لجريدة عمان:
2025-08-02@21:47:48 GMT

هل انتهى التاريخ عند الليبرالية الديمقراطية ؟!

تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT

بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي في مقدمتها، التي كانت تتبنى النظام الشمولي من خلال الحزب الواحد، ومركزية القرار السياسي والاقتصادي الموحد من خلال هذا الحزب، دون وجود تعددية من أحزاب أخرى مثلما هو في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية، وفي عام 1991 حصل بما يشبهه البعض بالانقلاب الداخلي السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفييتي التي قام بها الرئيس السوفييتي الأسبق ـ آنذاك ـ « ميخائيل جورباتشوف»، والتي كان هدفها الاصلاحات الداخلية للنظام الاشتراكي المتراجع في بنيته الاقتصادية والعسكرية عن المعسكر الليبرالي المنافس له.

لكن هذه الإصلاحات التي سميّت بـ(بيريسترويكا)، كانت نذير شؤم للنظام السوفييتي كله، الذي كان يعيش أزمات سكونية داخلية متراكمة خاصة في أوضاعه الاقتصادية والسياسية، وجموده السياسي على النظرية الماركسية/ اللينينية، ما عجّل بسقوط رأس النظام الاتحاد السوفييتي، ثم تتابع سقوط دول المعسكر الاشتراكي أيضا التي كانت تطبق النظام الشمولي نفسه، المنضوية في حلف «وارسو» الذي يتزعمه الاتحاد السوفييتي نفسه، وكذلك انهارت الحرب الباردة التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي استغلت من قبل المعسكرين المتنافسين، لإثارة الحروب والصراعات بين الدول الصغيرة، التي تنتمي لهذين المعسكرين بين الكتلة الغربية والكتلة الشرقية، حيث يتم بيع السلاح لهذه الدول -دول العالم الثالث كما يسمّى- ومع ذلك فإن هذه الدول الكبرى خسرت كثيرًا من سباق التسلح في الحرب الباردة، وخاصة الاتحاد السوفييتي، ما أدى إلى انهياره مع المعسكر الذي ينتمي إليه كما أشرنا آنفًا.

وهلل نسور الرأسمالية الليبرالية بهذا السقوط الكبير لهذا المعسكر، واعتبر ذلك انتصارا لليبرالية الديمقراطية في الغرب الرأسمالي والسوق الحرة، وأن التنافس انتهى عند هذه الفلسفة الليبرالية الديمقراطية كما قالوا، وأن التاريخ توقف عند هذه النظرية.

وأصدر المفكر الأمريكي الياباني في عام 1992 «فرانسيس فوكوياما» أطروحته الشهيرة (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، والتي تحولت إلى كتاب بعد ذلك، واعتبر في هذه الأطروحة أن انهيار النموذج الاشتراكي في المعسكر الشرقي الشمولي، هو انتصار للفلسفة الرأسمالية الديمقراطية الغربية، بالتالي نهاية النهايات لكل فكر منافس لهذه الفلسفة الليبرالية، ولكل فكر مغاير ومختلف عن النظام، وبعدها سيتم إغلاق التاريخ تماما، ولا شيء بعد ذلك سيستمر غير هذا النموذج الذي هو الخلاص النهائي لكل الأمم والشعوب والحضارات، وبحسب تعبير فوكوياما، الذي قال في هذه الأطروحة ما خلاصته: «الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي للتطور البشري الإيديولوجي للإنسانية، وهي نهاية التاريخ لكل النظم والفلسفات والأيديولوجيات، ولن يكون هناك نقيض خارج النظام الرأسمالي بفلسفته الليبرالية، بعد سقوط النظم الفاشية والاشتراكية». لكن البروفيسور «صموئيل هنتجتون» صاحب نظرية: (صراع الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي) المثيرة للجدل، انتقد زميله في أطروحته (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، قال ما خلاصته: الصراع المقبل سيكون صراع حضارات، وتنبأ أن القوى الصاعدة التي ستشكل خطرًا على الغرب ستكون من التحالف بين الحضارة الإسلامية والكونفوشية الصينية!

