منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حدث تغير ديمغرافي ملموس في العراق، سواء كان نتيجة عرضية للصراعات الطائفية والعسكرية، أو بكونه مشروعا مدروسا ومخططا له.

وفي ورقة بحثية أعدها لمركز الجزيرة للدراسات، يتناول الباحث رائد الحامد ما سماها "معركة الديمغرافيا وتغيير التركيبة السكانية في العراق" خلال العشرين سنة الماضية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2بداية خطة ترامب.. سلام مرتقب أم تسوية مؤقتة؟list 2 of 2تقاسم "الكعكة" مع روسيا.. لماذا تعزز واشنطن أسطولها من كاسحات الجليد؟end of list

وتطرح الورقة إشكالية التغيير في مناطق عدة من العراق وتركز على مناطق "حزام بغداد" ومحافظات نينوى وصلاح الدين وديالى متجاوزة التفسيرات الظرفية المرتبطة بمكافحة الإرهاب أو المخاوف الأمنية.

ووفق الباحث، فقد تم تنفيذ هذا المشروع على مرحلتين:

الأولى: منذ الغزو الأميركي عام 2003.

والثانية: بدأت مع مرحلة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة من محافظات غرب وشمال غربي العراق في عام 2014.

تتحدث الورقة عن سياسة ممنهجة تقوم على "التهجير القسري" والهجرة الطوعية والإقصاء المكاني، لإحلال مجموعات سكانية من طائفة أو عرق آخر.

و"خلال سنوات طويلة نفّذت الفصائل المسلحة التي نشأت بعد الغزو الأميركي عام 2003، أو بعد هجوم تنظيم الدولة عام 2014، عمليات تهجير واسعة للسكان العرب السنّة من مناطق حيوية مثل جنوب بغداد وديالى وصلاح الدين ونينوى".

وعلى الرغم من أن موقف الحكومات العراقية المعلن يهدف إلى تسهيل عودة النازحين، إلا أن الواقع على الأرض يظهر تناقضا كبيرا حيث تظل مناطق رئيسية مغلقة أمام سكانها الأصليين وتُظهر سلطة الدولة ضعفا في مواجهة نفوذ القوى غير الحكومية.

ويجزم الباحث الحامد بأن عمليات التهجير القسري في العراق لم تكن وليدة لحظة سيطرة تنظيم الدولة على الموصل عام 2014، بل كانت لها جذور تعود إلى مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي عام 2003.

رسم ملامح المشهد الأمني والسياسي

يقول الباحث إنه في الفترة ما بين عامي 2003 و2011، شهد العراق تشكّل ونمو فصائل مسلحة أدت دورا محوريا في رسم ملامح المشهد الأمني والسياسي.

إعلان

لاحقا أصبحت هذه الفصائل مثل المحرك الأساسي لعمليات التهجير الممنهج في مناطق معينة.

وأدى العنف الطائفي -الذي اندلع بين عامي 2006 و2008 وصعود تنظيم الدولة عام 2014- إلى إحداث تغييرات حقيقية في توزع السكان على مستوى المحافظات.

ووفقا لتقارير رسمية بلغت نسبة التغير في حجم سكان العراق على مستوى المحافظات قرابة 8 ملايين نسمة خلال الفترة المذكورة.

ولم يكن النزوح مجرد فرار من القتال بل كان جزءا من عملية أكثر تعقيدا تم فيها إجبار أعداد كبيرة من السكان على ترك منازلهم وممتلكاتهم.

مناطق ذات أهمية جيوسياسية

هذه التحولات أثّرت بشكل خاص على مناطق ذات أهمية جيوسياسية في محافظات جنوب بغداد وديالى وصلاح الدين ونينوى لتغيير دائم في التركيبة السكانية.

وقد بلغ عدد النازحين خلال الحرب الطائفية (2006-2008) حوالي 2.7 مليون نازح، وفق تقديرات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، في حين تتحدث مصادر متطابقة عن نحو 35 ألف شخص قُتلوا خلال عام 2006 وحده.

