التغيير: علاء الدين موسى

اهتز المبنى بأركانه الأربعة بعدما تبادل الطرفان المتقاتلان بالعاصمة السودانية القذائف واحتدّت اشتباكاتهما، الحرب لا تفرق بين المباني لذا فإن الرصاص و”الدانات” التي انطلقت لم تأبه بأن في الدار مئات الأطفال فاقدي السند والهوية احتموا منذ لحظة ميلادهم المشحونة برائحة الموت بالدار لتهب لهم الحياة ولكن هيهات!!.

ماجدة رضيعة لم تكمل عامها الأول جاءت للدار التي تعرف شعبيًا ورسميًا باسم “دار المايقوما للأطفال فاقدي السند” أملاً في توفير حياة كريمة لها، بعد أن عثر عليها أحد المارة على قارعة الطريق.

وسطرت الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان 2023 قدرا أسود للطفلة ماجدة وأدت لنزوح الدار من الخرطوم إلى ود مدني  بولاية الحزيرة- وسط البلاد هربا من الموت، لكن بعد انتقال القتال إلى هناك قررت إدارة الدار ترحيلهم إلى مدينة كسلا- شرقي السودان.

ماجدة كانت تعاني من مشاكل صحية تفاقمت إثر الانتقال من مدينة إلى أخرى، وفي ظل انعدام الرعاية الصحية والغذائية خطفت يد المنون روحها بمدينة القضارف، بينما تزداد مخاوف العاملين في الدار من ارتفاع عدد الوفيات وسط الأطفال- وفقاً للمديرة الطيبة للدار د. عبير زكريا.

وتمثل ماجدة واحدة من نحو 100 طفل من فاقدي السند الذين خسروا معركة البقاء بعد توقف الرعاية الصحية والغذائية، ومولد الكهرباء الذي كان يعطي الأطفال أوكسجين الحياة- بحسب المربية بالدار صباح عبد الله التي تحدثت لـ(التغيير).

وأضافت: “فقدنا 14 طفلا في يوم واحد بسبب التيار المولد بالدار ليبلغ عدد الأطفال الذين توفوا في الخرطوم 69 طفلاً.

دار المايقوما أنشئت في 1961، وكانت عبارة عن مركز وتبلغ مساحتها 5 آلاف متر، وكانت تستقبل قبل الحرب بين 40 و45 طفلا شهريا، وفق المديرة الطيبة للدار.

وتقول زكريا: إن معاناة الأطفال والوفيات بدأت من اليوم الثاني للحرب بعد ذهاب الأمهات وكوادر الصحة والتغذية لمنازلهم، وبعد 5 أيام تدخلت منظمة حاضرين وأحضرت المواد الغذائية واحتياجات الأطفال وحوافز العاملين مما أسهم بقدر كبير في رجوع الأمهات.

وتضيف: رغم المجهودات التي تم بذلها إلا أن (69) طفلا توفوا بالخرطوم بسبب الحرب.. تم دفن أغلبهم في الميدان الشرقي للدار بسبب منع الدفن في المقابر الجماعية ولم يتم تحرير شهادات وفاة لهم.

رحلة فاقدي السند فرارا من الموت

بعد سيطرة قوات الدعم السريع على ود مدني توفي نحو 25 طفلا بسبب انعدام الغذاء والعلاج، وبعد ترحيلهم إلى كسلا استقرت أحوالهم وعادت نسبة الوفيات للمعدل الطبيعي وتوفي منذ إحضارهم حتى تاريخ اليوم 8 وفيات 3 ذكور و5 إناث- قالت زكريا.

وأكد صديق فريني وزير التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم التي تشرف على مراكز الرعاية، صحة العدد.

وقال لـ(التغيير)، عند اندلاع الحرب كان عدد الأطفال بدار الطفل اليتيم “المايقوما” 385 طفلا، بعضهم كان محجوزا في مستشفيات ولاية الخرطوم برعاية طبية كاملة من منظمة أطباء بلا حدود والتي التزمت الوزارة بتقديم خدماتها للأطفال حتى الثلاثين من أبريل ونتيجة لا ندع الحرب في 15 أبريل/ نيسان، غادرت المنظمة الخرطوم دون أي ترتيب مسبق مما أدى لتوقف بعض الخدمات التي تقدمها.