وهذا معناه -كما يعبر هنتجتون- أن التاريخ لن يتوقف عند الديمقراطية الليبرالية بل سيبدأ من جديد في صراع آخر ليس أيديولوجيا هذه المرة كما كان سابقا، بل سيكون بين حضارات وهويات وثقافات.

وقد ناقشت في كتابي (الإسلام والغرب)، تلك النظريات والفلسفات المتناقضة باستفاضة، وخاصة نظرية «صدام الحضارات» و«نظرية نهاية التاريخ»، ويرى «هنتنجتون» أن رؤية نهاية التاريخ تعني الخمول والسكون لدى الغرب، وهذا قد لا يفيده مستقبلاً قوة عسكرية وتكنولوجية، فقد تتغير الحضارات وتحقق لها قوة صناعية وعسكرية، وتكنولوجية، لذلك فإن مقولة صراع الحضارات والخطر القادم ضرورية للاستعداد للنزال مع القوى الصاعدة، ولابد من الاستعداد لعدو، حتى ولو نخترعه من جانبنا، لكن نهاية التاريخ تعني تخديرا للغرب، وسكونا لحركته وتفوقه، وأن سقوط الخطر الأحمر لا يعني انتهاء كل شيء، ويرى «هنتنجتون» أن الخطر الأخضر الإسلامي ربما سيكون هو البديل المقبل بعد سقوط الخطر الأحمر بسبب صعوده وانتشاره، وسيكون المواجه للحضارة الغربية بالتحالف الحضارة الكونفوشية الصينية كما أشرنا. فالغرب لا يريد أن يتنازل عن مكانته وتفوقه وريادته، وبالتالي فإن الافتراضات التي وضعها «هنتنجتون» ليست صحيحة من الناحية

التحليلية الاستقرائية للواقع والتاريخ بل إن ما قاله هو إعادة «شحن بطارية» الغرب الروحية التي بدأت في النفاد كما يعتقد البعض، ولذلك فإن مقولات «الصدام المقبل» قد تعني أن شيئا ما ينتظره وما إذا كان باستطاعة الغرب أن يقود الحضارة في القرن القادم أم لا؟ وهذا أيضًا يقود إلى افتراضين:

الأول: مراكز القرار فوجئت بصدور الكتاب الذي أصدره فرانسيس فوكوياما (نهاية

التاريخ وخاتمة البشر) الذي قال فيه ما خلاصته أن النظام الليبرالي هو أقصى ما

يمكن أن يبلغه المجتمع السياسي.. فالديمقراطية الليبرالية انتصرت ولن ننتظر

الجديد بعد الآن، فهذا القول وإن كان يدعو إلى الفخر والزهو ببلوغ النظام الرأسمالي الحر انتصاره في الحرب الباردة بعد انهيار الماركسية إلا أن هذا الطرح قد لا يفرح مؤسسات صناعة القرار في الغرب التي يهمها افتعال الصراع وافتراض الصدام القادم وهذا ما أتت به أطروحة «صدام الحضارات» للبروفيسور هنتنجتون في 1993م.

ثانيا: أن يكون التخوف الغربي في محله، والسبب أن تصاعد بعض الحضارات تقنيًا وثقافيًا ربما يعني أن الغرب سيتراجع عن الصدارة والمكانة الدولية وهذا نذير غير سار للحضارة الغربية التي تعاني في الأساس من التراجع الروحي والأخلاقي.

