في عام 1781، بدأ الأطباء اليابانيون في منطقة أوساكا بتأسيس عيادة للعلاج بالمستحضرات العشبية المستمدة من الطب التقليدي، وسرعان ما اكتسبت هذه العيادة التي أُطلق عليها اسم «تاكيدا» قبولا مجتمعيا؛ فقد أسهمت في علاج عدد من الأمراض المستعصية آنذاك، ومع الوقت تطورت «تاكيدا» حتى أصبحت بشكلها الحالي كمؤسسة علمية وابتكارية رائدة في إحداث الفرق الإيجابي في المجتمع بفضل التكنولوجيا التخصصية في العلاجات المشتقة من البلازما وعلوم الأورام، وعلم الأعصاب، وكذلك اللقاحات، وفي الوقت ذاته اشتهرت مؤسسة «تاكيدا» للبحث والتطوير الطبي بالحس العالي للمسؤولية المجتمعية من حيث تعزيز قيم الشراكة، ونقل المعرفة، ونشر التوعية، وذلك عبر برامج المسؤولية الاجتماعية داخل اليابان، وكذلك على المستوى العالمي وبالتعاون مع المنظمات الدولية كأحد أفضل النماذج العالمية في تسخير العلوم والتكنولوجيا لأجل معالجة المتطلبات المجتمعية بشكل مستدام ومبتكر، إذ تكمن المعادلة الصعبة دائما في المواءمة بين الابتكارات التكنولوجية والاستثمار في المسؤولية المجتمعية، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما هي الأبعاد الحقيقية للمسؤولية المجتمعية لشركات التكنولوجيا ومؤسسات البحث والتطوير؟

في البدء لا بد من الإشارة إلى أن شركات ومؤسسات القطاعات الاقتصادية الكبرى في جميع دول العالم قد قطعت شوطا كبيرا في الالتزام بالمسؤولية المجتمعية، والتي تشمل قطاعات النفط والطاقة، والاتصالات، والإنتاج الغذائي، والصيدلة والعقاقير، وفي المقابل هناك العديد من الأمثلة على مشروعات التطوير التكنولوجي الممولة من القطاعات الإنتاجية من بند المسؤولية المجتمعية، والتي حققت نجاحات كبيرة، ونتجت عنها ابتكارات تكنولوجية ذات تطبيقات تجارية واسعة، وهنا منشأ التحدي، فوحدات البحث والتطوير والابتكار في الأصل هي جهات مستفيدة من المسؤولية المجتمعية، وفي الوقت ذاته هي مطالبة بتحقيق الكفاءة في تطوير وتكامل المعرفة المتعلقة بالبحث والتطوير مع المسؤولية الاجتماعية، وبذلك تواجه شركات التكنولوجيا خيارات صعبة فيما يتصل بتخصيص مواردها لهذين المجالين معا بسبب تحديات التمويل، فعملية التطوير التكنولوجي تتطلب وجود الموارد المستدامة لدعم كافة المراحل التطويرية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسؤولية الاجتماعية لشركات التكنولوجيا ووحدات البحث والتطوير هو مفهوم جديد كليا على القطاعات العلمية والمعرفية، وهو كذلك مختلف عن الفهم المتعارف للمسؤولية الاجتماعية للشركات الإنتاجية التي غالبا ما تتخصص في جوانب بيئية، أو في التنمية الاجتماعية للمجتمعات المحلية التي تقوم فيها منشآت المشروعات التابعة لها، ولا يمكن استنساخ هذه التجارب وتكراراها مع الشركات الابتكارية.

تعالوا نعود إلى منشأ المسؤولية المجتمعية، نجدها تتعلق بشكل أساسي بمحور إبراز التكامل والشراكة مع جميع أصحاب المصلحة، مما يعني بأن الاستثمار في المسؤولية الاجتماعية هو التزام طويل الأمد يحقق للمؤسسات المانحة للدعم الكثير من العوائد المعنوية مثل قيم الثقة والشراكة التكاملية، وفي الواقع تحتاج شركات الابتكار لهذه القيم لتعزز سعيها في تطوير المعرفة الجديدة، وتنفيذ الابتكارات التكنولوجية، وعلى سبيل المثال، غالبا ما تحتاج شركات الأدوية والعقاقير إلى إظهار هذه المسؤولية لكسب الثقة والتقبل المجتمعي على غرار ما تقوم به مؤسسة «تاكيدا» للبحث والتطوير الطبي، وإذا أخذنا في الحسبان بأن متطلبات التمويل لدعم البحث والتطوير المكثف هي التي تتصدر الأولويات فإن هذه المؤسسات ليست مضطرة إلى خفض مسؤوليتها الاجتماعية بسبب الحاجة لتركيز إنفاقها إلى تطوير المنتجات والخدمات الابتكارية، فكل ما عليها فعله هو البحث عن مسارات ابتكارية للالتزام بالمسؤولية المجتمعية بشكل غير مادي وغير ملموس، وذلك من خلال إتاحة التدريب، وتبادل الخبرة والمعرفة والتقنيات الموجهة لتحقيق أهداف اقتصادية ومجتمعية معا، وبذلك يمكن تخطي التحدي الأساسي المتمثل في العلاقة المعقدة بين التطوير التكنولوجي والمسؤولية المجتمعية، وبأن كلا النشاطين يتنافسان أيضا على الموارد، والاهتمام من قبل الشركاء وأصحاب المصلحة.