وتقع الدار بمنطقة السجانة بالخرطوم، التي تحيطها الاشتباكات العسكرية من كل الاتجاهات، إذ تحدها من الشمال قيادة الجيش والقصر الرئاسي، ومن الجنوب سلاح المدرعات ومن الشرق القاعدة الجوية ومن الغرب سك العملة، وجميعها مواقع ملتهبة بالعمليات العسكرية.

كان العاملون بالدار يمنون أنفسهم بأن تنتهي معاناة الأطفال بعد إخلائهم إلى ولاية الجزيرة “ود مدني” التي تبعد حوالي 200 كيلو جنوب شرق الخرطوم، بواسطة الصليب الأحمر، بعد أكثر من 40 يوما تحت القصف والحصار، وتم الإخلاء بعد الهدنة التي وقعها طرفا الصراع في منبر جدة الذي تيسره الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، وكانت الفرصة مواتية لإنقاذ الأطفال من شبح الموت- بحسب الناطق الرسمي للصليب الأحمر عدنان الذي تحدث لـ (التغيير).

ويقول عدنان، إن الصليب الأحمر قام بإخلاء حوالي 300 طفل مع أكثر من 70 من المشرفين من دار المايقوما الخرطوم إلى ولاية الجزيرة ود مدني العام الماضي، كما أجلينا 10 أطفال تقطعت بهم السبل في جمعية خير للأيتام، وتأتي هذه ضمن الدور الذي يقوم به الصليب الأحمر في الإخلاء الإنساني عندما تتوافق الأطراف المتقاتلة على عملية الإخلاء وتكون هنالك ضمانات أمنية.

حال الأطفال في مدني لم يكن أفضل حالا من الخرطوم بعد أن نال التعب من أجسادهم النحيلة وتدهورت أوضاعهم الصحية ليتم ترحيل عدد منهم إلى مستشفى مدني لتلقي العلاج- بحسب المربية صباح.

وتروى عبد الله بحسرة: معاناة الأطفال زادت بعد إجلائهم من الخرطوم نسبة لعدم توفر الرعاية الصحية والغذائية الذي نتج عنه وفاة عدد من الأطفال بسبب ارتفاع درجات الحرارة.

وتضيف: ما يزال الأطفال يعانون من انقطاع التيار الكهربائي وعدم توفر مكيفات لعدد من الغرف وعدم تهيئة المكان بالشكل الذي يليق بالأطفال.

ولم تتوقف معاناة الأطفال بعد خروجهم من الخرطوم، فبعد سيطرة الدعم السريع على ود مدني في ديسمبر الماضي، بدأ فصل جديد من المعاناة، ومنذ اليوم الأول توقفت الحياة تماما، وتم ترحيلهم إلى كسلا- حوالي 600 كيلو شرق الخرطوم، بواسطة منظمة اليونسيف، إلا أن الأطفال ظلوا 48 ساعة داخل البصات، مما أدى لوفاة طفل من ذوي الإعاقة- قالت صباح.

وأجلت اليونيسيف 253 طفلا إلى كسلا بعد اندلاع القتال بالجزيرة ديسمبر الماضي، وتدعم اليونيسف الرعاية الطبية للأطفال والتغذية والدعم النفسي والاجتماعي، واللعب والأنشطة التعليمية، ودعم مقدمي الرعاية للأطفال الذين تم نقلهم.

وتواصلت (التغيير) مع مسؤولة الإعلام باليونسيف ووعدت بالرد على استفسارات الصحيفة لكنها لم تستجب حتى موعد نشر المادة.

احصائية بشأن الأطفال فاقدي السند

وعاش أطفال المايقوما أوضاعا نفسية سيئة بسبب ما واجهوه من قتل وحصار طوال فترة وجودهم بالخرطوم وود مدني، وفق الاختصاصي النفسي لدار المايقوما صدام أحمد.

