لوحة غامضة على باب دورة المياه !
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
نزلت عاملة المنزل غاضبة، تهدرُ بإنجليزيتها المختلطة بعربية مُكسرة، تلك التي تشي بوقوع خطبٍ ما. جفلتُ بادئ الأمر فصعدتُ إلى الطابق الثاني لأتبين القصّة. كانت ابنتي قد رسمت على باب دورة المياه لوحة غامضة من وحي خيالها الطفولي، «سحبٌ سود وكائنات تُديرُ لنا ظهورها».
أوشكتُ أنا أيضًا أن أصاب بغضب مُماثل، لكني فضلتُ أن أطرح سؤالًا أثار فضولي: لماذا رسمت يارا على باب دورة المياه ولديها كراسات رسم بأحجام مختلفة ؟ فكان ردها الطفولي الأولي: «لم أستطع مقاومة بياض الباب».
استوقفني الرد كثيرًا، الباب الذي تراه كل يوم كان مُستفزًا، كان مشروع لوحة ! وكان خيالها يُملي عليها ما هو غير مرئي بالنسبة لنا جميعًا !
قلتُ لها وسط مشاعر مرتبكة: «يمكنكِ إكمال ما بدأتِ، سيغدو رائعًا حقًا أن يتحول هذا الباب الخالي من أي معنى إلى لوحة».
أعرفُ جيدًا درب الذهول الأولي، المحرضات الجامحة التي لا سبيل لترويضها إلا عبر إروائها وإلا فنحن نحكم عليها بعطش أبدي. ربما لأنّي عبرتُ من نفق مُماثل، ولذا كنتُ أدركُ أنّني لا أستطيع ثني تصميمها العنيد، لقد عبأتْ من قبل حواشي سريرها بخطوط وتعرجات دأبت على إخفائها بالملاءات.
وليست ابنتي إلا نموذج ضئيل من عديد الأطفال الذين لا يعرفون أين وكيف يُربون خيالهم في جو مُلتهب كهذا وفي علب أسمنتية لا يحفها غطاء نباتي ولا تجاورها أبواب الجيران المُشرعة ولا «السكيك» التي يينعُ فيها الركض.
وقد يعد بعض الآباء والأمهات أنّ الأثر الذي يتركه أبناؤهم على الجدران والستائر هو شأنٌ تخريبي تدميري، ولذا يتبددُ الخيال غالبًا في الأجهزة التي تستحوذ عليهم فلا يعود لهم وجود في البيت، لا أصوات ولا أحاديث ولا عراك.
يبدو الأمر لبعضنا جيدا ومريحا، إلا أن ذلك يضمرُ مخاطر خفية، مخاطر لا تضر نواة الأسرة وحسب، بل تلقي بظلالها المُرعبة على نموذج الأجيال التي نعدها للمستقبل!
نشرت منصة معنى مقالا بعنوان: «الطفل في الفلسفة» تمت الإشارة فيه إلى أنّ: «فهم بنية الحياة النفسية للطفل على صعيد فردي باتت مدخلا لفهم التطورات الاجتماعية والثقافية التي عرفتها المجموعة، بل وحتى لفهم كيف يبني الإنسان تمثلاته للعالم وللقيم وكيف ينتجها أو يتخلى عنها». فإن كنا لا نستطيع إيقاف زحف التقنيات وتوحشها في منازلنا فلا بد أن ننظر بعين الرأفة لما نظنه تخريبًا أيضًا، أن نسمح لشيء يسير من مخيالهم الخصب لأن يمضي في أروقة البيت.
وليست العائلة هي المسؤول الوحيد عن تربية النهم والفضول والفرادة، على الدولة ومؤسساتها أيضا أن تتحمل جزءا كبيرا من هذه المهمة الشاقة. فما نراه الآن من برامج وأنشطة تخص الطفل، لا يمكننا وصفه إلا بالجهود المتشرذمة، ذات الطابع الاستهلاكي غالبا، أمّا الجيد منها فهو قليل ومُكلف. كما تتكثفُ أغلب البرامج في مسقط رغم فكرة اللامركزية التي تطرحها الدولة عبر استقلالية المحافظات وأنشطتها!