لقد فرّ السُنة من المناطق ذات الأغلبية الشيعية، وفرّ الشيعة من المناطق ذات الأغلبية السنية ما أدى إلى غياب إمكانية التعايش الاجتماعي في العديد من المناطق، ورسخ منطق الفصل بين المكونات على أساس طائفي أداة لتحقيق الأمن.

ولعبت الفصائل المسلحة ذات الأجندات الطائفية دورا محوريا في عمليات التهجير، فمن جهة، نفذت جماعات مسلحة سُنية مثل تنظيم القاعدة حملات لتهجير الشيعة من مناطق معينة.

وفي المقابل، قامت جماعات شيعية مسلحة، كان في مقدمتها جيش المهدي، بعمليات تهجير منظمة للسنة من الأحياء المختلطة في بغداد والمناطق المحيطة بها بهدف "تأمين" العاصمة من الهجمات التي كانت تشنها الجماعات السنية المسلحة.

الحشد الشعبي والولاء لإيران

انتهت المرحلة السابقة بانسحاب القوات الأميركية في نهاية عام 2011.

لكن هذا الانسحاب لم يكن بداية لتحول إيجابي، حيث عملت حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على تهميش العرب السنة وتعزيز دور ونفوذ الفصائل المسلحة.

وبعد 2014 وبروز تنظيم الدولة تشكلت هيئة الحشد الشعبي وانطوت تحت لوائها فصائل شيعية عديدة مثل منظمة بدر وكتائب حزب الله العراقي و"عصائب أهل الحق"، وغيرها، علما أن بعض هذه الفصائل توالي إيران بشكل علني كمنظمة بدر.

تقول الورقة البحثية إن التهجير استهدف مناطق محددة في "حزام بغداد" مثل: أبو غريب، والمحمودية واليوسفية وجرف الصخر شمال بابل، ويثرب والعوجة في محافظة صلاح الدين، ومدن عدة في محافظة ديالى.

وفي محافظة صلاح الدين، تكرر منع عودة جميع أو نسبة من السكان إلى مناطقهم الأصلية في مناطق مثل يثرب، وعزيز بلد، والعوجة، وذراع دجلة؛ حيث لا يزال آلاف النازحين ممنوعين من العودة رغم مرور أكثر من 8 سنوات على إعلان تحرير هذه المناطق من سيطرة تنظيم الدولة.

آليات تهجير جديدة

وفي المرحلة التالية لمرحلة التهجير القسري، انتقلت آليات التغيير من استخدام القوة المسلحة أحيانا وفرض السيطرة، إلى منع العودة بشكل دائم واستغلال المناطق عسكريا واقتصاديا من خلال المنع الدائم للعودة أو شراء العقارات والأراضي الزراعية من مالكيها الأصليين في المناطق المستهدفة.

إعلان

من بين هذه الآليات أيضا نهب المنازل ثم تدميرها بالعبوات الناسفة كما في محافظتي صلاح الدين وديالى من قبل فصائل في الحشد الشعبي إبان القتال مع تنظيم الدولة.

ومن أوجه التهجير كذلك -بحسب الباحث- الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي، سواء عبر فسخ العقود الزراعية أو عبر الضغط والابتزاز أو إصدار قرارات إخلاء بحجج أمنية أو اعتقالات تعسفية لأبناء هذه المناطق وتهديدهم بالسجن بتهمة الإرهاب، ثم تُقتلع الأشجار، وتطمر الأنهر، لتغيير طبيعة الأرض وجعلها قابلة للتقسيم وكذلك تحويل طبيعتها من زراعية إلى مدنية فتتحول إلى أراض أو مجمعات سكنية تقضي على هوية المنطقة.

وأحيانا تجري عمليات توزيع الأراضي أو تباع لمنتسبين ينتمون إلى فصائل مسلحة، أو إلى مستثمرين تابعين لتلك الجهات.

الحكومات العراقية.. تصريحات يكذّبها الواقع

على المستوى الرسمي، تُظهر الحكومة جهودا لتشجيع العودة الطوعية للنازحين؛ حيث أعلنت وزارة الهجرة والمهجّرين عن عودة مئات العائلات إلى مناطقها في صلاح الدين وتوزيع منح مالية للعائلات العائدة.