ويقول صدام لـ(التغيير)، إن الأطفال تجاوزوا الآثار النفسية بعد وصولهم مدني بفضل معاونة الأمهات والباحثين الذين أعطوهم دعما نفسيا ليتخلصوا من الآثار مما انعكس على نفسياتهم وتغير شكل اللعب والأكل والتفاعل مع الأنشطة والبرامج.

“بعد أن واجهوا أيام الحرب في الخرطوم وود مدني التي توقفت فيها الخدمات من أول يوم ومكثوا 12 يوما في ظل أكل محدود، والضرب بطريقة عشوائية لقرب الارتكازات من الدار”.

ويواصل صدام: يحتاج 24 طفلا لعمليات فتاق في السرة وعدم نزول الخصيتين ومشاكل في القلب والكلى، بالإضافة إلى 48 طفلا من أصحاب الإعاقة ويواجه الأطفال المعاقون أكثر إشكاليات بالنسبة للتأهيل والتدريب لأنها مشاكل تحرمهم من مسألة الكفالة.

ويؤكد أن دور منظمة أطباء بلا حدود كان كبيرا في المايقوما وترك بصمة في برنامجها، لكن للأسف لم تأت منظمة للمواصلة في ذات النهج.

وطلب صدام من (أطباء بلا حدود) العودة إلى تقديم خدماتها للأطفال لتخفيف المعاناة التي يعيشونها بسبب الحرب التي أثرت على كل شئ.

وبدأت المنظمة توفير الرعاية الطبية لدار الطفل اليتيم “المايقوما” في 2021م ونجحت في تقليص وفيات الأطفال بنسبة 50%، وتوقفت نسبة لتخصيص مواردها لأنشطة جديدة تتمثل في الرعاية الصحية الأساسية بالخرطوم ومخيم زمزم للنازحين والاستجابة للملاريا في دارفور، فضلا عن الاستجابة للطوارئ في مناطق مختلفة من البلاد.

وبحسب مصدر تحدث لـ(التغيير)، فإن الإمكانات المادية للمنظمة ليست كما كانت في السابق، ووعد بطرح قضية أطفال المايقوما من جديد.

الوسومالجزيرة الجيش السوداني السودان الصليب الأحمر اليونيسيف دار المايقوما للأطفال فاقدي السند صديق فريني قوات الدعم السريع كسلا منظمة أطباء بلا حدود ولاية الجزيرة ولاية الخرطوم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجزيرة الجيش السوداني السودان الصليب الأحمر اليونيسيف قوات الدعم السريع كسلا منظمة أطباء بلا حدود ولاية الجزيرة ولاية الخرطوم معاناة الأطفال الرعایة الصحیة أطباء بلا حدود دار المایقوما الصلیب الأحمر الدعم السریع فاقدی السند من الخرطوم لـ التغییر ود مدنی

إقرأ أيضاً:

أسطرة المقاومة في مواجهة عوالم الموت الإسرائيلية

يعتمد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كحال سائر المستعمرين والمحتلين، على أشكال متطورة ومتجددة من العنف بهدف إخضاع الشعب الفلسطيني الواقع تحت سيطرته وتشكيل وعي متواطئ معه، يقبل بالخضوع، بحسب خلاصة مستمدة من أعمال خبراء ومختصين في دراسات "ما بعد الاستعمار".

وترصد العديد من هذه الدراسات، مثل أعمال الطبيب الفرنسي فرانز فانون، والفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، وأستاذة الأدب في جامعة هارفارد "إيلين سكاري"، أشكال العنف الاستعماري وأهدافه، وإمكانات الشعوب المقهورة في التعامل معه، وما يسمى بتقنيات إدارة الألم فرديا وجماعيا.

وبحسب هذه الأعمال، فإن نجاح شعب ما في التحرر مرهون بقدرته على الانعتاق من القيود الفكرية التي يفرضها الاستعمار والصبر على الألم وتحويله إلى دافع لتشكيل هوية مناضلة وفعل مقاوم طويل الأمد.