علينا أن نطرح أسئلة جوهرية حول أهمية إشباع قوة خيال الطفل المُعاصر برؤى ملائمة لتطلعاته والتقنيات المُبهرة التي بين يديه لا كما اختبرته أجيالنا- فلا يُترك نهب ما يتخطفه من مآزق الفراغ الذي قد يؤدي به إلى شرك الابتزاز والمخدرات والأفكار المدمرة.
فهذا الكائن الغض هو من سيتولى مستقبلا ابتداع قيم المجتمع وهو من سيبحثُ عن منابع القوة الاقتصادية والسياسية باعتباره «كائنا مُفكرا لا من حيث قدرته على إدراك العالم الخارجي حسيًا وحسب، ولكن من خلال قدرته على إعادة بناء هذا العالم وتنظيمه بفضل ذكائه ورؤيته الخاصة وتفاعله معه، أي عبر نشاطي الاستيعاب والمواءمة»، فإن كانت حياة الأطفال والمراهقين اليوم تتمتعُ بذخيرة مُذهلة من المُلهيات التي قد تنجح في جعلهم مكتفين بفرديتهم بالمعنى الهش الذي يُقصي أواصر العلاقة بالعائلة والآخر على نحوٍ سلبي، يمكن أيضًا -من خلال ذات المُلهيات وعبرها- أن نُغذي الوحش النهم والحر والتواق للخيال وللسمات التي تعود بالنفع على الفرد والجماعة.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
دراما جيل زد.. كيف ترسم مسلسلات المراهقين لوحة فنية معقدة؟
في زمن تتسارع فيه تحولات الذوق العام وتتنافس فيه المنصات الرقمية على جذب انتباه الأجيال الجديدة، باتت المسلسلات التي تتناول عالم المراهقين تحظى بمكانة خاصة في المشهد الدرامي.
فهي لا تكتفي بعرض قصص شبابية سطحية، بل تحاول أن تغوص في أعماق مرحلة عمرية مليئة بالأسئلة، والصراعات، والبحث عن الهوية. ومع تنامي الوعي بأهمية التمثيل الواقعي، برزت أعمال درامية سعت إلى كسر النمطية، وقدّمت شخصيات مراهقة بلحظاتها الهشة والصلبة، بعيدا عن الأحكام الجاهزة والصور النمطية المكررة.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على أبرز المسلسلات الحديثة التي تناولت المراهقة، ونناقش كيف نجحت -أو أخفقت- في تصوير هذه المرحلة الحساسة بلغة فنية صادقة ومؤثرة.
سحر الفانتازيا الآسرينتج سنويا عشرات الأعمال التي تنتمي لفئة الفانتازيا، هذا الزخم يؤكد كم ينجذب المراهقون لها، من جهة لبعدها عن الاستسهال أو الاعتيادية، ومن جهة أخرى لجمّ ما بها من إثارة وتشويق.
العمل الأول اليوم، من كوريا الجنوبية، مسلسل "العدّاء اللطيف" (Lovely Runner) ذو الـ16 حلقة، حصل العمل على تقييم بلغ 8.6 على موقع "آي إم دي بي"، وبرز كتحفة فنية تجمع بين سحر الرومانسية الخيالية وعمق المشاعر الإنسانية في قالب درامي آسر، في حين تستعرض تساؤلات عن القدر ومدى أهمية الاختيارات اللحظية وعواقبها.
يحكي العمل عن فتاة مراهقة تتعرض لحادث مؤسف يحيلها قعيدة، وما يبقيها حية قادرة على مواجهة الأيام أغنية لمطرب تبث فيها الأمل وسرعان ما تصبح من المهووسين به، مما يجعل حياتها تنهار حين يموت فجأة، وبطريقة أقرب للسحر تنجح بالعودة بالزمن ومن ثمّ تحاول إنقاذ البطل وتغيير أقدارهم.