والحقيقة أن مقولة (نهاية التاريخ)، ليست جديدة، فقد سبق وأن تحدث عن نهاية التاريخ «فريدريك هيجل» في بعض مؤلفاته وقبل ذلك في بعض محاضراته، وهو أحد الممثلين للفلسفة المثالية المعاصرة في الغرب الليبرالي، فبعد قيام الثورة الفرنسية، وحروب «نابليون» في أوروبا وخارجها، وخاصة انتصاره في حربه مع بروسيا، «اعتبر فريدريك هيغل» إن انتصارات نابليون، هو نهاية التاريخ لقيم الليبرالية وفلسفة الحرية، وقيام الدولة الليبرالية المنتصرة، التي لا محيد عنها لفرض قوتها وإنهاء التناقضات في النظام الرأسمالي. وأيضًا استعار «كارل ماركس» من هيجل الحتمية الجدلية، وإنهاء التناقض في المجتمع في النظام الجديد الذي أقامه لينين بعد الثورة البلشفية عام 1917، والتي سينتهي تعطيل التاريخ، وقيام المرحلة الأخيرة من الصيرورة التاريخية، بانتهاء الطبقية وانتهاء الدولة والوصول إلى المرحلة الشيوعية وهي نهاية التاريخ عند هذا النظام الشيوعي. وفرانسيس وفوكوياما أيضًا أخذ من النظرية الهيجلية نهاية التاريخ، واعتبر أن الصراع بين الليبرالية والماركسية انتهى بانتصار الرأسمالية الديمقراطية، لكن ما جرى للمعسكر من انهيار، ليس بسبب الصراع بين النموذجين الليبرالي والشيوعي، ولا بسبب سباق التسلح بين المعسكرين، كما الذي يحلو للبعض تفسير هذا السقوط المفاجئ للنظام الاشتراكي.

ويرى البعض أن الأمر يتعلق بالفكرة الاشتراكية وتطبيقاتها الداخلية، وغياب الحريات العامة وغياب التعددية السياسية والفكرية التي حددت بالنموذج الواحد لحد الجمود، أحد أهم أسباب الانهيار إلى جانب سباق التسلح مع الغرب خاصة الولايات المتحدة في المراحل السياسية.

كما أن مقولة نهاية التاريخ مقولة هلامية، وليست مقولة علمية رصينة وواقعية، والفكرة الموضوعية الأمينة، كما يقول د. مصطفى محمود: «لا تقول بأكثر من الترجيح والاحتمال، فالقوانين الإحصائية كلها قوانين احتمالية وكلها ترجيحات لا ترتفع للمستوى أو على الأصح إلى مرتبة الحتمية أو الإطلاق، ثم أن الإنسانيات لا تجوز فيها الحتمية لأن الناس ليسوا كرات (بلياردو)، تتحرك بقوانين فيزيائية، لكنهم مجموعة ارادات حرة تدخل في علاقات معقدة يستحيل فيها التنبؤ من خلال قوانين مادية». وهذا ما وقع فيه فوكوياما. وقد تراجع فوكوياما في بعض كتاباته ومقالاته في مناسبات عدة في السنوات الماضية، عن تراجعه عن هذه الاطروحة عند الليبرالية الديمقراطية كحتمية تاريخية، بصورة قاطعة، لكنه لا يريد أن يعلن فشل هذه الفكرة الهلامية التي قالها في أواخر القرن الماضي، لكنه يريد أن يقصيها دون أن يناقشها مرة أخرى، لاعتبارات كثيرة منها أنه يريد أن يطرح مفاهيم جديدة تقول: « فكرة نهاية التاريخ لنظرية معينة غير محسومة أو نهائية، لكنها مراحل تجري لتبرز حضارة أو ثقافة في بعض حقب التاريخ وتتراجع في محطات معينة». وهذه هي مقولة العلامة ابن خلدون عن صعود وسقوط الحضارات، وتلك فكرة مقبولة ومعقولة تجهض أطروحة مقولة نهاية التاريخ من أساسها، وهذا ما عبر عنه في مقالته من أنه ليس مع القول بالمطلق، بأن «الدولة ومن أجل أن تنمو، لا بد أن تكون ديمقراطية، لأنه وقبل أن تحصل على ديمقراطية لا بد لك أن تحصل على حكومة ودولة قائمة يكون بوسعهما تقديم الأمن والأساس الاقتصادي لشعبها»، وذلك بالالتزام بالفلسفة الليبرالية دون غيرها من الفلسفات والهويات الأخرى، وهذه آراء جاءت نتيجة انتقادات ونقاشات وكذلك الواقع في أحداث كثيرة، لم تكن الليبرالية هي التي تحظى بالقبول في الكثير من الدول خاصة في رؤاها الطائشة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللیبرالیة الدیمقراطیة نهایة التاریخ یرید أن فی بعض