وهذا يقودنا إلى المسألة الجوهرية في المسؤولية المجتمعية لشركات التكنولوجيا ووحدات البحث والتطوير وغيرها من المؤسسات المنتجة للمعرفة، فهل تُعد هذه المؤسسات مطالبة بالالتزام بالمسؤولية المجتمعية في الوقت الذي تقوم فيه بإنتاج المعرفة والابتكارات التي تعالج التحديات المجتمعية؟ وإذا تعمقنا في الأبعاد الإيجابية للابتكارات نجد بأن الجهات المنتجة للمعرفة في الواقع تقدم مدخلات للقطاعات الإنتاجية والصناعية الكبرى، وبذلك فإن المؤسسات المعرفية تسهم في المسؤولية الاجتماعية عبر مسارات عديدة وغير تقليدية، مما يستوجب التركيز على استكشاف التآزر والتكامل بين إنتاج المعرفة، وأنشطة البحث والتطوير، والمسؤولية الاجتماعية، فبيئات الصناعة في أمس الحاجة للمعرفة المتجددة لضمان مواكبة المستجدات العلمية والتكنولوجية، وكذلك لتعزيز الميزة التنافسية واستدامة أنشطتها الإنتاجية، وبقائها في عالم الأعمال، والذي بدوره يعزز استمرارها في المسؤولية المجتمعية، وبمعنى أدق فإن أنشطة البحث والتطوير والابتكار هي عوامل مساهمة وليست عائقا أمام المسؤولية الاجتماعية.

إن الديناميكيات المعقدة بين المؤسسات المنتجة للمعرفة والابتكارات التكنولوجية ومدى التزامها بالمسؤولية الاجتماعية بمفهومها التقليدي تستدعيان إعادة التفكير في الافتراض السائد بأن المسؤولية الاجتماعية هي ممارسة عامة وموحدة، وبأن المؤسسات إما أن تكون مسؤولة أو غير مسؤولة، فالصورة النمطية تضيق نطاق المسؤولية على التمويل المالي في حين يمكن خلق التآزر عبر ابتكار مسارات أخرى للإسهام الإيجابي، فالقيمة المعرفية والضمنية للابتكارات هي بمثابة مدخلات للقطاعات الإنتاجية والصناعية، وبالتالي يمكنها خلق القيمة الإستراتيجية للعمليات الأساسية في هذه القطاعات الحيوية، ولا يقتصر الأمر في إنتاج المعرفة أو التقنيات الداعمة للإنتاج، ولكنه يشمل كذلك الموارد المعرفية الحاسمة وغير القابلة للتداول المباشر مثل الخبرات التقنية التخصصية، والتي يمكنها أن تعزز العمليات ذات الأهمية مثل اتخاذ القرارات الكبرى المصيرية أو ذات المخاطر العالية، ولذلك أصبح لزاما الخروج من الفهم المحدود للمسؤولية المجتمعية، والسعي نحو فتح آفاق رحبة لإسهامات نوعية من شركات التكنولوجيا ووحدات البحث والتطوير، والمبادرة إلى تعزيز التخصصية في المسؤولية المجتمعية، وتعظيم الاستفادة من القيمة المعرفية من خلال منظور إستراتيجي متعدد الأبعاد وطويل الأمد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی المسؤولیة المجتمعیة المسؤولیة الاجتماعیة شرکات التکنولوجیا البحث والتطویر

إقرأ أيضاً:

محافظ الغربية يشهد الملتقى التوظيفي والمعرض الثالث لجامعة سمنود التكنولوجية

شهد اللواء أشرف الجندي، محافظ الغربية، يرافقه الدكتور منتصر دويدار رئيس جامعة سمنود التكنولوجية، افتتاح الملتقى التوظيفي والمعرض الثالث لمشروعات التخرج بجامعة سمنود التكنولوجية، وذلك بحضور العميد أركان حرب وائل فتحي المستشار العسكري للمحافظة وعدد من القيادات التنفيذية والأكاديمية، وممثلي عدد من كبرى المصانع والمؤسسات الإنتاجية والصناعية بالمحافظة.

