جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-21@07:05:07 GMT

الفقر

تاريخ النشر: 4th, August 2024 GMT

 

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

لا يُوجد إنسان لا يعرفه، وقد تعمَّدتُ هنا النفي مع اللا الثانية؛ حيث نفي النفي إثبات، فليس من الصعب إثباتُ الفقر وليس من السهل نفيه، فهو يتلخص في الحاجة وقلة المال وهو اصطلاح يُعبِّر أيضًا عن عدم وجود مصدر دخلٍ دائمٍ وثابت يوازي الحد الأدنى من الإنفاق نتيجة شُح الموارد، كما قد يشمل المجتمع من حيثُ انعدام الخدمات الأساسيةِ كالصحةِ والتعليم، وقد يُطلق الفقر أحيانًا على الأخلاق والمشاعر والأحاسيس إذا انعدمت وإن توفر المال، ولكنه مبحث طويل يتطلب الكثير من الشرح والتفصيل نصرف عنه صفحًا في مقالنا هذا، ونكتفي بالفقر المعلوم لدى عامة النَّاس في إطلاقه العام مع أنه مجهولٌ في كيانه الخاص ومجرد، إلا أنه محسوس مُشَّخص في وجودهِ وملموسة نتائجه، ويوجد دائمًا حيثما وجد الإنسان وأخص بالذكر هنا الفقر المادي وليس المعنوي.

من لم يختبِر الفقر ولم يعرفُه إلا من خلال المُشاهدة أو القراءة فهو إنسان استثنائي لن يفهم عمقهُ البعيد ولن يقتنصَ ذِهنه معانيه وإن نطق بمفهومهِ في حديثٍ أو كتابة، وشتان بين من أورده في حسنِ قولٍ وبيان خِطابة وبين من عضَّه الفقر بأنيابه وأطبق عليه إطنابه، وهما نوعان من الناس لا ولن يتفقان، لأنَّ الموضوع ليس مجرد آراء تحتمل الاختلاف والاتفاق وتستدعي تقريب وجهات النظر، ولايريد الفقير الجائع مواعظ فضائل الفقر التي يُحدثه بها الغني بعد الشِبع بقدر مايُريد أن يوفر عليه كل تلك النصائح الدنيوية والأخروية مقابل كسرة خبز يُسكت بها غائلته.

إنَّ للفقر كيانًا ثقيلًا يجوس خلال الديار عندما تتسع الهوة بين نُخبةٍ عليمةٍ تمكنت من الإطباق على صناعة القرار، وتحويل الموارد لتُشبع بها بطونها وتُتخم بها جيوبها وبين إهمال شريحةٍ عظمى هي المحرك الأصلي لتلك الموارد، ثم الاطمئنان بأن تلك الشريحة قد حُسم أمرها وأُسقط في يدها بالرضوخ للأمر الواقع ولن تكون قادرةً على إحداث أي تغيير لوهنها وضعفها، فهي ستبقى ساعيةً ما بقيت تحت وطأة الحاجة لكسبِ رزقها وتكتنِفُها الفاقة ويحدوها الخوف من القوانين التي قد تقضي على البقية الباقية من كرامة روحها المتمسكة بالرمقِ الأخير من أجسادها الواهنة، وإن الفقر ليس خطأ الفقير بل هو خطيئة السياسات في إدارة الموارد والنظام الاجتماعي.

تُعد الأمانة والنزاهة والذمة وغيرها من مبادئ القيم العليا، رموزًا صلبةً وقوية تضعها كل المجتمعات على رأس بقائها واستمرارها، ولكن سيصيبها النخر من الداخل وتصبح هشة وضعيفة مقابل آفة الفقر ولن تقوى تلك المُثل والقيم على الصمود طويلًا في وجههِ، وسوف تتهاوى تدريجيًا بعد فترة قصيرة من الزمن عندما يشعر الإنسان بعدم قدرته على توفير العيش الكريم لنفسهِ وأهله، وربما يسلُك كُل مسلكٍ مُحرمٍ وممنوع أو يتخذ أي طريقةٍ وأسلوب عند انقطاع السُبل، فقد يقبل الكذب والرشوة والغش والتزوير على نفسه وربما يذهب إلى أبعد من ذلك بالنصب والسرقة وخيانة الأمانة، ويقول رسولنا الكريم: "أيما أهل عرصةٍ أصبحوا وفيهم امرؤ جائع فقد برأت منهم ذمة الله".

