نناول مقال للكاتب روني كاسريلز، في موقع "فلسطين كرونيكل"، الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة.

وأضاف وزير الاستخبارات السابق في جنوب أفريقيا، أن "الصهاينة وحلفاؤهم الليبراليون يبررون هذا القتل المهول باعتباره رداً مشروعاً على عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي".

وأشار إلى أن هناك اعتراف دولي بالحق في ممارسة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.

ولكن لا يوجد اعتراف دولي بحق قوة الاحتلال في الدفاع عن النفس.

وخلص الكاتب، "لم تمت الصهيونية، ولكنها بكل تأكيد في النزع الأخير. سوف يكون الثمن باهظاً جداً، باهظاً فوق كل اعتبار، ولكن الذين نبكيهم اليوم هم من سيكسبون الحرب"

وفيما يلي نص المقال:

في غزة يُقتل ستة أطفال كل ساعة.

تم حتى الآن ذبح ما يزيد عن سبعة عشر ألف طفل. لا أحد منا، ولا حتى الشعراء، بإمكانه استدعاء كلمات كافية لتصف التعطش الفاشي للدماء لدى النظام الإسرائيلي والمجتمع الذي يسانده.

بعد عام من بدء الهجوم على غزة، ما يزيد عن اثنين وأربعين ألف إنسان قتلوا. لا يشمل هذا الرقم المفقودين. ما يزيد عن عشرة آلاف شخص ممن يحسبون في عداد الأموات مازالت أجسادهم تحت الأنقاض. أصيب أكثر من مائة ألف شخص، عدد كبير منهم إصاباتهم خطيرة.



في شهر يوليو (تموز) من هذا العام قدرت دراسة نشرت في المجلة الطبية المحترمة، ذي لانسيت، بأن العدد الإجمالي للموتى، لأسباب مباشرة أو غير مباشرة، قد يتجاوز 186 ألف إنسان بحلول التاسع عشر من يونيو (حزيران) 2024. أكثر من سبعين بالمائة من الأموات هم من النساء والأطفال. ما يزيد عن ألف طفل فقدوا أطرافاً لهم، وهو أعلى رقم لأي فترة مشابهة في التاريخ.

تظهر دراسة أعدتها سوفيا ستاماتوبولو روبينز من جامعة براون ونشرت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام أن تسعين بالمائة من الناس في غزة نازحون، وأن ستة وتسعين بالمائة لا يتوفر لديهم ما يكفي من الطعام والماء، ولا توجد كهرباء، وما يزيد عن تسعين بالمائة من المستشفيات تم تدميرها، بينما قتل 880 شخصاً من العاملين في الرعاية الصحية.

أربعة من بين كل خمسة أطفال استولت عليهم الكآبة وغارقون في الحزن والخوف. انتشرت الأمراض المعدية كالنار في الهشيم.

عدد القتلى المؤكد كنتيجة مباشرة للهجمات التي يشنها الجيش الإسرائيلي، والذي بلغ 42 ألفاً، يساوي تقريباً ضعف عدد من سقطوا في مذبحة شاربيفيل يومياً وعلى مدي عام كامل.

بعد شاربيفيل ساد هدوء نسبي ما بعد العاصفة. نقل المصابون إلى المستشفى، وتم دفن الموتى بكرامة. لحظتها اهتز النظام تحت وطأة التنديد الدولي بما حدث.

أما في غزة، فالقتل مستمر بلا هوادة.

يبرر الصهاينة وحلفاؤهم الليبراليون هذا القتل المهول باعتباره رداً مشروعاً على عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي.

هناك اعتراف دولي بالحق في ممارسة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال. ولكن لا يوجد اعتراف دولي بحق قوة الاحتلال في الدفاع عن النفس.

صحيح أن حق ممارسة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال لا تشمل اتخاذ المدنيين رهائن أو شن هجمات متعمدة على المدنيين. ولكن، علينا مع ذلك أن نكون واضحين إزاء ثلاثة أمور.

