراج عن الأسرى الأحياء والجثامين بالتزامن ووفق آلية يتفق عليها.وضع الأسرى والمحتجزين:
في اليوم العاشر تقدم حماس معلومات عن أعداد الأحياء والأموات لمن تبقى من الأسرى في طرف حماس والفصائل الفلسطينية، وفي المقابل تقدم إسرائيل معلومات كاملة عن جميع الأسرى الأحياء والأموات ممن تم أسرهم من سكان قطاع غزة منذ يوم 7-10-2023. تلتزم حماس بضمان صحة ورعاية وأمن المحتجزين الإسرائيليين فور وقف إطلاق النار، بالمقابل تلتزم إسرائيل بضمان صحة ورعاية وأمن الأسرى والمحتجزين الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية وفق القانون والأعراف الدولية.إطلاق سراح الأسرى المتبقين: ينبغي استكمال المفاوضات بشأن وقف إطلاق نار دائم في غضون 60 يوما. عند الاتفاق وبعد إعلان وقف إطلاق النار الدائم والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، سيتم إطلاق سراح الأسرى المتبقين (الأحياء والأموات) من قائمة الـ58 المقدمة من إسرائيل مقابل عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين.
الضامنون: يضمن الوسطاء الضامنون (الولايات المتحدة، مصر، قطر) استمرار وقف إطلاق النار لمدة 60 يوما، ويضمنون استمرار المفاوضات حتى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار الدائم، مع استمرار وقف العمليات العسكرية ودخول المساعدات الإنسانية.
إعلانالمبعوث يترأس المفاوضات: سيأتي المبعوث الخاص السفير ستيف ويتكوف إلى المنطقة لإتمام الاتفاق. وسيرأس ويتكوف المفاوضات.
الرئيس ترامب: سيقوم الرئيس ترامب بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار شخصيا: إن الولايات المتحدة والرئيس ترامب ملتزمون بالعمل على ضمان استمرار المفاوضات بجدية لغاية التوصل لاتفاق نهائي.