وهنأ الجندي الحضور بمناسبة العام الهجري الجديد، والذكرى العزيزة لثورة 30 يونيو، مؤكدًا أن مثل هذه المناسبات تمثل دافعًا قويًا لمواصلة العمل والإنتاج، واستلهام روح التحدي في بناء المستقبل.

وأكد الجندي أن التعليم الفني والتكنولوجي لم يعد خيارًا بديلًا، بل أصبح ضرورة قومية وركيزة رئيسية لتحقيق التنمية الصناعية، مشيرًا إلى أن محافظة الغربية تولي هذا القطاع اهتمامًا بالغًا، وتعمل على دعم كل مبادرة تربط التعليم بسوق العمل، وتخدم أهداف التنمية المستدامة.

وأشار الجندي إلى أن جامعة سمنود التكنولوجية تمثل نموذجًا مشرفًا للتعليم العصري القائم على المهارة والتخصص، حيث بدأت الدراسة بها بكلية تكنولوجيا الصناعة والطاقة في العام الدراسي 2022/2023، وتضم مبانٍ تعليمية متطورة، وورش ومعامل على أعلى مستوى، إلى جانب ملاعب وخدمات طلابية، ما يجعلها بيئة مثالية للتعلم والتدريب.

وأوضح المحافظ أن الجامعة تقدم برامج متخصصة في مجالات حيوية تخدم الاقتصاد الوطني، أبرزها تكنولوجيا التصنيع الغذائي، وتشغيل وصيانة ماكينات الغزل والنسيج، وتكنولوجيا الملابس الجاهزة، وهي تخصصات تلبي احتياجات السوق المحلي وتدعم الطابع الصناعي لمحافظة الغربية.

وخلال تفقده لمعرض مشروعات التخرج، أشاد اللواء الجندي بما لمسه من فكر مبتكر وجهد علمي يعكس وعي الشباب بدورهم في تطوير الصناعة الوطنية، مؤكدًا أن المحافظة تدعم مثل هذه المشروعات التي تخرج من قلب الجامعة إلى قلب المصنع، وتفتح آفاقًا جديدة لريادة الأعمال والابتكار.

وأضاف الجندي أن المحافظة حريصة على خلق بيئة تعليمية محفزة على الإبداع، وتعمل على تعزيز أوجه التعاون مع الجامعات التكنولوجية والمؤسسات البحثية، لتكون مخرجات التعليم الفني داعمًا حقيقيًا للنهضة الصناعية، من خلال تأهيل كوادر شابة تمتلك العلم والخبرة والمهنية.

وأكد المحافظ أن أبواب المحافظة مفتوحة أمام الجامعة وشبابها، مشددًا على تقديم كل الدعم والتسهيلات لتعزيز الشراكة بينها وبين المصانع والشركات العاملة داخل نطاق المحافظة، بما يحقق أقصى استفادة من الكوادر المؤهلة، ويسهم في تحقيق رؤية مصر 2030.

وفي ختام فعاليات الملتقى، قام الدكتور منتصر دويدار، رئيس جامعة سمنود التكنولوجية، بتكريم اللواء أشرف الجندي محافظ الغربية، وقدم له درع الجامعة تقديرًا لدعمه المتواصل للجامعة واهتمامه الصادق بتطوير التعليم الفني، وتعزيز التكامل بين مؤسسات التعليم وسوق العمل.

مقالات مشابهة

  • جامعة جازان تحصل على منحة بحثية من هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار
  • محافظ الغربية يشهد الملتقى التوظيفي والمعرض الثالث لجامعة سمنود التكنولوجية
  • مصر في قلب المعرفة.. 11 عاما من التحول نحو دولة منتجة للابتكار والبحث العلمي
  • جمعية المسؤولية الاجتماعية بجدة تُدشّن مشروع “المباني المستدامة”
  • "الغرفة" تستكشف أحدث الابتكارات والحلول بقطاع الإنشاءات في ندوة حول مستقبل القطاع
  • تدشين مركز «كرايونز» للتعليم المبكر في ند الشبا
  • أبرزها المدارس التكنولوجية.. تعرف على بدائل الثانوية العامة 2025
  • صقر غباش: الحكمة والمسؤولية تقتضيان معالجة القضايا في المنطقة عبر التفاوض
  • وزير الإنتاج الحربي: الكفاءات البشرية تُمثل حجر الزاوية في عمليات الإنتاج والتطوير المستدام
  • هيئة الأسرى: 500 أسيرة/ة حُرموا من زيارة المحامين ونُحمّل الاحتلال المسؤولية