عزيزي القارئ الأصيل، قبل أن تتعجل بلومي!! هيا نستقرئ الوقائع والأحداث لنكتشف إجابة هذا السؤال. قد يبدو الأمر مثيرا للسخرية والسخط على السواء، لكنني أتحدث هنا من منظور العدو لا من منظوري الذاتي، فغزة بأهلها قبل مقاوميها تمثل غصّة حقيقية في حلق كل الطغاة على السواء، ولكننا يجب أن نفنّد الأمور واحدا واحدا.
إن القضية الفلسطينية قضية شعب قبل أن تكون قضية حزب أو حكومة، وقد مرت القضية الفلسطينية بمراحل تفاوتت فيها بين المرارة والأسى، والعزة والفخر؛ ولكن المنعطف الخطير كان في اتفاقية أوسلو التي مثلت الرّسنَ الذي قبلت به جماعة ياسر عرفات حينها ولفّته حول رقبة الشعب الفلسطيني -والقضية ذاتها بالضرورة- حتى اليوم، فأضحى دور السلطة الفلسطينية الدفاع عن المستوطنين الصهاينة والوقوف في وجه أصحاب الأرض الفعليين! في مشهد يبدو خياليا ولا يمت للواقع بصلة.
«في حالة الصراع العربي الإسرائيلي مثلا، وقفت الولايات المتحدة -وحدها عمليا- ولسنوات طويلة لمنع أي عمليّة سلمية تفي بالحقوق الوطنية الفلسطينية.. يكون الفلسطينيون «نفعيين» إن هم قبلوا بحقيقة أن الولايات المتحدة هي من يضع القواعد؛ ليس لهم حقوق وطنية؛ لأن هذا ما قضت به واشنطن، وعليهم أن يقبلوا «حكما ذاتيا على غرار معسكرات أسرى الحرب» كما وصفه الصحفي الإسرائيلي داني روبنشتاين، حكما ذاتيا يستطيعون في ظله «أن يجمعوا الزبالة» على الأراضي المخصصة لهم، والتي لم تستول عليها إسرائيل، «طالما لا تحوي الزبالة علب صفيح تحمل ألوان العلم الفلسطيني»، كما يضيف أحد أنصار الحريات المدنية البارزين في إسرائيل. أما تعبير «العملية السلمية» فهو واحد آخر من التعابير السياسية التي تشير إلى ما تفعله الولايات المتحدة مهما يكن، بما في ذلك منع السلمية ذاتها، كما في هذه الحالة وحالات كثيرة غيرها. من كتاب «سنة 501 الغزو مستمر»، لنعوم تشومسكي.
أهل غزة بشر كغيرهم، يشعرون بمآسي الاحتلال، وليس من الحق في شيء أن يظن أحد بأنهم سعداء بموتهم تحت ركام منازلهم أو بشظايا الاحتلال وقنابله الحارقة؛ ولكن هذا لا يعني أنهم يقبلون بالاحتلال أيضا ويداهنونه. فهم يتمنون أن تنتهي عملية الإبادة الممنهجة ضدهم، ويتمنون لو يُتاح لهم الهرب من هذا الجحيم؛ لكنهم لا يقبلون أن يكونوا ألعوبة بيد الاحتلال فيسلموه قادتهم أو يكونوا جواسيس عنده، فضلا عن عار الخيانة في الأساس، لا يمكن لأحد قُتِلَ أبواه أو إخوته أمام عينيه أن يمد يده لقاتلهم!. لماذا أتحدث عن هذه البديهيات؟ لأن هنالك أصواتا تطلب من أهل غزة أن لا يستسلموا وأن يصمدوا ويصبروا في وجه الإبادة، وهو طلب نبيل نعم؛ لكن معناه الضمني أنهم يجب أن ينتظروا الشهادة ولا يتمنوا انتهاء الحرب!. وهي حماقة حقيقية، فأهل غزة بشر عاديون طبيعيون يحبون الحياة ويقاتلون للبقاء على قيدها، ومن السهل بمكان أن يطلب إنسان متكئ على أريكته الوثيرة أو وهو يحتسي قهوته الفاخرة من الجائع الذي يتمنى أن يجد ورق الشجر ليأكله! من السهل أن يطلب منه الصبر، لكن لا يمكن لهذا السائل أن يتخيل نفسه في مكان الجائع الهارب من الموت والحر والجوع والعطش والكلاب الضالة؛ فما أسهل أن يخبرك أحدهم بما يجب أن تفعله وهو لا يستطيع مجرد تخيّل ما يحصل على أرض الواقع.
