لحفيد الطيب صالح بين فكرة الهِجرة ولا هِجرة..!
تاريخ النشر: 30th, June 2024 GMT
لحفيد الطيب صالح بين فكرة الهِجرة و لا هِجرة..!
■-ما تخيلتً أنّ أحفاد الطيب صالح سيهاجرون من جديد للشمال. حسبتهم باقون في وطن كان مأوى لنا من جموع المُهاجرينّ من أصقاع الأوطان المُجاوِرة للسودان الذي كان بلد في شكل قارة متنوعة الأصول جذبت شعوب من اليونان ومصر و نيجيريا و تشاد ومن ارض إثيوبيا وإريتريا لأقصئ بلاد شنقيط و العراق و فلسطين من يهود ومسيحين ومسلمين.
■- بلداً شعوبِها شيدوا إهراماتِهم و ممالكهم من ارض الفور و الفونج و الشُلك و النوبة و البِجة و غيرهم بتعدد السِنح و الطبقات الاجتماعية و اللغات و اللهجات.
■- كيف لهُم الأنّ أن يكون مصير أكثرهم خيار و بحثاً في دروب للهِجرة.
● لستُ هُنا السائل بل أنا المُندهِشّ.
– ■- نعم في مناخ الفوضى الكونية و الأقليمة و الدولية ، و بالرغم من الكثير من عناصر الطرد و النفور و التناقضات التي استوطنت السودان وتاريخه السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، تظل المُعادلة الموضوعية هو خيار السودان الوطن الحديث.
■- لهذا الأمر كان الخيار أن يكون الماضي محاولات في أن يبحث السودانيونّ عن خيارات من [ الواقع ومن غيره ]في محاولة بناء الأمة في إطار حدود صنعها التاريخي القومي ضمن تطوره الذاتي و مراحل التجربة الإلحاقية أو ” الكونيالية ” التي ساهم فيها المُستعمر من شمال أفريقيا و أوريا و البحر المتوسط حتى أصبح السودان بلد المليون مُربع و سلة الغذاء العالمي اليت أصبحت عاصمتها الخرطوم ذات تاريخ منسي للكثيرين ببلد الآلات الثلاثة و ثورة أكتوبر بعد برلمانهم الذي أتى بنتائج دولة 1956 و مراحل الانقلابات و الثورات وجيل ” السبتمبريون” التي لم تكُن الفكرة فيها أبداً أن يهاجروا و إن اغتربوا ذات طفرة البترول في التاريخ المعاصر للاغتراب المبتور .
■- نعم؛ كُنا دوما ما نسمع لهم وهُم يتغنوا” رجع البلدّ”. الأن باتت الصورة لسيت من شاكلت صمود كرري و لا بقامة جيل ” القُرشي ” و صوت ” مهيرة” و بروز على عبد اللطيف و صحبُه و أناشيد ” أصبح الصُبح” ، حيثُ اللغة تغيرت فيها ” المُفردة” و الشعار قد تمزق، و نهضة لا دودة ” الموت البليد و السحل و الغدر و رداء العار ” تأتي بعد صوت كان مُستحب في صباحات السودان برفع أذان” الله أكبر” الذي أصبح الأن يأتي لنا بموت الأطفال و الكُهل في مضاجع نومهم و كأن داحس و الغبراء تندب على مهزلة التاريخ في السودان العظيم أمام مأساتِها.
بينما ” الله اكبر” هو صوت بلال الحبشي التي قال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أرحنا بِها يا بِلال”
■- أدرك كما أعرف أن الحروب أحد عناصرها أن يُهاجر البعض في مرحلة ، و أن تغادر منزلك و تترك مدرستكً و حقلك و مصنعك و حتى ظل تلك الشجرة و تعود للشارع الذي تعرف فيه كُل لحظة جميلة وطريفة و مبدعة بل و خلاقة مع عالمك الخاص العام.
– إليك تجربة شعبنا في إريتريا ، بالرغم من حقيقة ” الهِجرة” يجب أن يقابل ذلك فكرة أن تصمُد مع من صمَد ، وأنّ تُعيد فهم واقعك و نتائج تلك الأخطاء المُورثّة حيث – ما أنت غير مُهاجر يؤمن في تاريخه بحقيقة العودة بجانب اللذين تبعثروا هُناك في أماكِنّ و أزمِنة خاصة و عامة – حيث يعيشون و يتجرعون الفاقةِ في هذه اللحظة خلف عتمة المتاريس و عبر و داخل الحدود و في عُمقّ وجدان الوطن القديم و الحديث معاً و في تناقض مُخيف وعدائي حد الإقصاء. بينما أن التاريخ المُستنير و الفكر الإجتماعي السوداني المُتأصل الموسم بعرق و نضالات – الفلاح و العامل و نقابات السكة الحديد و شرائح الوسط و المرأة السودانية المناضلة – و الملفحة بجزور الإنسانية المُنتمية للأديان تؤكد في جزءٍ معاني كانت تنتمي للمعرفة و السلام و العدل الإجتماعي و الديمقراطية الليبرالية و النظام التعليمي المتفاعل مع عموم الفكر الإنساني في عقولنا وقلوبنا الذي خبرنا فيه السودان الكبير و العظيم .