إقرأ أيضاً:

من نقد التاريخ إلى نقد اللاهوت.. صادق جلال العظم وتفكيك العقل الديني

في عمق الجنوب السوري، حيث تمتزج الحجارة السوداء بعبق الزعتر البري، وحيث تتحد جبال السويداء الشامخة بسهول الجولان السليبة، تولد التعبيرات الأولى للإنسان عن ذاته: أنغام شجية، وكلمات مقتضبة، لكنها مشبعة بالحضور والذاكرة. هناك، لا يُغنّى الناس للترف، بل لأن الغناء امتداد للوجود، ومرآة لعلاقة متجذّرة بين الإنسان ومحيطه، بين العشق والمقاومة، بين الغياب والصمود.

في السويداء والجولان، لم تفلح آلة الاحتلال ولا حملات التهويد ولا سياسات الاقتلاع في طمس ملامح الهوية. بقيت الأصالة عصيّة، تُصاغ في الحكايات الشعبية، في الأهازيج، في أسماء الأماكن، وفي الأناشيد التي تعبر الأجيال كما تعبر الجبال. نمطٌ من التعبير الشفهي الشعبي، يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه يخفي في جوهره هندسة كاملة لهوية متماسكة، تنبني على الكرامة، والانتماء، والمقاومة اليومية للنسيان.

هذه الأصالة ليست حنينًا متجمّدًا للماضي، بل طاقة ثقافية حية، تمنح المجتمع مناعة في وجه التفكك، وقدرة على التماسك في وجه الاحتلال والاقتلاع الرمزي. ففي زمن تتكالب فيه محاولات طمس الذاكرة وتزييف التاريخ، تبقى تلك التعبيرات الشعبية بمثابة صمّام أمان، تردّ الروح للجماعة، وتؤكد أن الانتماء ليس شعارًا، بل ممارسة يومية، وصوت، وحركة، ومخيال جماعي.

من هنا، فإن الحديث عن الأصالة في الجنوب السوري، في السويداء والجولان، ليس استدعاءً عاطفيًا لزمن مضى، بل قراءة في كيفيات البقاء، ومقاومة الذوبان، وصنع المعنى في مواجهة قوى تسعى إلى محو الإنسان من جغرافيته وتاريخه. الأصالة هنا ليست ما تبقى، بل ما يجعل البقاء ممكنًا.

إذا كان هشام جعيّط قد دشّن مسارًا نقديًا جديدًا في الفكر العربي المعاصر من خلال مساءلة الجذور التاريخية للسلطة السياسية في الإسلام، وتحليل الكيفية التي تم فيها تبرير الحكم وتوطيده عبر التحالف مع المرجعيات الدينية، فإن صادق جلال العظم يُمثّل استئنافًا حادًا لهذا المسار، ولكن من زاوية مغايرة: زاوية تفكيك البنية اللاهوتية التي تشكّل عقلنا الجمعي وتعيد إنتاج الخضوع باسم المقدّس.ومن رحم هذه الأرض التي تنحت هويتها بالصبر والمقاومة، لم يخرج فقط المزارعون والمغنّون والشهداء، بل خرج منها أيضًا المفكرون والمجددون، أولئك الذين حملوا ترابها في لغتهم، وهمّها في أفكارهم، حتى وإن اشتبكوا معها نقدًا وتشريحًا. فالأصالة هنا لا تُعادِل الجمود، ولا تُخاصم السؤال، بل تتسع لجدلٍ حيّ بين الموروث والتحوّل، بين الوفاء للمكان، وضرورة مساءلته.