بفضل التكنولوجيا الحديثة والإعلام الحر، لم تعد الرواية الصحيحة هي ما تتناقله وسائل الإعلام، والتي لا تنطق إلا بما يفيد ممولها الرئيس؛ بل أضحت الحقيقة متاحة للجمهور من خلال الدفق المعلوماتي الحر؛ لأجل هذا كله، كانت الخسارة مضاعفة على الاحتلال وأبيه الروحي؛ فأن يندثر عمل عقود طويلة من الشر المطلق في استباحة الدماء والأراضي وترويج هذه الاستباحة برواية صهيونية تدّعي مظلومية الظالم في مواجهة وحشية «مغتصبي الأراضي، كارهي اليهود، الإرهابيين» -كما تروّج البروباغاندا الاستعمارية- لهي خسارة كبيرة. فكل المشروعات الاستيطانية تمتد قوتها واستمراريتها من شريان وسيط، لا من ذاتها؛ فكيف يستمر المشروع الاستيطاني بعدما تحولت غزة إلى فكرة تلهم شعوب العالم الراسنة تحت نير العبودية للقوى المتعطشة للدماء والثروات؟ فلم تعد لعبارات «نشر الديمقراطية» و«المُثُل العُليا» و«التقدم والحريات» معنى حين تتفوه بها دولة عظمى تصوّب سلاحها في وجه أمة من العالم الثالث أقصى ما يحلم به أهلها هو متنفس من الحياة الكريمة.
ومع الطفرة الهائلة في الإعلام الرقمي، أضحت شعوب العالم تدرك أن هنالك دولا متنمرة تستقوي على الضعيف لتبتز الجبناء، تماما كما يفعل المتنمرون في المدرسة؛ وأن دوام استنزاف الثروات لأجل هذا المتنمر الفاسد يكون بضعف المُتَنَمَّرِ عليه وجُبنه، رغم أن انفتاح العالم وتعدد الأقطاب فيه صار واقعا حقيقيا -وإن كان ربابنة السلاح- لا يروق لهم هذا الواقع الجديد، وفق المقاسات الإمبريالية لحرية التعبير والإرهاب الذي صار مرتبطا بكل ما هو عربي أولا، وإسلامي ثانيا؛ في تدليس واضح ومستمر لقافلة الأدلجة الواهية.
وإجابة عن سؤال لماذا لا يجب أن تنتصر غزة؟ كي لا تكون مثالا يُحتذى لشعوب العالم المظلومة والمنهوبة على السواء. وأينما أراد شعب أن يؤمِّمَ ثرواته؛ جاءت طائرات الـ F-16 وألقت عليه قنابلها الديمقراطية مبدئيا، قبل أن تطلق عليه غيرها من الأسلحة الأكثر فاعلية وأثرا لنشر الديمقراطية والحرية. و«القول بوجود ما هو أكثر من الصدفة في التلازم بين الاستقلال والتطور يأتي من النظر إلى أوروبا الغربية، حيث سلكت الأجزاء التي استُعمرت فيها دروبا أشبه ما تكون بدروب العالم الثالث. تقدّم إيرلندا مثالا بارزا على ذلك، فقد غُزيت أولا ثم مُنعت من التطور باستخدام مبادئ «التجارة الحرة» التي تطبق انتقائيا لتضمن تبعية الجنوب. يسمّونها اليوم «الإصلاحات الهيكلية»، و«الليبرالية الجديدة»، أو «مُثُلُنا النبيلة» التي -بكل تأكيد- نحن منها مُستَثنَون». ويُضيف تشومسكي في عالم ينادي بالمساواة، وحق الإنسان في الحياة الكريمة ؛ تتبّدى يوما بعد يوم بصورة أوضح أن هذه المُثُل حكرٌ على الدول الأوروبية وأمريكا، وأن بقية العالم ليست سوى مادة تنتفع بها هذه الدول -العظمى- وهو ما يذهب إليه تشومسكي -اليهودي الأمريكي - الذي نشر كتابه للمرة الأولى عام 1996م بقوله: «إن الدعم المقدم لمصر وإسرائيل وتركيا، وهي الدول الأكثر تلقيا للمعونة الأمريكية في السنوات الأخيرة، يجد دوافعه في الدور الذي تلعبه هذه الدول في المحافظة على الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط بما يملكه من احتياطات الطاقة الهائلة». وتدعو روسيا اليوم -بعد أن اكتوت بنيران الغرب- إلى عالم متعدد الأقطاب، وتحذّر من أن القطب الأوحد الذي يدين له الجميع بالانحناء وبكل شيء تقريبا، هو الدمار المحدق بالعالم؛ وهو أمر صحيح فعلا، لكن هل سيكون تعدد الأقطاب خيرا على العالم؟ أم سيستمر انتهاك القوي للضعيف رغم هذا التعدد؟.. لا أحد يعلم يقينا، لكنّ ما يتفق عليه الناس الطبيعيون -عدا السياسيين والمنتفعين اقتصاديا- أن ما يحدث من قتل وتجويع وتشريد في شتى أنحاء العالم، هو ظُلم لا يُطاق ولا ينبغي أن يكون بغضّ النظر عن دين وعِرق وجنس المقهورين في هذا العالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: یجب أن
إقرأ أيضاً:
لماذا فتح الرفاعي ملف الاستقلال الآن؟
صراحة نيوز ـ زيدون الحديد
فتح ملف الاستقلال بهذا العمق، ليس اجترارا للماضي، بل تحذير من المستقبل، وهي محاولة لإعادة هندسة النقاش الوطني ليبدأ من الثوابت لا من ردود الفعل، لأن الدولة التي تنسى من أين بدأت، غالبا ما تفقد قدرتها على أن تعرف إلى أين يجب أن تصل.