■- تعلم أن القضية و المشكل ليست فقط في ظل التاريخ بل في الواقع الذي حاول أن يرتبط بالمستقبل. وأنَ المسؤولية حتماً تتوزع بين الفردية والجماعية تلك الثُنائية الجدلية في ذات الحين و المرتبطة بفكرة ضرورة تغيرُها ؛ إذ لا يُمكن الفصل بينهما لكونهما متلازمتان – كالصبح و الليّل – كما ارتبط نهر أبيض بالإزرقّ – و تغنوا في تلك البُرهة من التاريخ للمقرن في صفاء.
■- الأن و في محاولة للتفاعل مع رسالتك لجدك و نبي الرواية السودانية أستاذنا الطيب صالح أذكرك ونفسي بهذا المقطع من روايته ” موسم الهِجرة للشمال لنعيش معاً دهشة الرؤية عندما كتب .
○●○ ” ومضيت أسبح وأسبح وقد استقر عزمي على بلوغ الشاطئ الشمالي. هذا هو الهدف، كان الشاطئ أمامي يعلو ويهبط، والأصوات تنقطع كلية ثم تضج. وقليلًا قليلًا لم أعد أسمع سوى دوي النهر. ثم أصبحت كأنني في بهو واسع تتجاوب أصداؤه. الشاطئ يعلو ويهبط ودوي النهر يغور ويطفو. كنت أرى أمامي نصف دائرة ثم أصبحت بين العمى والبصر، كنت أعي ولا أعي، هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ ومع ذلك كنت ما أزال ممسكًا بخيط هن حتى كاد ينقطع، ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها.. وفجأة، وبقوة لا أدري من أين جاءتني، رفعت قامتي في الماء. تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة. كنت أريد أن أبقى طافيًا على السطح، وكنت أحس بقوى النهر الهدامة تشدني إلى أسفل، وبالتيار يدفعني إلى الشاطئ. إن عاجلًا أو آجلًا ستشدني قوى النهر إلى القاع. وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابًا من طيور القطا متجهة شمالًا. هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟ ●○●
◇■◇
□في ختام القول الحنون أعلم أنني لا أملك الحق في أن لا ” تُهاجر؛ كما لا أضمن لك العودة الأمِنة” بين الواقعين أُعلن لك عن عجزي الكامل في أن أصون المعاني بقدرة العارف حيث نحن مصدمون حد الدهشة معك و السودان في عمومه.
□لكني مُدرك بأن ما قمت به من عمل هو نتاج و تعبير صارم بل هو واضح في التشكُل المعرفي و سردية من أتون التيه المُدمر جاءت لتيقظ فينا الضمير و تبحث في السؤال و ليس الإجابة على الفوضى العارمة في دولة كانت هي النموذج للقارة الجديدة ذات تاريخ.
□ و في ذات المقام قد أكون “رب أخِ أكبر لم تلده أُمك ” ، و قد أكون أو نكون ذلك ” مصطفى سعيد” لكن المؤكد أنت هو جيلك و قدرك هم مركز الإجابة على السؤال فما انا غير إنسان اصبح مُندهشّ فيما يحدث للسودان.
#إبراهيم_إدريس 30 يونيو 2024 مدينة دينفر ولاية كلورادو ”
مهاجر للمرة الثانية و مازلت مؤمن بالعودة وأن طال السفر “.
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الطیب صالح
إقرأ أيضاً:
حضرموت .. فوضى اللحظة ووقار التاريخ
حضرموت… تلك الرقة المتخفية خلف علو النخيل والوقار الذي يشبه صلاة قديمة في جوف الفجر تبدو اليوم كمدينة أُسقطت فجأة من سفح الزمن إلى وهاد الفوضى.
لا لأن الريح اشتدت بل لأن من تولى حراسة الباب تركه مفتوحا لكل عابر لا يعرف عطر الطين ولا وصايا الأجداد.