أما الأول فهو أن الإسرائيليين، المدعومين من قبل حلفائهم في الولايات المتحدة وفي غيرها من الأماكن، شنوا حملة دعاية وقحة بعد عملية طوفان الأقصى. ولقد ثبت بدون أدنى شك كذب الادعاءات بقطع رؤوس أربعين رضيعاً وبارتكاب اغتصاب جماعي.

وأما الثاني فهو أن ما يزيد عن ثلاثمائة شخص ممن قتلوا في إسرائيل أثناء العملية كانوا جنوداً على رأس عملهم، وكانوا بذلك أهدافاً عسكرية مشروعة. كثير من المدنيين الذين قتلوا كانوا جزءاً من الاحتياط العسكري الإسرائيلي وبذلك فهم جنود خارج دوام العمل. بالإضافة إلى ذلك، بات موثقاً وبشكل جيد أن كثيراً من هؤلاء المدنيين قتلوا بنيران أطلقها الجيش الإسرائيلي.

وأما النقطة الثالثة، فهي أنه في مثل هذه الأمور، يكون من الضروري دائماً أن نأخذ السياق في الحسبان. والسياق هنا هو خمسة وسبعون سنة من الاحتلال والتشريد الاستعماري والتطهير العرقي الإجرامي في كل أنحاء فلسطين. ما يقرب من ثمانين بالمائة من أهل غزة هم أصلاً من اللاجئين الذين قدموا إلى القطاع بسبب التطهير العرقي الذي مارسه الإسرائيليون ضد الفلسطينيين في عام 1948 وفي عام 1967.

كما عانى قطاع غزة من حصار دموي استمر سبعة عشر عاماً. والمدنيون الذين أخذوا رهائن إنما أخذوا من أجل استبدالهم بالآلاف من الرهائن الفلسطينيين القابعين داخل السجون الإسرائيلية.



وكما يدرك كل من لديه علم بتاريخ الثورات ضد العبودية والاستعمار، يتم ارتكاب فظاعات عندما يثور المظلومون. يدرك التحليل الجاد ذلك ضمن السياق، ويدرك أن الظلم هو جذر العنف وأن إنهاء الظلم هو السبيل نحو السلام.

كل موت بريء كارثة. كلنا نحزن لموت الرضع في الصراع، ولكن البشر المحترمين يحزنهم موت جميع الرضع. لقد مات رضيعان إسرائيليان اثنان في السابع من أكتوبر 2023.

ثم خلال أسابيع، قتل سبعون رضيعاً حديثو الولادة في غزة. يريد منا الإسرائيليون وحلفاؤهم الليبراليون حول العالم أن نحزن على الرضيعين الإسرائيليين، ونقبل بموت السبعين رضيعاً في غزة باعتباره من أفعال "أكثر الجيوش أخلاقاً في العالم".

يفترض فينا أن نقبل بأن حياة الإسرائيليين مقدسة بينما حياة الفلسطينيين لا تساوي شيئاً. هذا المنطق من نزع الإنسانية عن الآخر طالما كان منطقاً للفاشية والاستعمار، وهو ما يفترض في كل إنسان محترم أن يعارضه ويقاومه.

لقد اتخذ الناس حول العالم موقفاً مبدئياً.

ما كان الرد الاستئصالي للاحتلال الاستعماري الإسرائيلي على المقاومة ليحصل بدون مساندة الولايات المتحدة.

خلال العام الذي تلا عملية طوفان الأقصى، أنفقت الولايات المتحدة 22.76 مليار دولار على المساعدات العسكرية لإسرائيل وعلى العمليات الأمريكية ذات العلاقة في المنطقة. ولكن داخل الجامعات في أرجاء الولايات المتحدة، وقف الشباب، وكثيرون منهم يهود، بشجاعة في صف العدالة.

تشير الإحصائيات إلى أن أربعين بالمائة من اليهود في الولايات المتحدة دون سن الخامسة والثلاثين يعارضون الصهيونية ويدعمون الفلسطينيين. يفهم هؤلاء أن اليهودية موجودة منذ آلاف السنين، قبل قيام دولة إسرائيل، وأنها سوف تظل موجودة لفترة طويلة بعد زوال إسرائيل بالشكل الذي هي عليه الآن.