للفقرِ وجهان لا يقل أحدهما عن الآخر قتامةً وكآبة، فقد يكون الوجه الأول من مُمكِّنات ثورة الشعوب والتي تنفجر في لحظةٍ ما عندما تُدرك بوعيها تأثير الفقر وبالطبع هو ليس ناتج عن الظلم نفسه وإنما عن تسلط الإحساس الدائم بالظلم وإن ثورات الفقراء في ذاكرة التاريخ الإنساني كثيرة، كما قد يكون الوجه الآخر سببًا في استقرار الشعوب بحيث تستمر استكانتهم بمقدار ضغط الأنظمة عليهم وبذلك يكونون تحت طائلة الالتهاء بالسعي وراء لقمتهم وأدنى مقومات الحياة الكريمة، وبالتالي لا يقدرون على التفكير في أمور أخرى كالرفاهية والكماليات مع مواصلة الساسة حقنهم بمسكنات الوعود طويلة الأمد، وقد كان هذا التوجه ناجحًا حتى مرحلةِ ما يُسمى بـ"الربيع العربي".

مُحاربة الفقر ومكافحته بتجفيف منابعه هو ما سيجنب الفرد والمجتمع الوقوع في وهدةِ المحرمات وهوة المخالفات، إذ إن استحكام قبضة الفقر على المرء قد يسوقه في مرحلةٍ ما إلى بيع قيمةٍ أخلاقية ثمينة لطالما كان مُتمسكًا بها لفترةٍ طويلة بدافع الصبر والأمل، أو قد تدفع به دفعًا إلى الخيانة والتمرد على خوفه مهما بلغت قوة الرقابة وقوانين الجزاء والعِقاب مع اضمحلال عمق القِيم وأخلاقياتها بمقدار تمدد الفقر في بسط ردائه، وطبعًا مع استثناء فئةٍ قليلةٍ لا تجري عليها مُجريات العامة في الصبر والقناعةِ وقوة التحمل ويقين الأمل بالتغيير وهي الفئة التي تخاف الله وتُسَّلم كُل أمرها إليه وهنا مبحث آخر في إرادة التغيير والسعي والقضاء والقدر نرجئ الحديث عنه إلى مقام آخر.

لا يُنكر أحدنا اليوم طغيان المال والمادة على مفاصل الحياة وعقول الأحياء، وبتنا نرى نماذج وفئات تُمنطق بعض طرق وأساليب الكسب المشوبة بشيءٍ من الشك في حلها أو الشُبهةِ في صحتها من حيث الشرعية والقانونية أو الامتهان الشخصي بإهمال أهمية القيم الأصيلة التي يتمسك بها المجتمع المسلم تحت هُراء الذرائع والمسميات كالعادات البالية والأساليب المتخلفة والأعراف الرجعية والعيب لا يؤكل عيش، وغيرها وهي مدخلاتٍ يُحاول المتخفف منها ومن قيمهِ وقيمته الأصيلة تبرير مسلكهِ وإقناع عقله وعقول الآخرين وإن لم يكن مقتنعًا بها في قرارة نفسه ولكن الحاجة للمال مَعقلت له تلك السلوكيات التي كانت منبوذة ومرذولة حتى وقت قريب، وقد قيل قديمًا: المال يستُر رذيلة الأغنياء والفقر يُغطي فضيلة الفقراء.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ما حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك؟.. الإفتاء تجيب

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك؟ فبعض الناس يطلبون المساعدة بـ"استلاف" بعض المال على سبيل القرض، وأعطيها لهم مع كُرْهي لذلك حتى لا أحرجهم بالرَّفض، فهل يقدح ذلك في صحة عقد القرض؟". 

وردت دار الإفتاء موضحة: أن إقراض المال للناس مِن أقرب القُرُبات، والأصل فيه أن يكون عن تراضٍ لا سيما وأنَّه من عقود التبرعات، وإن شَابَهُ شيءٌ من كراهة باطنة فلا تُؤثِّر في صحة العقد ما دام تَمَّ بإيجابٍ وقبولٍ.

القرض من أعظم القربات إلى الله تعالى

القرض مِن الأمور المندوب إليها لما يرمي إليه من تنفيس الكُرُبات وإقالة العثرات وإعانة المحتاج والرِّفْق به والإحسان إليه دون نفعٍ يبتغيه الـمُقرض أو مقابلٍ يعود عليه؛ ولذا يضاعف الله به الأجر والثواب، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 11].

وهو ما نَصَّت عليه السُّنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» أخرجه الإمام مسلم.