وفي هذا السياق، يبرز اسم صادق جلال العظم، أحد أبرز المفكرين السوريين في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي عُرف بجرأته في نقد التراث والدين والمؤسسة، دون أن ينفصل يومًا عن انتمائه العميق لهذه الأرض. فرغم ما اتسمت به طروحاته من حدّة نقدية وشجاعة فكرية، ظل العظم، في جوهر مشروعه، ابنًا لهذه التربة الثقافية السورية الخصبة، التي لا تكفّ عن إنتاج المعنى، ولا تتردد في إعادة النظر في ذاتها.

من جعيط إلى جلال العظم

إذا كان هشام جعيّط قد دشّن مسارًا نقديًا جديدًا في الفكر العربي المعاصر من خلال مساءلة الجذور التاريخية للسلطة السياسية في الإسلام، وتحليل الكيفية التي تم فيها تبرير الحكم وتوطيده عبر التحالف مع المرجعيات الدينية، فإن صادق جلال العظم يُمثّل استئنافًا حادًا لهذا المسار، ولكن من زاوية مغايرة: زاوية تفكيك البنية اللاهوتية التي تشكّل عقلنا الجمعي وتعيد إنتاج الخضوع باسم المقدّس.

فبينما اشتغل جعيّط على تفكيك لحظة التأسيس السياسي في الإسلام من الداخل، بوصفها لحظة فاصلة بين الرسالة والسلطة، اختار العظم أن ينقّب في طبقات الوعي الراهن، حيث تستمر أنماط التفكير اللاهوتي في تشكيل علاقتنا بالعالم، وفي إنتاج خطاب يغلّف السلطوي والمألوف بثوب المقدّس، مانعًا مساءلته أو زحزحته. بهذا المعنى، لا يقف العظم خارج أسئلة الأصالة أو الهوية، بل يعيد توجيهها نحو تحرير العقل من بنياته الخاضعة، وفتح أفق نقدي جديد في التعامل مع الموروث.

في مشروع العظم، تنتقل المعركة من ميدان التاريخ إلى ميدان الفكر الديني نفسه؛ حيث تتداخل مفاهيم التقديس، الإيمان، السلطة، والخرافة ضمن نسيجٍ متين من ما يسميه بـ"العقل غير النقدي". فالعظم لا يكتفي بالتاريخ كأداة تفكيك، بل يرى أن نقد البنية اللاهوتية للعقل الإسلامي التقليدي هو الشرط الأول لتحرير الذات من الاستبداد، سواء كان سياسيًا أو معرفيًا.

لقد كان انخراط العظم في جدل الحداثة استجابةً لمأزق حضاري حادّ: انغلاق الفكر الديني وعجزه عن إنتاج مفاهيم حية ومتحررة قادرة على ملامسة الواقع وتحولاته. وإذا كان جعيّط قد فكّك "الفتنة الكبرى" بوصفها لحظة انبثاق للاستبداد السياسي، فإن العظم يتجاوز هذه اللحظة ليقرأ في العقل الديني ذاته البنية الحاضنة لهذا الاستبداد، والمانعة لأي نهضة عقلانية حقيقية.

من هنا، لا يبدو الانتقال من جعيّط إلى العظم قفزة بين مفكرَين، بل تحوّلًا في زاوية الهجوم على نفس البنية المتحجرة: تحالف السلطة مع المعنى، والنص مع التأويل، والتراث مع المؤسسة. وبين التاريخ والدين، تتشكّل خيوط تيار نقدي جذري، يسعى هذا البحث إلى تتبّع معالمه وتأكيد ضرورته كأفقٍ للتحرر الفكري في زمن عربي مأزوم.

نقد الفكر الديني بوصفه شرطًا للتحرر

أولًا ـ العقل الديني كعائق للنهضة

في حين أن "الفتنة" لدى هشام جعيّط تمثل لحظة انكسار سياسي ـ ديني، فإن صادق جلال العظم يذهب أبعد: يرى أن الاستبداد العربي ليس مجرد حادثة سياسية، بل بنية فكرية ممتدة، تستند إلى منظومة لاهوتية ترسّخ الخضوع وتمنح الطاعة طابعًا مقدسًا.