ها هي الحركة الدولية للمقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات تنمو بسرعة وتزداد قوة. كما تحقق تطور بارز باتجاه تمكين الأمم المتحدة ومحاكمها العليا، المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، حتى تمارس صلاحياتها وتتخذ الإجراءات الضرورية في الحال.

لقد تصرفت دولة جنوب أفريقيا بشجاعة عندما رفعت قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. بالطبع هناك جهود معاكسة تبذلها الدولة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، بما في ذلك محاولات كبيرة للتأثير على الرأي العام داخل جنوب أفريقيا.

تمول حكومة الولايات المتحدة مشاريع يبدو من خلالها أن "الأخبار الكاذبة" لا تصدر إلا عن خصومها في بريكس، ولا تصدر بتاتاً عن الولايات المتحدة أو إسرائيل.

في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) تنوي "الحركة العالمية من أجل الديمقراطية" – وهي مشروع تابع للوقف القومي للديمقراطية ومنظمة تابعة للدولة في الولايات المتحدة لديها ارتباط بالكثير من الانقلابات التي ساندتها الولايات المتحدة ضد الحكومات المنتخبة – استضافة مؤتمر ضخم للمجتمع المدني في جوهانزبيرغ هدفه تصوير الولايات المتحدة والغرب على أنهما رعاة الديمقراطية وحماتها حول العالم.

ثمة ضغوط متنامية تمارس على المنظمات غير الحكومية في جنوب أفريقيا لمقاطعة المؤتمر، ولقد استجاب بعضها وأعلن عن انسحابه.

يتخفى تحت قناع الكبر الإسرائيلي، والادعاء بأن لديها حقاً إلهياً في القتل والهيمنة، ضعف متنام. ومع بدء هجومها على لبنان وإيران، بعد قيامها بقصف سوريا واليمن، يتزايد الإدراك بأن فاشيتها تهدد المنطقة بأسرها، وبالتالي تشكل خطراً على السلام العالمي.

خلال ما يزيد عن عام، أخفقت إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، من ضمان تحرير الرهائن وسحق حماس. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة، إلا أن المقاومة البطلة في غزة والضفة الغربية ولبنان واليمن لم تهزم. في هذه الأثناء، يخفي الجيش الإسرائيلي الأعداد الحقيقية لقتلاه وجرحاه، ولكن هناك إدراك متنام في إسرائيل بأن عدد الإصابات في ارتفاع مستمر. واليوم، يعاني آلاف الجنود في إسرائيل من صدمات نفسية باتوا بسببها غير قادرين على أداء المهام القتالية.

يتباهى الجيش الإسرائيلي بالمكاسب التكتيكية، ولكنه يتكبد هزائم استراتيجية. ومن خلال توسيع جبهة المعركة، فإنهم يتمددون فوق طاقتهم، وكلما تصاعدت الحرب، كلما غاصوا في الوحل.

إسرائيل ليست دولة مستقرة. تكاد الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي تصل نقطة الانكسار، وتخلي نتنياهو، فعلياً، عن الرهائن أضعف التأييد الذي يحظى به.

والأكثر من ذلك هو أن إسرائيل لن تتمكن على وجه التأكيد من خوض حرب استنزاف طويلة المدى، فالاقتصاد في أزمة بسبب هروب رأس المال، ونضوب الاستثمار الخارجي، والتراجع السريع في الناتج الإجمالي المحلي. لقد تكبدت إسرائيل في العام الماضي خسارة تقدر بأربعة وستين مليار دولار، وسوف يكون هذا العام أسوأ حالاً. ناهيك عن أن نصف مليون مواطن هربوا من البلد.