في حضرموت اليوم لا شيء يشبه أمسها سوى تنهيدة البحر حين يضيق صدره ولا شيء يظل ثابتا غير نخلة تتأمل ذاتها في مرآة الريح وتسأل: أي زمن هذا الذي يمر من أمامنا دون أن يلقي السلام؟
المشهد الذي يخيم على المحافظة يشبه صفحة من كتاب عتيق كانت قد طويت على وجع ثقيل ثم فتحت على عجل فانبعث غبار كثيف لا يرحم عيون الناس ولا ذاكرتهم. مدن كانت تعرف بالسكون العميق بالمشائين الذين يهبطون الأسواق بخطى تحترم المكان وبالبيوت التي تغلق نوافذها على أسرار يابسة كالتمر… فإذا بها تساق اليوم إلى ضجيج لا يشبهها وإلى مشهد لا يليق بتاريخ ظل طوال عقود علامة فاصلة بين الاتزان والفوضى.
تدخل مليشيات المجلس الانتقالي إلى حضرموت ليس بوصفه إجراء عابرا ولا بصفة قوة تفترض أنها تمثل الدولة أو تحفظ الأمن بل بملامح قوة جاءت محملة بدبابات لا تعرف قداسة الأرض. تتحرك كأنها تجر وراءها مشاريع صغيرة صنعت في غرف أبعد ما تكون عن اليمن وتمضي بخطى من اعتاد أن يعيش خارج سياق الناس خارج لغتهم خارج ذاكرة المكان التي لا تقبل الغريب إلا إذا مشى على رؤوس أصابعه.
هذا الزحف لا يشبه حتى أخطاء السياسة المعتادة إنه خطأ يتكاثر مثل ظلال المساء وحين يكثر يتحول إلى قدر مهين لا يمكن تبريره.
الشرعية الهشة بما في ذلك رئاستها التي فقدت حس البوصلة لم تكتف بالتخاذل عن حماية حضرموت بل ذهبت إلى ما هو أبعد: سلمت مفاتيح المدينة لغير أهلها وتنازلت عن واجبها الدستوري وتركت العلم الجمهوري مكشوفا في وجه من لا يرون فيه أكثر من قماش يجب اقتطاعه لإثبات حضور زائف.
وليس تمزيق العلم الوطني سوى فصل آخر من مهازل اللحظة. علم ظل معلقا في سماء اليمن منذ أن كانت النجوم تعرف مواقعها الأولى ولم تقدر الحروب على إطفاء لونه يأتي اليوم من يجرب فيه أنياب حقده كأنما يمزق يداً تمتد إليه لا قطعة قماش. يفعلون ذلك دون إدراك أنهم يشقون صفحة من تاريخهم هم قبل غيرهم فالأوطان لا تهان بخيط يقطع بل تتهدد حين يسقط في قلوب الناس اليقين بأنهم يستحقون علما لا يمس.
حضرموت اليوم تقف بين مشروعين: مشروع وطني واسع يعرف معنى الجمهورية يعرف أن العلم ليس راية تستبدل بأخرى بل ذاكرة وحق ودم مشى في الشوارع تحت الشمس والمطر. ومشروعٍ صغير لا يرى اليمن إلا خارطة يمكن قصها لا إرثا يستحق أن يحمل. هذا هو جوهر المفارقة التي تعصف بالمشهد: مليشيات ترفع راية ليست لها تحرسها وعودٌ صنعت في ضبابٍ بعيد، بينما يبقى الشعب—على جراحه—الطرف الوحيد الذي ما يزال متمسكا بفكرة الوطن.
ورغم كل هذا فإن حضرموت لا تهزم. ليس لأن الريح رفيقة النخيل بل لأن في هذه الأرض رجالا يعرفون الفرق بين الجيش والمليشيا بين العلم والخرقة، بين حق يدافع عنه وواقع يفرض بقوة السلاح. يعرفون أن الليل مهما طال لا يغيب الفجر وأن العابرين مهما ثقل ظلهم لا يقيمون طويلاً في بيوت ليست لهم.
حضرموت.. بكل ثقلها التاريخي والأخلاقي قادرة على النهوض من تحت هذا الغبار ليس لتنتقم أو ترد الصفعة بمثلها بل لتصوب البوصلة من جديد. فالأوطان تشفى حين ينهض أهلها لا حين يتكئ المسؤولون على وهم القوة. وما دام في حضرموت من يحمل الأرض كما يحمل وجه أمه فلن تنكسر ولن تختزل ولن تتحول إلى ملحق في دفتر أحد.
هكذا ستبقى… نخلة تنظر إلى ذاتها في مرآة الريح شامخة بما يكفي لتقول: أنا هنا وهذا الوطن لي ولن يكون لغيري.