دعاء فك الكرب الشديد.. 4 كلمات تقي من المصائبدعاء قبل الفجر مستجاب.. 4 كلمات تجعل ذنوبك تتساقط كأوراق الشجر

حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك
الأصل الذي تُبنَى عليه العقود المالية من المعاملات الجارية بين العباد هو أن تكون عن طِيْب نَفْسٍ وتراضٍ مِن كلا الطرفين، لا سيما عقد القرض؛ لأنه مِن عقود الإرفاق والتبرعات، فعن أبي حُرَّة الرَّقَاشِيِّ، عن عمِّه رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى".

قال المُلَّا عليٌّ القَارِي في "مرقاة المفاتيح" (7/ 1974، ط. دار الفكر): [«إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ» أي: بأمرٍ أو رضا منه] اهـ. ولما كانت حقيقة الرضا -المدلول عليه في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].- أمرًا خفيًّا وضميرًا قلبيًّا اقتضت الحكمة رد الخلق إلى مرد كلي وضابطٍ جلي يُستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول الدالان على رضا العاقدين، كما أفاده الإمام شهاب الدِّين الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 143، ط. مؤسسة الرسالة)، والإمام صفي الدِّين الهندي في "نهاية الوصول في دراية الأصول" (2/ 314-315، ط. المكتبة التجارية).

والإيجاب والقبول هو التعبير الشرعي الظاهر عما في القلب من اتفاق على العقد، فكل ما دلَّ على الإيجاب والقبول فهو كافٍ في انعقاده، ومن ثمَّ فلا يؤثر كُرهُهُ الباطن في صحة العقد؛ لأن من قواعد الإسلام الثابتة أن الحكم في دار الدنيا إنما هو باعتبار الظاهر، وأما باعتبار البواطن والسِّرِّ فأمر ذلك ليس إلى الخلق؛ إذ حسابهم -أي: حساب بواطنهم وسرائرهم- على الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو المطَّلِعُ وحده على ما فيها.

وروى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ».

ومعنى ذلك أنَّه أُمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتفي بظواهر أحوال المسلمين ولم يؤمر بالبحث عن أحوالهم والاطلاع على ما هو مطوي عنه في قرائر نفوسهم؛ لأن الناس لهم الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. كما أفاده الإمام النووي في "شرح النووي على مسلم" (7/ 163، ط. دار إحياء التراث العربي)، والأمير الصنعاني في "التنوير" (4/ 219، ط. مكتبة دار السلام).

نصيحة لمن يقرض المال للناس على كُرْهٍ
فعلك هذا وإيثارك للناس على نفسك لجبر خواطرهم وإن كان عملًا عظيمًا تُثاب عليه بإذن الله تعالى، لكن الأجمل والأكمل أن تُجاهد قلبك ليكون باطنك راضيًا موافقًا لجميل فعلك، فتجمع بين فضل العطاء وصدق النية والفرح بالطاعة، وذلك بأن تُذَكِّر نفسك دائمًا بفضل هذا العمل وأجره عند الله، حتى لا يدخل قلبك الضيق من عمل صالح تُؤجر عليه.

الخلاصة
إقراض المال للناس مِن أقرب القُرُبات، والأصل فيه أن يكون عن تراضٍ لا سيما وأنَّه من عقود التبرعات، وإن شَابَهُ شيءٌ من كراهة باطنة فلا تُؤثِّر في صحة العقد ما دام تَمَّ بإيجابٍ وقبولٍ.

طباعة شارك حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم القرض إقراض المال

مقالات مشابهة

  • ارتفاع معدل البطالة في غزَّة إلى 80% جراء العدوان الصهيوني
  • حكم إقراض المال مع الكراهية.. مفتي الجمهورية يجيب
  • ما حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك؟.. الإفتاء تجيب
  • بعد عامين من العدوان قطاع غزة يغرق في الفقر والبطالة.. تقرير لإكسترا نيوز
  • الدول الأكثر فقرا على مستوى العالم (إنفوغراف)
  • ناشطة: أغلب الأسر في تركيا لا تستطيع توفير الإفطار!
  • خلال ثلاثين عاما… إلى أين وصل مستوى الفقر بالأردن؟
  • 90% من السوريين تحت خط الفقر.. وبرامج دولية لإعادة بناء سوق العمل
  • منظمة سام تحذر: ملايين اليمنيين يواجهون أزمة إنسانية حادة في 2025
  • تقرير أوروبي يكشف: أكثر من أربعة ملايين إسباني يعيشون بأقل من 644 يورو شهريًا