باتت المستوطنات والبلدات المحاذية لجنوب لبنان وتلك التي في المنطقة الواقعة جنوبي قطاع غزة مهجورة، وتكاد الفنادق تفيض بالمستوطنين الذين نزحوا، وهم يقيمون فيها على نفقة الحكومة. ميناء إيلات خال من السفن وقد أعلن إفلاسه.

تضرب صواريخ حزب الله أهدافاً عسكرية في حيفا وفي غيرها من الأماكن، بما في ذلك قواعد هامة للجيش وللموساد، بل تعرض منزل نتنياهو نفسه للقصف بطائرة مسيرة. لقد أثبتت عملية طوفان الأقصى أن إسرائيل ليس عصية على القهر، وأثبتت قبة إسرائيل الحديدية ودفاعاتها الجوية أنها لا تكفي لصد الهجمات المشتركة التي تشن من أنحاء مختلفة في المنطقة، ومن أماكن بعيدة مثل إيران واليمن.

لقد تعرضت إسرائيل لعقاب شديد من قبل حزب الله في لبنان، ولسوف تفشل في غزوها لذلك البلد كما فشلت من قبل.



أما إيران فهي تماماً عامل آخر. إنها بلد واسع، غني بالموارد، وخصم مهيب. وعلى النقيض من إسرائيل، تستهدف إيران المواقع العسكرية، ولا تشن هجمات عشوائية ضد المدنيين، وهذا ما لاحظه الناس ولاحظته البلدان حول العالم.

الأوضاع مأساوية في غزة، وبشكل لا يمكن تصوره، وكذلك الوضع هو في الأحياء المحاصرة في الضفة الغربية، حيث بلغ عدد المحتجزين في السجون أحد عشر ألفاً وخمسمائة. ومع ذلك ما تزال المقاومة حية، ولقد تجسدت بسالتها ورصانتها في التحدي الذي أظهره السنوار حتى لفظ آخر أنفاسه، كما تجسد في صرير الفتاة الصغيرة التي حملت شقيقتها الطفلة على ظهرها وسارت بها بين تلال من الركام والموت.  

يحنو الناس بعضهم على بعض ويرعى بعضهم بعضاً حتى في أسوأ الظروف وأحلك الكوابيس. يحفرون في الأنقاض بحثاً عمن دفنوا أحياء، ويسارعون نحو المستشفيات المقصوفة يحملون على أكفهم من في سكرات الموت ومن أصيبوا، ويحملون في أكياس من البلاستيك بقايا الضحايا الذين مزقت القنابل أجسادهم. يدفنون بكل لطف موتاهم الملفوفين في الأكفان في قبور جماعية. يحبون أرضهم، ويدهشون العالم بما يتحلون به من عزة وكرامة، وبإصرارهم على عدم التنازل عن أرض الآباء والأجداد.

لم تمت الصهيونية، ولكنها بكل تأكيد في النزع الأخير. سوف يكون الثمن باهظاً جداً، باهظاً فوق كل اعتبار، ولكن الذين نبكيهم اليوم هم من سيكسبون الحرب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الاحتلال غزة الصهيونية الحرب غزة الاحتلال الحرب الصهيونية صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی السابع من أکتوبر عملیة طوفان الأقصى الجیش الإسرائیلی الولایات المتحدة جنوب أفریقیا اعتراف دولی حول العالم بالمائة من ما یزید عن فی غزة

إقرأ أيضاً:

إلى أي مدى سيرتبط مستقبل الولايات المتحدة ونفوذها بالحرب الحالية وتعاطيها معها؟

من نافلة القول أنّ "سوء تقدير" ما حَكم تصرف الرئيس الأمريكي ترامب بمساندته للعدوان الإسرائيلي على إيران. فهذا العدوان نقل المنطقة كلّها ورشّحها إلى مكان آخر غير مسبوق، أكثر تعقيدا وتداخلا، بل رشّح معه البيئة الدولية لما هو أخطر وأشّد. ربّما افترض ترامب أنّ هذه الخطوة تقوي أوراقه التفاوضية مع إيران إذا حقّقت بعض أهدافها، وربّما إذا لاحت فرصة معتّد بها فيكمل لإسقاط النظام وفق الإرادة والرغبة الأمريكية التاريخية، فقارب المسألة بعقلية المقامر على طريقة رجال الاقتصاد لا السياسة.