نجاح أي شعب في التحرر مرهون بقدرته على الانعتاق من القيود الفكرية التي يفرضها الاستعمار والصبر على الألم (الفرنسية) الصدمة والترويع

ويسعى الاحتلال من خلال "الصدمة والترويع" إلى خلق قدر من الألم الهائل والمفاجئ على شكل موجات تهدف إلى تجاوز قدرة الشعب على التحمل، وتوجيه أثر هذا العنف إلى داخله، تفككا وتآكلا للثقة وهو ما يجعله جاهزا للخضوع ونبذ المقاومة.

وردا على ذلك، تسعى أي حركة تحرر إلى استيعاب عنف المستعمر من خلال إستراتيجيات، منها "أسطرة البطولة" وجعلها مدخلا لتجنيد الشعب في أعمال المقاومة، وتحقيق الإنجازات التي تقنع الشعب بجدوى المقاومة.

ويضاف لذلك توثيق جرائم الاحتلال وجعلها أساسا لنزع شرعيته الدولية، والسعي لإيقاع أكبر قدر من الألم المادي والمعنوي في الاحتلال، مع تركيز الأنظار إلى حجم ألم العدو.

مسعفون فلسطينيون يقومون بإجلاء الجرحى من موقع غارة جوية إسرائيلية في مدينة غزة (رويترز) طبيعة الاستعمار

قدم الطبيب الفرنسي فانز فانون نظرية واسعة التأثير بشأن طبيعة الاستعمار وطرق مواجهته، وذلك من وحي معايشته لاستعمار بلاده للجزائر، حيث كان يعالج جرحى الفرنسيين والجزائريين ويتفكر في دلالات مشاهداته، ولاحقا ألهمت أفكاره العديد من حركات التحرر حول العالم، وحفزت أعمالا موافقة لها وأخرى معارضة.

إعلان

ويرى فانون في كتابه "معذبو الأرض" أن الاستعمار نظام عنيف يعيد تشكيل الإنسان المستعمَر ليصبح "شيئا" وليس إنسانا طبيعيا، إذ يصور ضحاياه كمصدر للشر، يجب تدميره أو تهذيبه.

وبناء عدواني بهذه الدرجة لا يمكن تفكيكه بلغة الإصلاح، بل يتطلب -وفقا لفانون- تحطيما جذريا باستخدام القوة. مؤكدا أن "اللقاء الأول بين المستعمِر والمستعمَر كان عنيفا، واستمرار العلاقة بينهما قائم على اللغة نفسها، إلا أن أحد أخطر آثار الاستعمار هو "التواطؤ النفسي"، حيث يبدأ المضطهَد في تبني نظرة المستعمِر إليه.

وفي مواجهة عنف الاحتلال تكون نقطة التحول هي احتضان الألم والمعاناة، والتوقف عن الهرب ومواجهة الاحتلال وجها لوجه، وحينها فإن "الشيء الذي تم استعماره يعود إنسانا في العملية نفسها التي يتحرر فيها"، وذلك عند مواجهة عنف الاحتلال بالعنف الذي يستحقه ويستدعيه.

وبحسب فانون، فـ"العنف قوة تطهير.. تحرر المستعمَر من عقدة النقص والخمول"، وتعيد له احترامه لذاته، وتمنحه شعورا بالسيادة والسيطرة بعد طول إخضاع واستضعاف.

وفي هذه العملية لا يمكن للفرد أن يتحرر وحده، بل وحدة الجماعة الثورية أمر أساسي، والقاعدة هي "نجاة الجميع أو لا أحد".

سياسات الموت

وذهب الفيلسوف الكاميروني، أشيل مبيمبي، أبعد من ذلك في وصف السلوك الاستعماري، مبتكرا مصطلح "سياسات الموت" الذي جعله عنوانا لكتابه بهذا الشأن، والذي يلحظ أن الاستعمار يفرض سيادة يكمن التعبير النهائي عنها في "تحديد من يجوز له أن يعيش ومن يجب عليه أن يموت".

ويلاحظ مبيمبي أن انتزاع الجسد والحياة في ظل الاستعمار لا يحصل "باعتبارهما مجرد أشياء تُحكم، بل بوصفهما ساحة لظهور سلطة السيد الحاكم".