في كتابه المفصلي نقد الفكر الديني (1969)، يضع العظم يده على جوهر المعضلة: الهيمنة اللاهوتية على العقل، من خلال تجريم السؤال، تقديس النقل، وتحويل النصوص إلى مرجع نهائي لا يقبل المراجعة. هذا التقديس، بحسب العظم، لا يقتل الإبداع فحسب، بل يمنع نشوء أي حداثة عربية، لأن الحداثة تبدأ من الشك، لا من الامتثال.

ثانيًا ـ تفكيك الخطاب الديني بوصفه بنية سلطة

يعتمد العظم مقاربة عقلانية تحليلية تُفكك الخطاب الديني التقليدي بوصفه بنية لغوية ومعرفية تُنتج السلطة لا الحقيقة. وينظر إلى البنى المضمرة في الممارسة الدينية، والتي تعيد إنتاج التسلط باسم الإيمان، بوصفها أداة أيديولوجية بيد الأنظمة.

لقد كان انخراط العظم في جدل الحداثة استجابةً لمأزق حضاري حادّ: انغلاق الفكر الديني وعجزه عن إنتاج مفاهيم حية ومتحررة قادرة على ملامسة الواقع وتحولاته. وإذا كان جعيّط قد فكّك "الفتنة الكبرى" بوصفها لحظة انبثاق للاستبداد السياسي، فإن العظم يتجاوز هذه اللحظة ليقرأ في العقل الديني ذاته البنية الحاضنة لهذا الاستبداد، والمانعة لأي نهضة عقلانية حقيقية.يفرّق العظم بوضوح بين الدين كإيمان فردي والفكر الديني كمؤسسة، مؤكدًا أن انتقاده موجّه للثاني. يرى أن الفكر الديني المحافظ لم يعد قادرًا على ملامسة الواقع، بل صار يشتغل كجهاز دفاعي ضد التغيير، والعقل، والحرية.

ثالثًا ـ الكتاب في لحظة ما بعد النكسة

صدر نقد الفكر الديني عقب نكسة 1967، لحظة الانكسار الجماعي في الوعي العربي. في هذا السياق، لم يقدّم العظم تحليلاً للنكسة من زاوية سياسية، بل من زاوية معرفية وثقافية: الهزيمة، في جوهرها، هزيمة عقل، ومخيلة، ونمط تفكير مغلق.

بهذا المعنى، كان الكتاب صرخة فكرية في وجه خطاب قومي مأزوم، وسرديات دينية تُنتج الإيمان لكنها تقتل العقل.

رابعًا ـ العقلانية الجذرية: لا إصلاح، بل قطيعة

يرفض العظم مشاريع الإصلاح الديني التي حاولت التوفيق بين النص والعصر (كأمثال عبده وعبد الرازق). بالنسبة له، التحرر لا يتم عبر التأويل، بل عبر القطيعة. فالحداثة ليست مظهرًا، بل موقف إبستمولوجي يقوم على نزع القداسة عن النصوص والتاريخ، ونقل مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى الواقع.

خامسًا ـ العلمانية كتحرير للعقل

ليست العلمانية عند العظم فصلًا بين الدين والدولة فحسب، بل تحريرًا للعقل من أسر المقدّس. وهي تبدأ، لا من الإصلاح الدستوري، بل من نقد البديهيات التي تحكم الحس العام، ومن تقييد السلطة الرمزية للمؤسسة الدينية في المجال العام.

بهذا المعنى، تلتقي أطروحة العظم مع مشروع جعيّط، مع فارق أن العظم لا يكتفي برفض التداخل السياسي مع الدين، بل ينزع الشرعية المعرفية عن الفكر الديني المحافظ نفسه.

سادسًا ـ التلقي والجدل

أثار نقد الفكر الديني جدلًا واسعًا. تعرّض العظم للملاحقة والمحاكمة، وواجه اتهامات بـ"عداء الدين"، وهو ما أنكره بشدة، مؤكدًا أن نقده موجّه للفكر، لا للإيمان.