لقد خالف ترامب إجماع كل الرؤساء من قبله بالسماح لإسرائيل بالقيام بهذا الفعل على طريقته بحب التميّز، وعلّه يحقق ما لم يحققه أسلافه!! وهذا إن دّل ذلك على شيء فهو يدّل على ما وصلت اليه الإدارات الأمريكية من رعونة سياسية أو عدم فهم للواقع والتعاطي السياسي والاستراتيجي معه، فالفارق يغيب عند الإدارات الغربية وبالذات الأمريكية بين السياسة والاقتصاد (فضلا عن الاقتصاد الرقمي). في الاقتصاد تستطيع أن توقف الصفقة إذا لم تعجبك أو إذا شعرت بالخطر، لكن في السياسة الأمور أعقد بكثير فالتحّدي فيها هو إمساكك للمآلات والنهايات وحسن تقديرها وليس فقط إصدار القرار.

خالف ترامب إجماع كل الرؤساء من قبله بالسماح لإسرائيل بالقيام بهذا الفعل على طريقته بحب التميّز، وعلّه يحقق ما لم يحققه أسلافه!! وهذا إن دّل ذلك على شيء فهو يدّل على ما وصلت اليه الإدارات الأمريكية من رعونة سياسية أو عدم فهم للواقع والتعاطي السياسي والاستراتيجي معه
لقد كرّرت إدارة ترامب أخطاء مذهلة في أوّل مائة يوم كلّها بما يؤكّد انفصام إدارته عن الواقع من افتراضه للمقاربة بشأن روسيا وأوكرانيا إلى كندا إلى المكسيك إلى أنصار الله في اليمن إلى المهاجرين في أمريكا إلى العلاقة بالصين إلى.. إلى التعاطي مع أم القضايا في عالمنا فلسطين وغزّة، فعلا هو يعيش ظّنا أو وهْما نابعا من نرجسية قاتلة، فيفترض أنّه إذا وقّع على الورق في مكتبه البيت الأبيض فيعني أنّ الواقع صار كذلك!!

العدوان الصهيوني أوصلنا إلى اللحظة الأخطر منذ طوفان الأقصى، سرعان ما تبيّن أنّ رد فعل إيران كان مزيجا من دفاع عن نفس من جهة وفرصة كبرى تتحينها، فحمت نفسها قانونيا وعزّزت موقفها شعبيا في الداخل، وعربيا وإسلاميا، وأمام الرأي العام العالمي (كمُعتدى عليها)، واستفادت من أفضل سياق، بل لعّلها ساهمت منذ طوفان الأقصى بالتدريج في صناعة أفضل سياق ومسوّغ ممكن لحربها مع إسرائيل، وخلخلة البيئة الداعمة لإسرائيل ما أمكن وتعزيز وتقوية البيئة الداعمة للحق الفلسطيني ما أمكن، ونجحت في ذلك نجاحا معقولا. إنّ مبادرتها بالرد التصاعدي وغير المتوقع من قبل الصهاينة وغيرهم أتت في سياقات متكاملة ومنسقة، فأتى ردّها في سياق تأكيد سيادتها أولا، ونصرة فلسطين وغزّة وقوى المقاومة ثانيا، وتثبيت قواعد القانون الدولي ثالثا، وفي سياق الإفادة من الوضعية الدولية بما يساعد من تعزيز موقع الصين والدول الصاعدة في مواجهة أمريكا رابعا، وتشجيع كل الشعوب المتذّمرة والمستاءة من الهيمنة الأمريكية والرافضة لها بكسر القيد النفسي وتهشيم الصورة النمطية المتوارثة عندهم حيال أمريكا وإسرائيل.

