رغم مضي أكثر من سبعة عقود من النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي إلا أن دولة الاحتلال لم تستطع بعد أن تفهم معنى إيمان الشعوب بحقها في تحرير أوطانها من الاستعمار، وحقها في أن تعيش داخل أوطانها دون شريك محتل؛ لتستطيع أن تتذوق معنى الحرية والكرامة الحقيقة. لم تستطع إسرائيل رغم ما تدعيه من تقدم علمي ومعرفي ومن ديمقراطية أن تفهم أن المقاومة فكرة، والأفكار لا تموت أبدا.
كانت إسرائيل تُعوّل كثيرا على فكرة مفادها أن موت جيل النكبة سينهي القضية الفلسطينية ويفكك المقاومة ويحول الفلسطينيين إلى مشردين في أصقاع العالم يبحثون عن قوت يومهم وعن استقرار في المجتمعات التي هاجروا لها خاصة وأن فلسفة الاحتلال الإسرائيلي تقوم على فكرة الإحلال، إحلال اليهود محل الشعب الأصلي في أرض فلسطين دون أي رغبة أو توجه في تطبيق نظام الاستعمار الاستعبادي الذي كان شائعا عبر التاريخ، ولذلك فإن فكرة التهجير هي أحد أهم مرتكزات الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ البداية عمدت إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات لكسر المقاومة وتصفية قادتها ظنا منها أن ذلك من شأنه أن ينهي النضال ويغلق طريقه. ولذلك اغتالت المئات من القياديين البارزين والأسماء التي خلدت ذكرها أمثال: غسان كنفاني ووائل زعيتر ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان وخليل وزير أبو جهاد وصلاح خلف ويحيى عياش وعماد أبو ستيته ومحمود أبو هنود والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي ومحمود المبحوح، وياسر عرفات نفسه أيقونة النضال والمقاومة في التاريخ الفلسطيني.. إلخ. وأمس اغتالت يد الغدر الغاشمة إسماعيل هنية رغم أنه كان طرفا مهما في المفاوضات من أجل وقف الحرب وعودة الرهائن.
رحل كل هؤلاء، وآلاف غيرهم، اغتيالا بيد الكيان الصهيوني الملطخة بالدماء لكن أفكارهم لم ترحل، والمقاومة لن تنتهي بل على العكس إنها تزداد بأسا وشدة؛ فالمقاومة زمن أبو جهاد ليست كما هي اليوم في زمن السنوار حيث اشتد بأسها وتطورت أدواتها، وكل شهيد يسقط من المقاومة يضيف ندوبا جديدة في الجسد الفلسطيني ومع كل ندبة تزداد الرغبة في الانتقام ويزداد الإصرار على الاستقلال. يقول غسان كنفاني «تسقط الأجساد، لا الفكرة»، وهذه هي الحقيقة التي نستطيع قراءتها بسهولة في سياق النضال الفلسطيني المستمر.
ورغم المكانة الكبيرة للراحل إسماعيل هنية وفجيعة اغتياله التي هزت العالم إلا أنه واحد من جنود المقاومة الذين اختاروا قدرهم، ووهبوا حياتهم من أجل قضيتهم العادلة. كان الشهيد مقاوما شرسا حتى وإن اختار السياسة طريقا للنضال.. والفلسطيني رغم أنه صاحب الأرض وصاحب الحق التاريخي إلا أنه أكثر رغبة في السلام والحوار من المحتل رغم إيمان الأخير أنه محتل وليس صاحب حق تاريخي منذ المقولة المشفرة التاريخية «العروس جميلة جدا.. ولكنها متزوجة فعلا».
من الواضح الآن أن دولة الاحتلال ستعود إلى سياسة الاغتيالات بوصفها اختيارا استراتيجيا لهذه المرحلة، وهذا يمكن فهمه بسهولة مما حدث أمس على سبيل المثال حيث بدأت باغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم اغتيال إسماعيل هنية رغم أنه كان في وسط طهران، ثم اغتالت إسماعيل الغول مراسل قناة الجزيرة والمصور رامي الريفي بصاروخ موجه ضرب السيارة التي كانت تقلهما.
تُوصل إسرائيل رسالة للعالم أنها غير معنية بكل القوانين والأنظمة وأنها فوق القانون وقادرة على اغتيال من تريد في الوقت الذي تريد. ومع الأسف الشديد تلقى دعما واضحا من بعض الدول الغربية، دون أن تعي إسرائيل وحلفاؤها الغرب في المقام الأول أن هذه الأفعال تقوض النظام العالمي وتقوض قواعده، وهذا مع الوقت من شأنه أن ينهي إسرائيل نفسها ويقوضها إلى الأبد، فهي لا تستطيع البقاء دون دولة كبرى تحميها، والدول التي تحميها تستمد قوتها من النظام العالمي الذي تهيمن عليه.