وتميز المسلسل بسرد قصصي متماسك نجح في التنقل ببراعة بين الحاضر والماضي، مانحا المشاهد فرصة لفهم دوافع الشخصيات وتطور علاقاتها المتشابكة. وعلى الصعيد البصري، قدم المسلسل جماليات برزت سواء في تصوير اللحظات الحالمة أو في تجسيد الأجواء المدرسية النابضة بالحياة. أما الأداء التمثيلي، فاتسم بالصدق والعاطفة، وتجلت الكيمياء بين البطلين.
"moving isn’t just the best south korean show of the year, it’s one of the best series of 2023 period"
—rolling stone pic.twitter.com/fGrFDx921N
— ᴊᴏᴏɴ (@jooonyiie) December 28, 2023
إعلانومن كوريا الجنوبية أيضا، نستعرض مسلسل "انتقال" (Moving) الذي اعتبره النقاد من أفضل دراما 2023، وهو إضافة نوعية ومميزة إلى فئة مسلسلات الأبطال الخارقين، حيث يتجاوز الإبهار البصري المعتاد ليغوص في أعماق العلاقات الإنسانية وتحديات النمو في ظل ظروف استثنائية، مع التركيز على صعوبة أن تكون مختلفا وقيمة العائلة والتضحية، مما يجعله تجربة تتجاوز حدود النوع الفني التقليدي لتلك الفئة.
تدور أحداث العمل حول 3 طلاب بالسنة الأخيرة في المدرسة الثانوية، يملكون جميعا قوى خارقة ورثوها عن ذويهم، ويحاولون إخفاءها عن الآخرين، خوفا من العواقب، وبالوقت نفسه هناك جهات مسؤولة تحاول التخلص من هؤلاء الطلاب وأولياء أمورهم.
وتميز المسلسل بسرد قصصي متقن مزج ببراعة بين الإثارة والتشويق المصاحبين للقوى الخارقة، وبين الدراما العائلية الدافئة التي تركز على حماية الأبناء وقبول الذات.
وعلى الصعيد الفني، تضمن العمل مؤثرات بصرية متقنة خدمت القصة دون أن تطغى عليها، بالإضافة إلى إخراج نجح بخلق توازن بين المشاهد الحركية والمواقف الحميمة. أما الأداء التمثيلي، فنجح الممثلون في تجسيد الصراعات الداخلية والخارجية لشخصياتهم، وإضفاء مصداقية على عالم يجمع بين الواقع والخيال.
جاذبية عالم الجريمةبين غموض الجريمة وجاذبية العناصر الخارقة للطبيعة يقع المسلسل الأميركي "أرواح المدرسة" (School Spirits) الذي يستعرض فرضية مبتكرة، حيث تروي الضحية المراهقة نفسها قصة التحقيق في جريمة قتلها من منظور الشبح، مما يخلق طبقة إضافية من التشويق والتعقيد السردي.
وعلى الصعيد البصري، نجح المسلسل بخلق أجواء تجمع بين الغموض والريبة داخل المدرسة الثانوية عبر الاستخدام الفعال للإضاءة والتصوير الذي نجح بخلق إحساس بالعالم الآخر.
يذكر أن الممثلة بيتن ليست جسدت ببراعة صراع شخصية البطلة بين الرغبة في كشف الحقيقة والشعور بالعزلة في عالم الأشباح. قد يعاب على المسلسل بطء وتيرة كشف بعض الألغاز، إلا أن التركيز على تطور العلاقات بين الأشباح وصراعاتهم الداخلية أضاف عمقا عاطفيا وطازجا للحبكة.
‘A GOOD GIRL’S GUIDE TO MURDER’ starring Emma Myers and Zain Iqbal to debut on Netflix in the US.
When a schoolgirl is supposedly murdered by her boyfriend, a classmate isn't so sure. If the real killer is still out there, how far will they go to keep her from the truth? pic.twitter.com/XYQt3mlnSa
— Film Updates (@FilmUpdates) April 22, 2024
من عالم الجريمة كذلك نستعرض المسلسل البريطاني "دليل جرائم القتل من فتاة صالحة"، وهو عمل من 6 حلقات استعرض قضايا مهمة مثل التحرش الجنسي والعنف والابتزاز. تدور أحداثه بعد 5 سنوات من وقوع جريمة مروعة في بلدة صغيرة تروح ضحيتها طالبة ثانوي. يظل مقتلها لغزا إلى أن تُقرر طالبة أخرى/بيب/إيما مايرز نبش الماضي للوصول إلى الحقيقة ومعرفة الجاني وهو ما يهدد حياتها.