لذلك فإيران اليوم تتحرّك في أفضل مشروعية ممكنة لمعركة من المعارك. وأثبتت حتى الآن كفاءة وإبداعا فاجآ القريب والبعيد في إدارة المعركة وعكس أهدافها لصالحها رغم الكلفة، فمسار إدارتها للمعركة منذ طوفان الأقصى عبّر عن نضج وفهم سياقي وتاريخي كبير وعدم استعجال، بل تحّين واستنزاف لعدّوها، هي اليوم تتحّرك بأفضل مشروعية وغطاء قانوني بينما إسرائيل فاقدة لأي شرعية أو قانونية، لا سيّما بعد نهر الدماء البريئة في غزّة الذي هّز الرأي العالمي والحكومات، وصورة إسرائيل هي اليوم هي حقيقتها بدون مجمّلات ومساحيق دولة عنصرية إرهابية ومجرمة أشبه بهتلر بل تتعداه. إيران تتحرّك بينما الشارع في إسرائيل بلغ في انقسامه مدى مهمّا وتشعر فئة منه أن نتنياهو يقاتل بهم لأجله لا لأجلهم، وأنّ الأفق السياسي للمعارك غامض. فبعد ما يقرب السنتين لم تحسم بعد معركة غزّة، ولا تزال المقاومة حيّة وتمتلك قلوب الفلسطينيين، أمّا الجيش الإسرائيلي فهو في حالة تعب والحكومة كل يوم أمام مشكلة وشقاق وانقسام.

إيران تتحرّك وتبادر للرّد في بيئة عربية شعبية مؤيدة بقوّة ونظام رسمي محايد متضامن ولو لفظا (هذا أكثر ما تتمنّاه قوى المقاومة من العرب) وليس نظاما رسميا يصر على أمريكا لقطع "رأس الأفعى"، ومؤخرا شكّلت علاقاتها التي كان يُعمل على إعادة بنائها مع مصر وموقفها الثابت في عدم قبول التهجير للفلسطينيين ودعمها لباكستان وعلاقاتها المهمة معها ومع أفغانستان أيضا.

مسار الحرب أمام احتمالات استراتيجية معقدة جدا بالنسبة لأمريكا وإسرائيل وفرص كسبها من قبلهما ضئيلة جدا مهما طالت وتطورت الحرب. إنّ انخراط أمريكا في الحرب يعني غرقها دون أفق سياسي واضح أو معرفة بكيف ستنتهي
اليوم، مسار الحرب أمام احتمالات استراتيجية معقدة جدا بالنسبة لأمريكا وإسرائيل وفرص كسبها من قبلهما ضئيلة جدا مهما طالت وتطورت الحرب. إنّ انخراط أمريكا في الحرب يعني غرقها دون أفق سياسي واضح أو معرفة بكيف ستنتهي -تجارب أفغانستان والعراق وغيرها مرعبة- ووضع ترامب داخليا غير متماسك ومهزوز، وستستغل الحرب كل من الصين وروسيا لدعم إيران فضلا عن باكستان. لكنّ الأهّم أنّ غرق أمريكا في هذه الحرب المفتوحة فيما لو حدث سيسرع تحرك الصين لإسقاط تايوان وربّما احتلالها مستّغلة استنزاف أمريكا، وسيعني مبادرة روسيا بكل قوّتها مستفيدة من أسعار النفط العالية والانشغال الأمريكي (خصوصا إذا توّقف تدفق النفط والغاز من الخليج)، وتعديل توازنات الأمن الأوروبي بالقوة الهائلة قبل أن يتمكّن الغرب الأوروبي من بناء ردع خاص غير معتمد على أمريكا.

فأمريكا ليست قادرة لا اليوم ولا غدا على خوض حروب على جبهات ثلاث، كما أنّ الحرب الشاملة لو وقعت في المنطقة فستزيل آخر قشرات عن سطح النظام الإقليمي الهش القائم في "الشرق الأوسط"، أي ستزيح شبكة النظام الرسمي العربي لأنّ أي تهاو لأحد منه سيخلط الأوراق ويحرم إسرائيل من خطوط دفاع جيوبوليتيكية أمّنتها بعض الأنظمة.