من أبرز الانتقادات التي وُجّهت إليه:

ـ اعتماده على أدوات نقدية غربية دون مراعاة للخصوصيات الثقافية؛

ـ إغفال البعد الأنثروبولوجي الشعبي في الممارسة الدينية؛

ـ التركيز على الفكر السني دون توسّع في نقد التصوف أو الفكر الشيعي.

ومع ذلك، يبقى العظم رائدًا أساسيًا في تفكيك العقل اللاهوتي العربي، وأحد أوائل من قدّموا مشروعًا فلسفيًا متماسكًا لتحرير الثقافة من الطاعة العقائدية.

سابعًا ـ من نقد الدين إلى نقد الثقافة السياسية

في أعمال لاحقة مثل ذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم، وسّع العظم مشروعه ليشمل نقد الثقافة السياسية، مسلطًا الضوء على تواطؤ النخب القومية واليسارية مع المقدّس، وعلى هشاشة الخطاب الذي يدّعي التحديث لكنه يعيد إنتاج الاستبداد.

يرفض العظم مشاريع الإصلاح الديني التي حاولت التوفيق بين النص والعصر (كأمثال عبده وعبد الرازق). بالنسبة له، التحرر لا يتم عبر التأويل، بل عبر القطيعة. فالحداثة ليست مظهرًا، بل موقف إبستمولوجي يقوم على نزع القداسة عن النصوص والتاريخ، ونقل مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى الواقع.في هذه المرحلة، لا يعود الاستبداد مجرد ظاهرة سياسية، بل بنية نفسية ومعرفية تسكن الخطاب العربي، حتى في صيغته التقدمية.

ثامنًا ـ العظم ضمن التيار النقدي الجذري

مع هشام جعيّط وطيب تيزيني، يشكّل صادق جلال العظم أحد أعمدة التيار النقدي الجذري في الفكر العربي المعاصر، الذي يرفض التلفيق، ويؤمن أن التحرر يبدأ من نقد المسلّمات، لا من ترقيعها.

وإذا كان جعيّط قد فكّك أسطرة التاريخ، فإن العظم مزّق أسطرة الفكر الديني، ودعا إلى تأسيس ثقافة جديدة لا تقدّس السؤال، بل تطرحه من جديد، بلا خوف، وبلا وصاية.

من العظم إلى أفق التيار النقدي الجذري

يشكّل تحليل مشروع صادق جلال العظم محطة مركزية في فهم تحوّل التيار النقدي العربي من مساءلة السلطة التاريخية (كما عند جعيّط) إلى تفكيك البنية اللاهوتية التي تحكم العقل وتُعيد إنتاج الخضوع. فالعظم لم يكتف بممارسة نقد فكري للفكر الديني، بل ذهب إلى الجذور المعرفية التي تحكم بنية التفكير التقليدي في الثقافة العربية، رابطًا بين اللاهوت والخرافة، وبين النص المقدس ومؤسسة السلطة.

بهذا المعنى، يصبح العظم نموذجًا للفكر الذي لا يسعى إلى الإصلاح داخل الإطار، بل إلى تفكيك الإطار ذاته وإعادة صياغة شروط التفكير. ومن هنا تنبع أهمية مشروعه في سياق البحث الذي نرومه، والذي يسعى إلى تتبّع التيار النقدي الجذري لا كمجموعة من المواقف المعرفية المتفرقة، بل كمسار تحرري متكامل يربط بين نقد التاريخ، ونقد الفكر الديني، ونقد الثقافة السياسية.

ومع العظم، نبدأ بالاقتراب من قلب هذا التيار: من الشك كمدخل، إلى القطيعة كمنهج، وصولًا إلى العقلانية الجذرية كموقف. وسيكون الانتقال إلى مفكرين آخرين داخل هذا المسار ـ من أمثال طيب تيزيني أو نصر حامد أبو زيد ـ امتدادًا طبيعيًا لهذا التفكيك المتصاعد، الذي لا يزال في صراعه المفتوح مع المقدّس، والمؤسسة، والذاكرة.