فحين يختار رئيس وزراء أسبق مثل سمير الرفاعي، وهو أحد الأسماء المحورية في مشهد الإصلاح السياسي، ويعيد فتح ملف الاستقلال كمستقبل وليس كماض، فإن ذلك لا يكون خطوة عابرة أو حديثا مناسبا، بل هو فعل سياسي محسوب، يأتي في لحظة حساسة، ويهدف إلى إعادة تنظيم الوعي الوطني في مواجهة ضغوط مركبة داخليا وخارجيا.
والملف الذي ظن كثيرون أنه اكتمل بسنوات التأسيس واحتفلنا به عقودا، يعود اليوم إلى واجهة النقاش لا بوصفه تاريخا، بل باعتباره قضية معاصرة تتعلق بمستقبل الدولة ومفهوم السيادة الوطنية في بيئة مضطربة اقليميا.
الرفاعي، الذي ارتبط اسمه بمسار التحديث السياسي منذ ترؤسه للجنة الملكية المعنية بتطوير المنظومة السياسية، يدرك تماما أن إعادة الحديث عن الاستقلال ليست تكرارا لخطاب تقليدي، بل إعادة تأكيد على أن الاستقلال السياسي لا ينفصل عن عمق الإصلاح الداخلي، فحين يصبح الأداء السياسي محط شك، والهوية الوطنية عرضة للتشكيك، والفضاء العام مليئا بالروايات المتناقضة، تبرز الحاجة إلى العودة إلى المفاهيم التأسيسية، لا كأيقونات محفوظة، بل كنقاط انطلاق جديدة، لان الاستقلال، في هذا السياق، ليس ذاكرة فقط، بل سؤال مطروح: إلى أي مدى ما يزال الأردنيون يشعرون بأنهم شركاء حقيقيون في الدولة المستقلة التي أنشأها آباؤهم؟
طرح الملف أيضا في هذا التوقيت يحمل رسالة واضحة، فالطرح يقترن أيضا بلحظة إقليمية ودولية مضطربة، تحاول فيها قوى كبرى إعادة تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة، ومن حول الأردن، تتداعى نماذج دول انهارت تحت وطأة الصراع الداخلي أو التدخل الخارجي، وتتفكك هويات وطنية لصالح انقسامات مذهبية أو إثنية أو سياسية، ففي هذه البيئة، يصبح التمسك بمفهوم الاستقلال فعلا دفاعيا في وجه التآكل البطيء للدولة الوطنية، وفرصة لإعادة التأكيد على تماسك الدولة الأردنية وسط عاصفة إقليمية لا تهدأ.
كما لا يمكننا إغفال مشهد منطق الهيمنة الجديد، ليس فقط عبر الحروب التقليدية، بل من خلال الضغوط الاقتصادية، والتحكم بالمساعدات، والتدخل في السياسات العامة للدول الصغيرة، ففي مثل هذا المناخ، تعود فكرة الاستقلال لتصبح أكثر من مجرد حدث تاريخي، بل إنها موقع أخلاقي وسياسي يجب الدفاع عنه، واستحضاره في النقاش العام، وربطه بكل خطوة إصلاحية يراد لها أن تكون جادة وليست تجميلية.
وهنا أقول انه يجب ان نرفض الاحتفال بروح المناسبة فقط، بل باستحضار مضامينها الحقيقية وربطها بواقع الدولة وتحدياتها المعاصرة وحمايتها من أن تكون طقسا بروتوكوليا مفرغا من المضمون، فالاستقلال ليس لحظة توقيع وثيقة، بل مشروع مقاومة للزمن، وتحول مستمر في العلاقة بين السلطة والمجتمع.
فلا تتركوا ملف الهوية الوطنية والاستقلال للروايات الخارجية أو للذاكرة الشعبية المنهكة، بل أعيدوا إنتاجه بروح العصر، واربطوه بالتحديات الحالية، وازرعوه في وجدان الأجيال الجديدة، فإن الأردن، الذي صمد سياسيا وأمنيا طوال قرن، قد لا يكون بمنأى عن التحديات التي أطاحت بغيره، إذا لم يستثمر في وعي أبنائه، للتمسك بهويتهم الوطنية