إنّ سياسة أمريكا الأهّم في المنطقة هي "إسرائيل"، إسرائيل ليست أداة أمريكية، هي إحدى أبرز سياسات الهيمنة الغربية، وبعض الأنظمة العربية هي سياسة ثانية من سياسات الهيمنة الغربية. إنّ ترك الإدارة ألأمريكية المسار دون التدّخل لإيقاف نتنياهو سوف يحقق مصالح الأخير التكتيكية على حساب مصالح أمريكا العالمية ومصالح إسرائيل الاستراتيجية، فهل سيقدر ترامب على منعه؟! نُرجح أنّ الإدارة الأمريكية ستوقفه، أمّا من تسوّل له نفسه من الإدارة أن يأتي ليقطف الثمار على غرار الحربين العالميتين فاليوم الوضع الدولي وطبيعته مختلفان بالكامل عن وضعية أوروبا حينها. إنّ إيقاف أمريكا لنتنياهو سيشكل انتكاسة لمشروع الأخير ونظريته لتطويع المنطقة وخطاب النصر المطلق؛ وضرب قاعدة جبهة مواجهة الهيمنة ومساندة خط المقاومة والتحّرر في إيران، سيعني فشل كامل المسار منذ طوفان الأقصى وسيؤدّي بالتلازم موضوعيا لإيقاف الحرب على غزّة؛ إذ إنّ مبررات حروبه تكون قد تلاشت وصورته أمام مجتمعه انعكست بالكامل وكذلك صورته أمام العالم الغربي كمُعتمد فعّال (هو طالما ادّعى وطلب أن يتركوه لمواجهة إيران وأنّه سيأتيهم بالجائزة "رأس إيران")..

وتبيّن أنّ لجم نتنياهو لأكثر من عقد كان إدراكا من الرؤساء الذين سبقوا ترامب لمخاطر هكذا خطوة على المصالح العليا الأمريكية والحسابات الاستراتيجية، ولمعرفتهم أنّه لا يمكنه القيام بهذه الخطوة منفردا ويريد جرّ أمريكا لحروبه، وهذا هو هدفه الرئيس.

قد يقول قائل إنّه لو حصل ذلك وأوقفت أمريكا نتنياهو ستكون انتكاسة استراتيجية لإسرائيل وضياع فرصة العمر وخسارتها، وسيضع ذلك إسرائيل على طريق التهاوي.. هذا صحيح! لكن الخيار الآخر، أي الانخراط الأمريكي، ستكون تبعاته أسوأ بكثير. فالحروب العالمية كانت ليس فقط لأسباب سياسية واقتصادية بل أيضا لسوء تقدير الرؤساء والقادة.. فهل سيكون ترامب صانع الحرب العالمية الثالثة؟ وهل هذا ما وعد به الأمريكيين الذين انتخبوه لتحسين أوضاعهم واقتصادهم؟ وأين ستصبح قدرته على مواجهته الداخلية داخل أمريكا؟ وأين سيكون من جائزة نوبل؟ وهل بحرب لا نهاية لها سيستعيد قوّة وعظمة أمريكا كما يدّعي أم سيُضعفها؟!!