العمل مقتبس من رواية بالاسم نفسه وجزء أول من ثلاثية شهيرة كانت الأكثر مبيعا، ووفقا لرأي القراء تفوقت الرواية على المسلسل، إذ جاءت شخصياتها أكثر عمقا وذكاء مع الكثير من التفاصيل المثيرة والمرعبة بآن واحد والتي تجاهلها صانعو المسلسل.
إعلانمع ذلك أحب المراهقون العمل، وقد أحسن المخرج اختيار أماكن التصوير، بالإضافة إلى جودة الإضاءة والديكور والأزياء في ظل تواضع التمثيل، لكن الأهم أن المسلسل اتسم بالمعاصرة، إذ جرى الاعتماد بالكامل على منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات التكنولوجية لخدمة الحبكة.
I finally watched #Adolescence and I’m blown away by the outstanding performances from EVERY SINGLE ACTOR. Wow. pic.twitter.com/v30Ve1fJjl
— hassan ???????? (@xhassanv) May 9, 2025
عمل آخر من بريطانيا، مسلسل "مراهق العائلة" (Adolescence) ذو الثلاث حلقات وهو بمثابة صرخة تحذيرية صاخبة في وجه التأثيرات المظلمة للإنترنت على جيل الشباب كونه لا يتوانى عن كشف الجوانب القاتمة للعلاقات عبر الإنترنت وأثر التنمر الإلكتروني بين التطرف والكراهية.
تميز العمل بأسلوبه السينمائي الواقعي والمباشر، ورغم قصر حلقاته نجح في خلق جو خانق وموتر عكس الضغوط النفسية والعزلة التي يعاني منها المراهقون في العصر الرقمي.
أما هواة الأعمال التي تجمع بين الدراما والكوميديا، ننصحكم بمشاهدة المسلسل الأميركي "جيني وجورجيا" الذي يستعرض العلاقة بين أم وابنتها وما بها من تقلبات وتحديات غير تقليدية، مع التركيز على بعض القضايا التي تخص المراهقين مثل الحب والصداقة والأسرار العائلية والصحة العقلية والبحث عن هوية الذات.
العمل يعد توليفة مكثفة تمزج بين الحوار الذكي والكوميديا السوداء، تميز العمل بالسرد التصاعدي سريع الرتم والإخراج الجيد، مع أداء متميز من بطلتيه أبرز التناقض بين شخصيتهما.
Tv Series: Geek Girl (Drama)
Platform: Netflix
"Geek Girl" is a series that follows the story of Harriet, an awkward teen who is trying to navigate the challenges of fitting in with her peers. However, Harriet's life takes a dramatic turn when she is scouted by a top London… pic.twitter.com/qe9OmOLOYJ
— Derin Universe ???????????? (@DerinUniverse) July 6, 2024
إذا كنت من محبي فيلم "الشيطان يرتدي برادا" للنجمة الأسطورية ميريل ستريب، فعلى الأغلب سوف تحب الترشيح الأخير بالقائمة ومسلسل "فتاة مهووسة" (Geek Girl) الذي يتمحور حول فتاة مراهقة مهووسة بالكتب تتميز بالذكاء الحاد والارتباك الاجتماعي الجذاب، تجد نفسها في رحلة لاستكشاف عالم الأزياء الصاخب والبراق، هذا التضاد يجعل من الرحلة مغامرة عامرة بالمواقف الطريفة.
وقد تميز العمل بخفة الظل، وتصميم الإنتاج الباهر بصريا في ما يخص عالم الأزياء، مركزا الضوء على النمو الشخصي للبطلة وتطور علاقتها بمن حولها مع فيض من الرسائل الضمنية عن أهمية تقبل الذات وكذلك الآخر.