وتشير "سياسات الموت" إلى الطرق المتعددة التي تستخدم فيها الأسلحة في عالمنا المعاصر، من أجل أقصى قدر من التدمير البشري، وبذلك فإن الحصار والحدود والمخيمات والسجون وساحات القتال تقوم بإنتاج "عوالم موت"، تكون فيها حياة الشعب المستعمر على حافة الموت بشكل مستمر.

إعلان

وفي الحرب الجارية في قطاع غزة يمكن ملاحظة تبني الاحتلال الإسرائيلي لإستراتيجية "عوالم الموت"، بدءا من حصار القطاع على مدار 17 عاما قبل الحرب، مرورا بتكثيف الموت والإصابة بين الفلسطينيين.

كما حوّل الاحتلال كل مناحي حياة الفلسطينيين إلى معاناة، كالحصول على المياه والغذاء والعلاج، وتدمير المساجد وتعطيل عملها في تعزيز الروح المعنوية، وإنهاك المجتمع من خلال إدخاله في متواليات من الأمل ثم اليأس، إذ تتناوب عليه أنباء الانفراج القريب التي يتلوها التصعيد والتهجير الداخلي، ويتم تحويل مراكز المساعدات إلى محطات للقتل كما حصل في العديد من المجازر على مدار الحرب.

حول الاحتلال الإسرائيلي كافة مناحي حياة الفلسطينيين إلى معاناة (أسوشييتد برس) إستراتيجيات إدارة الألم

درست أستاذة الأدب في جامعة هارفارد، إيلين سكاري، توظيف الألم كأداة سياسية في كتابها "الجسد المتألم.. صنع العالم وتفكيكه"، مشيرة إلى أن "النشاط المركزي في الحرب هو الإيذاء الجسدي، والهدف الأساسي منها هو التفوق في إلحاق الأذى بالطرف الآخر".

وذلك رغم أن "واقع الإيذاء الجسدي غالبا ما يكون غائبا عن الأوصاف الإستراتيجية والسياسية للحرب"، كما يظهر لدى مراجعة كتابات كلاوزفيتز وليدل هارت وتشرشل وسوكولوفسكي وغيرهم من منظري الحرب.

ففي الحرب "تحاول كل جهة أن تُحدث تفككا في الجهة الأخرى بجعل واقع الإيذاء نفسه هو القضية التي يُخاض النزاع حولها. ولا يكون النصر بالضرورة إلى جانب الطرف الذي يُلحق بخصمه أكبر قدر من الأذى من حيث الكمية المطلقة، بل إلى الطرف الذي ينجح في تفكيك عزيمة الطرف الآخر، سواء عزيمته على مواصلة الإيذاء أو على مواصلة تحمّله".

وتسلط سكاري الضوء على خاصية أساسية في الألم الجسدي، وهي الصعوبة البالغة للتعبير عنه ونقل الشعور به إلى الآخرين لتعظيم أثره النفسي، مما يستدعي البحث عن وسائل "تكسبه الصوت" بهدف التخفيف منه.

في الحالة الفلسطينية كان للأبعاد الدينية والروحية دور أساسي في استيعاب الألم والصدمات (وكالة الأناضول) التخفيف من الألم

وتتابع المدرسة في جامعة هارفارد أنه "كما أن التعذيب يتكوّن من أفعال تُضخم الطريقة التي يدمر بها الألم عالم الشخص وذاته وصوته، فإن الأفعال الأخرى التي تُعيد الصوت لا تكون مجرد إدانة للألم، بل تُصبح أيضا شكلا من التخفيف من الألم، بل انقلابا جزئيا على عملية التعذيب نفسها".

إعلان

وتقول "إن الاعتراف بالألم، ومحاولة التعبير عنه، تُعدّ شكلا من الامتداد الذاتي في العالم، بحيث يُمنح المتألم إمكانية استعادة صوته، ومن ثم استعادة إنسانيته".