وشكلت الحكومة الاتحادية، في 7 سبتمبر/أيلول 2025، لجنة برئاسة هيئة الحشد الشعبي ستتولى، بمشاركة 9 جهات رسمية، مهمة إعادة سكان العوجة إلى منازلهم.

لكن الواقع الميداني يعكس صورة مختلفة عما تعلنه الحكومة العراقية. فبينما يتم تشجيع العودة في مناطق معينة تظل مناطق رئيسية مثل جرف الصخر ويثرب والعوجة مغلقة أمام سكانها الأصليين.

ويرى الحامد أن التناقض الأبرز يكمن في اعتماد الحكومة على الفصائل المسلحة لضمان عودة النازحين. فهذا التنسيق يوضح أن قرار العودة ليس بيد الحكومة المركزية وحدها، بل هو رهين بموافقة هذه الفصائل.

استنتاج الباحث:

1- مشروع طائفي

إن التغيير في التركيبة السكانية لم يكن مجرد نتيجة عرضية للعنف الطائفي، بل هو مشروع مُخطط له ومُدار، استهدف إعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية والسياسية للبلاد على أسس طائفية.

وقد تم تنفيذ هذا المشروع عبر مرحلتين: الأولى من 2003 حتى 2011، والثانية ما بعد 2014.

2- الفاعلون.. حلفاء إيران

إن فصائل مسلحة مُحددة داخل المؤسسة الأمنية الرسمية أو المتحالفة مع إيران: منظمة بدر وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، هي القوة التي تقف خلف هذه العمليات في مناطق حيوية في حزام بغداد ومدن جرف الصخر شمال محافظة بابل، ويثرب والعوجة في محافظة صلاح الدين.

3- تناقض السياسة الحكومية

حقيقة التناقض بين السياسة الحكومية المعلنة لتشجيع عودة النازحين والواقع الميداني؛ حيث تظل مناطق رئيسية مغلقة أمام سكانها الأصليين بقرار من قادة الفصائل؛ مما يكشف عن ضعف سلطة الدولة المركزية ورهن قرار العودة بموافقة القوى غير الحكومية، كما أن آليات التغيير انتقلت إلى منع العودة الدائم، والاستيلاء على الأراضي، وتدمير المنازل، لتثبيت الإحلال السكاني بشكل نهائي ما يُمثل تحديا وجوديا لوحدة المجتمع العراقي ولسيادة الدولة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات دراسات الترکیبة السکانیة الفصائل المسلحة تنظیم الدولة الحشد الشعبی صلاح الدین مناطق ذات فی محافظة فی مناطق عام 2014 عام 2003

إقرأ أيضاً:

مدنيون: تقسيم نينوى يهدد وحدة العراق ويشعل الصراعات

مدنيون: تقسيم نينوى يهدد وحدة العراق ويشعل الصراعات

مقالات مشابهة

  • من الخيام: عزّ الدين يؤكد ثبات المقاومة
  • برلماني: كلمة الرئيس السيسي خارطة وعي وطني تعيد روح أكتوبر في معركة البناء
  • معركة وجود.. برلمانى: الرئيس كشف تكبد مصر 100 مليار جنيه لتطهير أرضها من قوى الشر
  • مستقبل وطن: مصر تخوض معركة وعي لا تقل أهمية عن التنمية والبناء
  • نادي القضاة يهنئ المستشار عصام الدين فريد بمناسبة اختياره رئيسًا لمجلس الشيوخ
  • برلماني: تصريحات الرئيس بالندوة التثقيفية تجسد حقيقة تضحيات المصريين في معركة بناء الدولة
  • مدنيون: تقسيم نينوى يهدد وحدة العراق ويشعل الصراعات
  • وكالة بريطانية: الحوثي يحكم اليمن باسم الدين ويغذّي حروبه بأموال الإغاثة
  • “الغارديان”: مشروع قرار بمجلس الأمن بدعم أوروبي أمريكي لمنح قوة الاستقرار في غزة صلاحيات واسعة