يبقى السؤال المهم الآن هل ما زال هناك من العرب أو الغرب من يعتقد أن إسرائيل يمكن أن تنظر إلى خيار «السلام» الذي تحدث عنه العالم أكثر من أربعة عقود منذ توقيع «كامب ديفيد»، أو حتى حلم «حل الدولتين» الذي أفرزته اتفاقية أوسلو.. أم أن الصورة الذهنية الجديدة التي نرى تجلياتها في هذه اللحظة ولا نستعيدها أو نجترها من التاريخ قادرة على أن ترينا الصورة الحقيقية لإسرائيل، وتجعلنا قادرين على أن نفهم هذا المحتل على حقيقته وبالتالي نبني توقعاتنا وخياراتنا بشكل صحيح بعيدا عن الأوهام والخيالات السطحية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عن اغتيال "سعد".. خبير أمني لـ"صفا": "إسرائيل" تحاول تطبيق نظرية "جز العشب" بغزة لمنع نمو المقاومة
غزة - خاص صفا
لا تبدو المبررات التي ساقها الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال القائد البارز في كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة "حماس"، رائد سعد، منطقية، كما الكثير من السياسات العدوانية التي ينتهجها ضد الفلسطينيين، ولاسيما خلال عامي الإبادة الجماعية في قطاع غزة؛ فأهدافها تتعدى مزاعم "الرد" إلى محاولة "جز العُشب".
واغتالت "إسرائيل" أمس السبت، القيادي سعد وثلاثة من القادة الميدانيين والمقاتلين في "القسام"، باستهداف مركبة قرب شاطئ بحر غزة، في عملية مفاجئة زعمت لاحقًا أنها "رد" على إصابة جنديين إسرائيليين بتفجير عبوة ناسفة جنوبي القطاع.
لكن الأمر يبعد كثيرًا عن خرق اتفاق وقف إطلاق النار، فـ"إسرائيل" تحاول أن تصل بطريقة معينة لأهدافها، قبل أن يتم الدخول بالمرحلة الثانية "التي تشكل ضررًا لها"، حسب خبير في الشأن الأمني والمقاومة.
استباق مرحلة "الضرر"
ويقول الخبير لوكالة "صفا"، "نحن في المرحلة الأولى من الاتفاق وهذه المرحلة دقيقة، خاصة في ظل الحديث عن قرب الدخول في الثانية، وهو ما تحاول إسرائيل، أن تصل قبله بطريقة ما لأهدافها حسب معادلات معينة".
ويوضح أن "إسرائيل"، تنفذ نظرية "جز العشب"، وهي معادلة موجودة في العقلية العسكرية والأمنية الإسرائيلية، ضمن منهجية تسير عليها، بالإضافة إلى أن هذه الطريقة هي من دروس "7 أكتوبر".
ويشير إلى أن "إسرائيل" لم تتمكن من تحقيق كل أهدافها في القضاء على المقاومة خلال حرب الإبادة، وبالتالي فإن المرحلة الثانية ستشكل ضررًا عليها، ما لم تذهب لاستهداف بعض الشخصيات.
ويضيف "إسرائيل وضعت أهدافها في القضاء على المقاومة وضرب الإدارة السلطوية لحماس، وهي بذلك تذهب لضرب العاملين في الأجهزة الحكومية والأمنية وقيادات المقاومة في غزة"، مشيرًا إلى اغتيال ضابط الأمن الداخلي "أحمد زمزم" في المحافظة الوسطى صباح اليوم.
ويلفت إلى أن "إسرائيل تريد إحداث ضغط نفسي على المجتمع وصناعة إرباك وفوضى، لأن حالة الاستقرار التي نجحت الأجهزة بغزة في تثبيتها غير مريحة للاحتلال".
ولذلك، فإن "إسرائيل" تحاول بناء معادلات أمنية جديدة، تسمح لها بحرية الحركة في غزة، وتمنع نمو المقاومة وتأخير حالة الضبط والاستقرار التي ظهرت واضحة في المرحلة الأولى، كما يجزم الخبير الأمني.
مرحلة مُخاض ستجتازها
ويشدد على أن "إسرائيل تستخدم أدوات مختلفة في ضرب الأمن بغزة، بين الاغتيال الجوي والعمليات الأمنية الخاصة عبر عملاء لها".
ويفسر ذلك بأنها "لا تريد أن تظهر بأنها تُمعن في انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار".
ويستطرد "هذه المسألة -عمليات الاغتيال عبر العملاء- يمكن للمقاومة أن تقضي عليها وتحبطها عبر الاستفادة من الدروس، خاصة وأن لها تجارب سابقة في التغلب عليها".
"بمعنى آخر الساحة في غزة مفتوحة ما بين الاستهداف العلني وبين العمليات السرية، وهذا قد يأخذ وقتًا ليس بالقليل إلى أن تتمكن المقاومة من إيجاد حلول وتثبيت معادلات في الميدان، كما جرى عامي 2004 وأواخر 2005"، كما يضيف الخبير الأمني.
وإزاء ذلك، فإن الأهم من وجهة نظر الخبير، أن المجتمع الفلسطيني بغزة هو حاضن للمقاومة، ويعمل على حماية أبنائها، مضيفًا أن شعبنا أثبت تعاونه في كل محطات المقاومة السابقة.
ويشدد على أن المطلوب في الوقت الراهن على المستوى الشعبي والأمني "الوعي وأخذ الحيطة وعدم الارتكان أو الاستهتار، لأن العدو لا ينام، ويُريد أن يُحدث معادلات ويخشى أن يخسر هذه المعركة".