ومن هذه الوسائل ضرورة الاعتراف بالألم، والتعبير عنه، وبناء شبكات التعاطف الاجتماعي مع المتألمين، إذ "إن التعاطف، حين يمنح الألم مكانا في العالم عبر اللغة، يقلل من قوة الألم ويقاوم قدرة الجسد -حين يتألم- على ابتلاع الشخص بالكامل".

وفي الحالة الفلسطينية، كان للأبعاد الدينية والروحية دور أساسي في استيعاب الألم والصدمات التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي، إذ وفرت البنية العقائدية للمقاومة قدرا عاليا من الصلابة، ومكنتها من الاستمرار في العمل العسكري بدرجات متفاوتة على مدار 18 شهرا، رغم تقدير الاحتلال أنه قد قتل ما يزيد على 10 آلاف مقاتل، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى الذين يتركزون في أهالي المقاتلين ومحيطهم الاجتماعي.

ووفرت مفاهيم مثل الشهادة والصبر والاحتساب، وآيات القرآن من قبيل "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" أساسا للتعبئة الشعبية، وهي نتاج ثقافة تعززت بشكل خاص مع صعود دور المقاومة الإسلامية وإدارتها قطاع غزة منذ العام 2006.

التمحور حول الألم

ويتضح مما سبق أن مقدار الألم في الحرب ليس محددا للهزيمة أو النصر بحد ذاته، بل كيفية التعامل معه هي الأمر الحاسم بهذا الشأن، فإذا ترافق الشعور بالألم بالمعنى وبالتضامن فمن الممكن أن يكون معزّزا للإرادة في وجه الاحتلال، أما حينما يسود خطاب "عبثية الألم" مترافقا مع التفكك الاجتماعي والسياسي فيكون الألم دافعا إلى الانهيار.

ويمكن لمركزية الألم في سياق الاستعمار أن تتخذ منحى إيجابيا أو سلبيا، وفقا لما تظهره الأعمال النظرية السابقة والتجارب العملية بهذا الشأن، إذ يمكن أن يكون الألم حافزا وأداة للتحرر حينما يحوّل إلى طاقة حشد وتعبئة، ويدار بروح جماعية صلبة، من خلال التضامن الاجتماعي والخطاب المقاوم، وحينما يعرّي العدو أخلاقيا ويقوض سرديته التي يقدم نفسه فيها مركزا للخير والحضارة.

إعلان

وبالمقابل، يعمل الاستعمار على إيصال الألم إلى مستوى لا يقدر المجتمع المستعمَر على تحمله بهدف تفكيك التضامن والروح المعنوية، ولتعزيز الشقاق الداخلي، مع الحرص على عدم إعطاء تنازلات يراها الواقعون تحت الاحتلال إنجازات تعزز صمودهم وثباتهم.

وهكذا، فإن مآل الحرب لا ينفك عن صراع الإرادة بين صنع الألم وإدارته لدى طرفي الصراع، بما يتطلب وضع الألم دائما في سياقه، وتوجيه رد الفعل عليه نحو الاحتلال، مع السعي الدائم إلى تقليل مقداره في سياق إدامة مقاومة الاحتلال وليس الاستسلام لإرادته.

مقالات مشابهة

  • العقوبات الأمريكية .. (سيف مسلط) على رقاب الشعب السوداني
  • السودان: 9 وفيات و153 حالة اشتباه بالكوليرا في ولاية سنار
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: بوت الشرطة وأيام العيد النضرة
  • مكتب أطباء السودان: الخرطوم و6 ولايات أخرى تعاني من تفشي وباء الكوليرا
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 348 أضحية في محلية ود مدني الكبرى بولاية الجزيرة السودانية
  • السودان .. برمجة قاسية للكهرباء في أم درمان مع ارتفاع درجات الحرارة
  • صحف عالمية: حماية الأطفال من الموت جوعا أحد أكبر تحديات العائلات الغزية
  • من تحت القصف إلى قلب الحقل.. هكذا أنقذت نساء الجنوب الأرض من الموت
  • "الكوليرا في زمن الحرب".. ألف حالة يوميا بالخرطوم وتحذيراتٌ من كارثة محقّقة
  • أسطرة المقاومة في مواجهة عوالم الموت الإسرائيلية