قد تستمر المعركة أياما إضافية أو ربّما أسابيع، وهذا يتوّقف على إعادة أمريكا تصحيح قراءتها للواقع واستلحاق مسار الأحداث الذي يتدهور سريعا واجتناب الخفّة التي صارت أشبه بمتلازمة لسياساتها، فمسار الحرب لا يخلو من تهديد كبير لمستقبل أمريكا ومكانتها، ويمكنها التدارك قبل فوات الأوان ولو على حساب نتنياهو وحكومته المتطرفة
لا يعني ممّا تقدّم أنّ الحرب ستنتهي غدا، فإسرائيل ستبقى تحاول لحدود معيّنة علّها تخرج بمكسب ما، أمّا إيران هي الأخرى فستبقى تضرب بالعمق لتصنع صورة تل أبيب المدمّرة وإسرائيل المكشوفة والمتخّبطة والخائفة وتستثمر في طول المعركة.. أمّا خيار نتنياهو النووي فيُستبعد أن يكون على الطاولة اليوم ولا غدا، في ظل بنية إقليمية ودولية لن تجعل من دول كباكستان أو غيرها بمنأى عن الصراع بل سيواجَه النووي بالنووي؛ لأنّ الصراع صار يرتبط بكل الدول الصاعدة الإقليمية والمؤثرة وتصورها للمستقبل. فباكستان لا يمكن أن تكون بين إيران (بنظام أمريكي) وقوّة عدوة لها كالهند مدعومة غربيا. والكلام نفسه ينسحب على تركيا -ولو بحدود- إذ أنّ إضعاف إيران سيؤدي إلى الإطاحة بأردوغان في اليوم الثاني.. وايضا على مصر إذ إنّ ضعف إيران سيؤدي إلى الإطاحة بكل هذه الدول. فالصراع اليوم صار ذي سمة لها علاقة ببنية النظام الدولي وتقسيماته أيضا، ناهيك عن أنّ استخدام النووي إسرائيليا سيكون عذرا وسابقة ممتازة لاستخدامه من بوتين في وجه الغرب ومن كيم بوجه كوريا الجنوبية وأمريكا نفسها في لحظة، ما وسيفتح على فوضى حروب نووية عالمية قاتلة ليس فيها رابح.

لذلك قد تستمر المعركة أياما إضافية أو ربّما أسابيع، وهذا يتوّقف على إعادة أمريكا تصحيح قراءتها للواقع واستلحاق مسار الأحداث الذي يتدهور سريعا واجتناب الخفّة التي صارت أشبه بمتلازمة لسياساتها، فمسار الحرب لا يخلو من تهديد كبير لمستقبل أمريكا ومكانتها، ويمكنها التدارك قبل فوات الأوان ولو على حساب نتنياهو وحكومته المتطرفة.

الاصطفافات بدأت بالظهور وكل يوم سيكون أشّد تعقيدا من قبله، فالتدارك ولجم نتنياهو هو لمصلحة أمريكا أولا. أمّا نحن كدول ومجتمعات فإننا ومهما كانت الأكلاف نبقى أبناء هذه الأرض وهذه الجغرافيا وحضارتنا نبتت فيها، نحن جزء منها وهي جزء منّا، ليس لنا خيار إلا أن نُكمل ونصمد ونواجه وندفع الظلم والاعتداء عن أنفسنا وأمتنا ومقدّساتنا وسيادة دولنا واستقلالنا. بالنسبة إلينا معركتنا معركة الضرورة، بينما معركة أمريكا اليوم فيما لو انخرطت بحرب نتنياهو هي معركة اختيار، وربّما تعلم أنّ لديها فرصا في هذا العالم العربي والإسلامي كبيرة جدا إذا فكّرت بطريقة أخرى!!

مقالات مشابهة

  • إسرائيل ترجح انضمام الولايات المتحدة للحرب ضد إيران الليلة
  • هل يُقحم ترامب الولايات المتحدة في حرب مع إيران؟
  • يائير لابيد يستجدي مساعدة الولايات المتحدة لإسرائيل في الحرب ضد إيران
  • عاجل.. الخارجية الايرانية: الولايات المتحدة شريكة في العدوان الإسرائيلي على بلادنا (فيديو)
  • إلى أي مدى سيرتبط مستقبل الولايات المتحدة ونفوذها بالحرب الحالية وتعاطيها معها؟
  • ترامب: الولايات المتحدة ستواصل دعم إسرائيل
  • هل تدخل الولايات المتحدة الحرب بين إيران وإسرائيل؟ ترامب يجيب
  • ترامب: الولايات المتحدة ستواصل دعم إسرائيل للدفاع عن نفسها
  • خبيرة أميركية: حرب الولايات المتحدة مع إيران ستكون كارثة
  • وزير الخارجية الإيراني.. “الرد على الاعتداءات الصهيونية كان دفاعا عن النفس”