صادق جلال العظم في مرآة الزمن.. وعلى عتبة طيب تيزيني

ربما كان صادق جلال العظم، لو امتد به العمر، ليتأمل بدهشة لا تخلو من المفارقة أن دمشق، المدينة التي شهدت ولادة أطروحته الجذرية "نقد الفكر الديني"، تُدار اليوم في سياق إعادة بناء الدولة من قبل تيار ديني يُعرف بمرجعيته المحافظة، بعد عقود من هيمنة البعث، الذي وفّر ـ رغم تضييقه ـ فضاءً لطباعة أفكاره وتداولها.

لكن العظم، المفكر الجذري، لم يكن معنيًا بالأشكال الظاهرة للسلطة، بقدر ما كان مهجوسًا ببنية التفكير العميقة التي تُنتج الخضوع، سواء ارتدت ثوب القومية أو العباءة الدينية. وما نراه اليوم ليس مناسبة لإصدار حكم مسبق، بقدر ما هو لحظة تأمل في تعقيدات الانتقال العربي، حيث تتبدل القوى، دون أن يعني ذلك بالضرورة ولادة جديدة للعقل.

وفي هذا المنعطف، لا يبدو صادق العظم نهاية لمسار النقد، بل حلقة ضمن تيار أوسع، تتجاوب فيه الأصوات وتتعدد فيه الزوايا. هنا بالتحديد، يظهر طيب تيزيني، المفكر السوري الآخر، الذي انطلق من مرجعية مادية ـ تاريخية، وحاول بناء مشروع نهضوي شامل، يربط بين تفكيك التراث وإعادة تأويله في أفق التحرر.

سنقف في الحلقة القادمة عند هذا المشروع، لنفهم كيف يمكن أن يكون نقد التراث لا مجرد تفكيك، بل عملًا تأسيسيًا جديدًا، يزرع أسئلة المستقبل في تربة الماضي.

في سويداء الحجارة السوداء، كما في جولان الزيتون المقاوم، تتجلى الأصالة لا كحنينٍ إلى ما مضى، بل كقدرةٍ على البقاء عبر المقاومة والتفكير الحر. ومن هذه الأرض التي لم تنكسر تحت الاحتلال، ولا انغلقت على نفسها، خرج صادق جلال العظم، لا ليحتفي بالموروث، بل ليسائله، ويفكك بنيته اللاهوتية الراسخة، ويفتح للعقل بابًا نحو التحرر من الطاعة العقائدية والخضوع الرمزي. لم يكن العظم مفكرًا على هامش قضايا أمته، بل في قلب صراعها الثقافي والسياسي، حادًّا في نقده، جذريًّا في أطروحاته، سوريًّا في انتمائه العميق إلى تربة تصوغ أبناءها بقدر ما تفتح لهم أفق مساءلتها.

مقالات مشابهة

  • الأطفال الجائعون وتفشي البلادة الأخلاقية
  • مشروع مسام يعلن عن كمية الألغام التي انتزعها في اليمن منذ انطلاقته وحتى نهاية يوليو المنصرم
  • ما سر اعتراف الغرب المفاجئ بمجازر إسرائيل في غزة؟
  • ماذا تعرف عن الاشتراكي الأخير في بكين الذي يحارب الديمقراطية والنسيان؟
  • الاتحاد حصد الذهب والهلال خطف المشهد والمجد والاهلي دخل التاريخ
  • ???? مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي
  • «تشات جي بي تي» يغير قواعد التعليم.. هل انتهى عصر المعلم؟
  • انتهى التعنيف والضرب بالموت.. مصرع فتاة على يد والدها داخل منزل الأسرة بالشرقية
  • من نقد التاريخ إلى نقد اللاهوت.. صادق جلال العظم وتفكيك العقل الديني
  • الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور