الجزيرة:
2025-05-28@02:54:58 GMT

سوريا الجديدة.. رابح وخاسرون كُثر

تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT

سوريا الجديدة.. رابح وخاسرون كُثر

بعد مضي أسابيع على نجاح ثورة الشعب السوري ضد نظام آل الأسد، وهروب الرئيس المخلوع بشّار من سوريا، تاركًا وراءه كل من وقف معه وإلى جانبه، وقدّم الدماء لأجله ظانًا أنه إلى الأبد أو أنه الأقدر على حماية البلد من "المؤامرات الخارجية" ومن ملايين "الإرهابيين" من أبناء الشعب السوري المشرّدين والنازحين واللاجئين في أصقاع الأرض، كما كان يُعلن ويكرّر، وتاركًا وراءه شرائح من تجّار الحروب المنتفعين والمستفيدين.

.، بدأت سوريا الآن تتلمّس ذاتها وتتعرّف على ملامح وجهها الوطني العريق الضارب في التاريخ، بعد أن كاد اليأس يدبّ في نفوس الشعب السوري المظلوم.

متضررون وكارهون

هذا التغيّر الكبير في المشهد السوري، يسير حتى اللحظة بهدوء، في ظل فرحة وحذر، لأن الحرية كقيمة إنسانية منشودة في العالم العربي، وفي المشرق العربي، لها خصومها إن كان على مستوى الأنظمة اللاديمقراطية أو المستبدّة، أو على مستوى النخب السياسية والإعلامية والاقتصادية التي ربطت نفسها ومصيرها بتلك الأنظمة السلطوية المؤلّهة.

بعض القوى والأنظمة العربية، ستنظر لهذه الثورة والنجاح ضد الاستبداد بكثير من الريبة، خشية العدوى وتكرار السيناريو في هذا البلد أو ذاك، لا سيّما أن بلدانها ما زالت تعاني من الفساد والتخلّف، والتدهور الاقتصادي، وكبت الحريات المستفحل بعد "الربيع العربي".

إعلان

إن نجاح الثورة في إسقاط النظام، ومن ثم نجاحها لاحقًا في ترتيب الأوضاع الداخلية لسوريا والنهوض بها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، ربما لا يلقى قبولًا لدى بعض الأنظمة المستبّدة القائمة على التحكم في الشعوب ومقدراتها، ومن هنا ليس مستبعدًا أن تذهب تلك الأنظمة إلى اللعب في أمعاء السوريين بتحريض بعض المتضررين من الثورة، من مخلّفات المرحلة الماضية، ودعمهم لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعِرْقية لزعزعة أمن واستقرار البلد.

وهذا يستدعي الحذر، بتمتين البيئة السورية الداخلية، والانفتاح على الدول العربية وطمأنتها على قاعدة احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وفتح أبواب التعاون مع من يريد الخير لسوريا والمنطقة.

إسرائيل والمنظومة الغربية

في خطٍ موازٍ، الاحتلال الإسرائيلي هو الآخر قلق من مآلات الثورة السورية، فالحرية لأي شعب عربي ليست في صالح إسرائيل، علاوة على أن تل أبيب، تخشى من الثوار الجدد بصبغتهم الإسلامية، الأمر الذي تلتقي عليه المنظومة الغربية أيضًا، لقناعتهم أن الإسلاميين برؤيتهم القيَميّة والسياسية وتطلعهم للاستقلال والنهوض كأمّه، يشكل ذلك تحديًا لهم ولدولهم المهيمنة والمسيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسّط، ومصادر الطاقة، والسوق الاستهلاكي في عموم الدول العربية.

إسرائيلُ المحتلة لفلسطين ولأراضٍ سورية، والدولُ الغربية "الديمقراطية" ذات الطابع الاستعماري، لن تكون مسرورة كثيرًا من التغيّر الذي يقود سوريا وشعبها إلى الحرية والاستقلال والنهوض، فسوريا ليست بلدًا هامشيًا في العالم العربي، ولذلك فإن تلك الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ستسعى لاحتواء أي نظام جديد في دمشق وفقًا لسياستها الخارجية وخطوطها الحمر، ومنها إسرائيل ومصالحها، كأحد أهم محددات العلاقة مع واشنطن، التي تملك القدرة على محاصرة أي بلد عبر نفوذها في المؤسسات الدولية، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية العابرة للقارات.

إعلان

لذلك فإن المرحلة القادمة، ستشهد جولات من التواصل والحوارات بين دمشق والعالم الغربي وخاصة واشنطن، لاطمئنان الأخيرة بألا تصبح سوريا الجديدة تهديدًا لـ "مصالحها"، وستكون ملفات معقّدة موضوعة على الطاولة ومنها؛ إسرائيل واحتلالها لأراضٍ سورية، والنفوذ الإيراني، وملف الأكراد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة؛ بذريعة محاربة تنظيم الدولة، وطبيعة الحكم في دمشق وسياسته الداخلية والخارجية.

فالولايات المتحدة ستحاول جاهدة ابتزاز دمشق وقيادة الثورة؛ بهدف تدجينها وتكييفها بما يتلاءم مع مصالح المنظومة الغربية، تحت سيف التهديد بعدم الاعتراف بالنظام الجديد، ومحاصرته والتضييق على الشعب السوري إذا اقتضى الأمر، فالمنظومة الغربية وفي مقدمتها واشنطن يهمّها مصالحها ومصالحها، فقط بغض النظر عن القيم الإنسانية وحرية الشعوب وحقوق الإنسان، وخير شاهد على ذلك ما يحصل للشعب الفلسطيني من إبادة جماعية بغطاء وسلاح أميركي في قطاع غزة.

إيران خسرت ولكن

سقوط نظام الأسد، شكّل خسارة كبيرة لطهران، التي دفعت أثمانًا كبيرة لحمايته منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية، باعتباره حليفًا إستراتيجيًا، أتاح لإيران الاستفادة من الجغرافيا السياسية لموقع سوريا شرق المتوسّط، وبكونها ممرًا بريًا إجباريًا للوصول إلى لبنان وحزب الله اللبناني.

خسارة إيران في سوريا مركّبة، فهي لم تخسر نظامًا وإنما خسرت بلدًا كاملًا بأرضه وشعبه؛ بسبب موقفها المعادي للثورة السورية منذ العام 2011، واشتراكها أمنيًا وعسكريًا مع حزب الله والعديد من الفصائل الطائفية في إسناد بشار الأسد ونظامه المسؤول عن سقوط مئات آلاف الضحايا، وتدمير المدن، وتشريد نصف الشعب السوري.

ما سيعقّد المشهد أمام إيران ومستقبل علاقتها بدمشق والقيادة الجديدة، اتهامها فصائل الثورة بعد دخولها دمشق وهروب بشار الأسد، بأنها أدوات لقوى أجنبية، وتلويحها بأن الأمر لن يستقر لها في سوريا.

إعلان

إن لم تستدرك طهران على موقفها، واعترفت بالأمر الواقع الذي صنعته الثورة السورية ورحّب به الشعب السوري، فإن خسارتها ستتعاظم، لأن سوريا هي صلة الوصل بين إيران ولبنان، وهي الأكثر تأثيرًا على البيئة اللبنانية التي تتنفس من العمق والجغرافيا السوريّة.

من مصلحة إيران أن تعيد النظر في موقفها من الثورة السورية؛ لأنها تعبير عن إرادة شعب نشد حريّته أولًا، وثانيًا لأن حزب الله اللبناني ليس في وضع جيد بعد المعركة الأخيرة مع الاحتلال الإسرائيلي، وما زال خاضعًا لمقتضيات القرار 1701، ولموجبات اتفاق وقف إطلاق النار بإشراف الأمم المتحدة، وفرنسا، والولايات المتحدة الحليف الأوثق لإسرائيل التي تتربص بلبنان، وقد لا تنسحب من أراضيه التي احتلتها خلال العدوان الأخير.

إن مصلحة إيران وحزب الله اللبناني تقتضي، التعامل بإيجابية مع الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وتأييد الشعب السوري وتطلعاته، وطي صفحة الماضي، والبناء على ما استجد من واقع، حتى وإن جاء متعارضًا مع مواقف إيران وسياساتها السابقة.

حرية الشعب السوري وحقه في تقرير مصيره لا تتناقض مع مصالح القضية الفلسطينية، فالشعب السوري كان وسيبقى داعمًا وسندًا طبيعيًا لفلسطين، والتقاطع مع سوريا الجديدة سيخدم هذا التوجّه، فالثورة السورية والشعب السوري مع فلسطين قبل وبعد الأسد، وهذا مدعاة لتدوير الزوايا الحادة في العلاقات السياسية على قاعدة احترام سيادة الدول، وإرادة شعوبها.

من يملأ الفراغ؟

تعد تركيا بعد الشعب السوري، الرابح الأكبر من نجاح الثورة، فهي التي دعمتها منذ العام 2011، واستقبلت في سياقها أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، وبعد تعنّت بشار الأسد ورفضه التسوية السياسية، أعطت تركيا الغطاء لفصائل الثورة لأن تتقدّم نحو حلب، ومن ثم حمص، وحماة، ودمشق.

الاستقرار الحكومي والمجتمعي في سوريا، ووحدة الأراضي السورية، يعدّان محدّدين مهمّين للأمن القومي التركي، لأن الاستقرار يعني فرصًا كبيرة للاستثمار في العلاقات الثنائية في كافة المجالات بين بلدين مهمّين يربط بينهما تاريخ مشترك، وحدود تصل لنحو 900 كيلومتر.

إعلان

كما أن وحدة الأراضي السورية، ستمنع شبح قيام كيان سياسي كردي على الحدود التركية الجنوبية، فتركيا ترى في أي كيان سياسي عِرقي/كردي على حدودها، أنه سيؤثّر على تركيا مباشرة وعلى استقرارها الداخلي، فهي ما زالت تعيش أزمة علاقة مع شرائح من المكوّن الكردي التركي داخل أراضيها، بمعنى أن وحدة الأراضي السورية تعني وحدة للأراضي التركية أيضًا.

إذن تركيا علاوة على أنها رابحة، فهي ستعمل على دعم سوريا الجديدة في كل القطاعات السياسية والاقتصادية والطبية والبنى التحتية والأمنية والعسكرية؛ لأن نجاح التجربة السورية سيعد نجاحًا لتركيا ولأمنها القومي من منظور إستراتيجي.

ومن هنا فإن دخول تركيا وقطر الدولتين الصديقتين، والداعمتين للثورة السورية، سيكون فرصة كبيرة لهما كما لسوريا الجديدة، للاستثمار وبناء الشراكات الإستراتيجية، ولعل وزن الدولتين؛ قطر وتركيا في الإقليم سيكون عاملًا مساعدًا لسوريا لتجاوز التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية، ومواجهة فرضيات الحصار، أو العبث بأمن واستقرار سوريا في المدى المنظور.

يبقى الرابح الأكبر هو الشعب السوري، الذي امتلك طريق الحرية والحق في تقرير مصيره، وبلا شك أن نجاح السوريين في إدارة بلدهم سيكون خيرًا، ليس فقط لسوريا، وإنما للمنطقة وأصدقاء الشعب السوري، الذي تحمّل عناءً وظلمًا استثنائيًا آن له أن ينتهي.

سوريا الجديدة ستعيد رسم ميزان القوى في الشرق الأوسط، وستعيد تركيب التحالفات في المنطقة، فنحن على أعتاب ميزان قوى إقليمي جديد؛ ففي الوقت الذي بدأت فيه إيران تتراجع في سوريا ولبنان، وقد يتأثر حضورها لاحقًا في العراق، فإن تركيا تستعد لملء الفراغ شرق المتوسّط المتاخم لحدودها الجنوبية والذي يعد ضمن مجالها الحيوي.

هذا تحوّل إقليمي مهم، وتموضع ستنحاز له بعض الدول العربية الأقرب لتركيا وسوريا الثورة، وتناوئه دول أخرى لا تلتقي مع تركيا لأسباب تنافسية أو لأسباب أيديولوجية على قاعدة رفض حكم الإسلاميين إن كانوا بلحية أم بربطة عنق، أو لأسباب دولية تتعلق بنظرة الولايات المتحدة الأميركية المستقبلية لهذا التموضع، فالعديد من الدول تحرص على البقاء في الفلك الأميركي وما يقتضيه ذلك من مواقف سياسية.

إعلان

سوريا الجديدة ونجاح الثورة السورية، يعدّ ذلك مُعْطًى مهمًا على أعتاب مرحلة حسّاسة يعيشها الشرق الأوسط، فالمنطقة تعيش مخاضًا لم ينته بعد؛ إن كان في فلسطين، ولبنان، والعراق، وإيران، واليمن، وشرق المتوسّط، والبحر الأحمر، فالمنطقة تسير على سطح رمال متحرّكة تحتاج الكثير من الوقت والجهد والمعارك حتى تستقر، وأحد أهم معالم استقرارها أن تملك الشعوب حريّتها وحقها في تقرير مصيرها، وهذا مشوار طويل ولكنه ربما بدأ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الثورة السوریة سوریا الجدیدة الشعب السوری المتوس ط فی سوریا نجاح ا

إقرأ أيضاً:

في وقفة انقلاب 25 مايو: رد أستاذنا عبد الخالق محجوب على أحمد سليمان المحامي في اقتراحه حول دور للقوات المسلحة في تغيير الحكم

عبد الله علي إبراهيم


"ولا سبيل لهذا الاستقرار في نظري غير حماية القوات المسلحة التي يجب الاعتراف بها كقوة مؤثرة وكعامل فعال في حياة البلاد السياسية. إن الجيش هو القوة الوحيدة التي تستطيع أن تحمي الميثاق المنشود وحكومته والتي تقدر على ردع المارقين والمغامرين على وحدته العابثين بمكاسبه". أحمد سليمان، جريدة الأيام 5 و6 و8 ديسمبر 1968


في مجالس الناس كثر الحديث عن القوات المسلحة بوصفها الأمل الوحيد للإنقاذ. والحديث بهذا الإجمال خطر ويتجاهل تجربة الشعب في بلادنا. فقد خبر السودان طيلة ست سنوات حكماً عسكرياً بعينه هو حكم كبار الجنرالات من المستوى المركزي إلى مستوى الإدارة الإقليمية. وما خرج عملهم ونشاطهم في حيز القضايا الجوهرية التي تواجه بلادنا بعد الاستقلال عن بعض الإجراءات وما استطاعوا، وما كان لهم ولا في مصلحتهم، إحداث تغيير جوهري في طريق تطور بلادنا.


وحاجة بلادنا التاريخية ليست اليوم في مستوى بعض الإجراءات مثل الضبط والربط والتنفيذ السريع. كما أنها ترفض قطعاً المسخ الذي سموه حزماً وسياسة فكان وبالاً على حركة الثورة في بلادنا: احتقر كل فكر تقدمي وأهانه، وعزل بلادنا عن كل تقدم فأصبحت مريض أفريقيا والعالم العربي بحق. وشعبنا يعرف جيداً أن طريق الرأسمالية والخضوع لمتطلبات رأس المال الأجنبي التي اصابت الحرية الوطنية في الصميم ما وجدت تمهيداً كما وجدته أيام حكم الجنرالات.


إن الحديث عن أجهزة الدولة بوصفها قوة اجتماعية منفصلة عن بقية المجتمع، ومن ثم اعتبارها شئياً مميزاً عن الفئات والطبقات التي جربت السلطة وفشلت غير سليم ومجاف للحقيقة.


الجماهير المستنيرة التي صنعت وتصنع الآن تاريخ بلادنا ما عادت تحتمل تحليل مجريات الأمور جزئياً. فهي في الحركة السياسية تتخطى سريعاً التحليل في إطار الأحزاب (هذا الحزب أفضل من ذاك إلخ). إن وعياً متزايداً بالنفاذ وراء التقسيمات الحزبية إلى الصور الطبقية الحقيقية يشرق على أقسام من جماهير الشعب السوداني بعد تجارب مريرة من الأمل والانتظار. وقف شعبنا على باب الوطني الاتحادي حتى مل الوقوف ورجع آسفاً حزيناً. وعلى أبواب حزب الشعب الديمقراطي. وبعد أكتوبر تكرر نفس المشهد إلا أن الفترة كانت قصيرة وانصرف الشعب في طريقه. وعبر التقسيمات الحزبية تظهر بوضوح التقسيمات الطبقية التي تشد الأحزاب لبعضها وتؤكد أن السقوط في الحكم وفي ميدان التنمية، عصب التقدم، ليس سقوطاً للأحزاب منفصلة عن بعضها، بل هو سقوط لنادي الرأسمالية والطائفيين وعناصر التخلف في الزراعة بشقيها.


والقوات المسلحة لا تخرج من إطار التحليل الطبقي، وتشكل في مستواها الأعلى، بالتجربة، جزءاً من النادي الذي سقط طريقه الاقتصادي وأصبح لا مفر من نظام سياسي يَعُقب القوى التي حكمتنا من قبل وتحكم اليوم فعلياً على تعدد الحكومات الحزبية والعسكرية. وفي ثورة أكتوبر، ولفترة بسيطة، امتحن أيضاً شعبنا في القيادة الفئة العليا من البرجوازية الصغيرة، وخاصة بين أوساط المثقفين، وما استطاعت هذه الفئة، رغم منجزاتها، أن تمنح شعبنا القيادة. فقد كانت أضعف من هذه المهمة التاريخية الثقيلة. فقد كان التفاف الجماهير المتقدمة حول جبهة الهئيات، قائدة الإضراب السياسي والقوة الرئيسية في إسقاط الحكم العسكري، يعبر عن رغبة شعبنا في السير وراء قيادة جديدة تستطيع أن تحل مشاكله المزمنة لفترة ما بعد الاستقلال. وما انهارت جبهة الهيئات لأنه فرض عليها صراع صناعي بين الشيوعيين والإخوان المسلمين. هذا تفسير غير مرض لتجربة شعبية ذات أبعاد واسعة ومعان عميقة.


ما كان الصراع إيديولوجيا بين طريق جديد يعلن سقوط الطريق الشائك الذي أدمى السير عليه اقدام شعبنا ويشق منفذاً جديداً للتقدم وبين الطريق القديم. وقد كان الإخوان المسلمون وما زالوا بين البرجوازية الصغيرة الممثلين لمصالح النادي القديم الساقط في امتحان القيادة. وفي اللحظات الحاسمة عجزت الفئة الاجتماعية الجديدة، التي منحها الشعب تأييدا بالغاً، عن فهم وإدراك الحقيقة الأساسية للسير بالثورة للأمام وأعنى قضية الديمقراطية. لقد رجحت تلك الفئة، إلا من قلة مارست النضال العملي بعد الاستقلال وأخرى انتقلت إلى مواقع النظرية الشاملة للتقدم الاجتماعي، رجحت الديمقراطية الليبرالية المشوهة طريقاً للسلطة في بلادنا. وكان هذا اختياراً للطريق القديم. فالديمقراطية الليبرالية المشوهة والتنمية الرأسمالية هما لب سلطة النادي القديم في بلادنا.
إذا فالسلطة الجديدة يُبحث عنها في إطار مفهوم ثوري جديد للديمقراطية يدعو كنتيجة منطقية له قوات اجتماعية جديدة لقيادة النادي. يدعو الناس الذين مصلحتهم التاريخية المطابقة لمصلحة أغلبية امتنا بالتمسك بتلك الديمقراطية (اضطراب في النص الأصل) وحل مشكلة السلطة السياسية على هذا المفهوم. ولن نمل القول بأن هذا النادي تقوم دعائمه بين الطبقات الحديثة في بلادنا من عمال ومثقفين ثوريين وجماهير كادحة في القرى والبوادي ومن رأسمالية وطنية ذات القدرة حقاً على العمل في ميدان التنمية لا تلك الطفيلية في المجتمع.


والقيادة في هذا النادي لا يمكن أن تكون مفروضة، بل هي تنبع من المهمة الجوهرية التي تتجمع حولها تلك القوى الاجتماعية، ومن حقيقة أن الطبقات الحاكمة منذ الاستقلال حتى اليوم فشلت في مواجهة (الأزمة) وحلها بطريقة سليمة. ولذا لم يعد هناك من مناص من الاعتراف بأن المهمة الجوهرية لشعبنا بعد الاستقلال، أو التي تتحكم في سير خطاه وتفسر كثيراً من المظاهر التي تثير في النفس السخط من حياتنا الاجتماعية والثقافية، هي النهضة الاقتصادية. ,إذا أصبح أمراً متفقاً عليه بأن البديل للخطة الراهنة لحل مهمة النهضة الاقتصادية، والتي فشلت على مدى ثلاثة عشر عاماً من الاستقلال، هي خطة للتنمية على غير طريق الرأسمالية، فإن قيادة العاملين فكراً وواقعاً هي النتيجة المنطقية للسنوات والأيام المظلمة التي عاشها الشعب السوداني منذ الاستقلال.


وفي نهوض السلطة الجديدة بين أوساط الشعب الواسعة، بين لهيب الامتحان القاسي الذي تفرضه الثورة المضادة بين قوى الشعب في بلادنا، وبين البحث الجاد عن أخطاء ونقائص وفضائل العمل الثوري توضع الضمانات والشروط اللازمة لقيام تجمع طبقي جديد مضمون القيادة والثبات، واضح فكرياً لا في مهمة السير بالثورة الوطنية الديمقراطية قدماً، بل واضح أيضاً في الآفاق الاجتماعية لتلك الثورة.


ما عاد ممكناً استبعاد النظرية الماركسية عندما تطرح قضية الوضوح لهذا التجمع الطبقي البديل للنادي القديم. فقد دفعت الحركات الشعبية الثمن غالياً وهي تقيم بينها وبين الماركسية حجاباً مصطنعاً وتسلك طريق التجريب باستبعاد الماركسية. عجزت أقسام كبيرة من الفئات الاجتماعية القائدة على التقدم في العالم الثالث عن أن تضع الصيغة السليمة للتحالف بين الطبقات الثورية. عجزت تلك الأقسام في تطبيق مفهوم سليم للديمقراطية الثورية التي ترفع من نشاط الجماهير الشعبية وتطلق قدراتها الخلاقة وتجعلها رقيبة بالفعل على السلطة، وتقيد في نفس الوقت النشاط المعادي للثورة. عجزت عن تبني مفهوماً ثورياً لطبيعة جهاز الدولة القديم وطبيعة الدولة ذاتها فانقلب ذلك وبالاً على حركة التقدم. وأصبحت أجهزة الدولة القديمة أداة من أدوات الثورة المضادة التي تلف بليلها الحالك كثيراً من بلدان آسيا وأفريقيا.


وكل هذه العقبات التي تفرضها فرضاً المراحل العليا من الثورة الوطنية الديمقراطية تجد إجابة واضحة في التطبيق الماركسي بين ظروف حركة التحرر الوطني العالمية. وكل فئة اجتماعية جادة في هذه الظروف لابد أن تعمل الفكر في تلك القضايا وتديم التأمل. فخطر، أي خطر، اجهاض هذه الثورة الفكرية وتحويل التغيير الثوري الذي يسير في باطن مجتمعنا إلى مجرد شكليات، وانتقال السلطة دون وجود مقومات حقيقية لكي تصبح السلطة الجديدة ملبية للمرحلة الحالية من تطور بلادنا.


وفي اعتقادي أنه لكي تصعد طبقات اجتماعية للسلطة وتستعملها في مستوى ما وصلت إليه مرحلة التطور الثوري في بلادنا فإنه لا بديل للعمل الشعبي بوصفه مركز الثقل. وتجربة العالم الثالث تؤكد أن هناك أكثر من شكل واحد لذلك الانتقال.


ibrahima@missouri.edu


 

مقالات مشابهة

  • تأكيداً على وحدة الشعب السوري وتلاحمه.. المهندس كده يلتقي وفداً من الطائفة الشيعية الكريمة
  • السلطات السورية تغلق بحضور ممثلين عن المغرب المباني التي استخدمها انفصاليو “البوليساريو” في دمشق
  • سوريا تؤكد إغلاق المقرات التي كان يشغلها انفصاليو البوليساريو
  • في وقفة انقلاب 25 مايو: رد أستاذنا عبد الخالق محجوب على أحمد سليمان المحامي في اقتراحه حول دور للقوات المسلحة في تغيير الحكم
  • وقفة مسلحة في بني الحارث بالأمانة دعماً لغزة والبراءة من الخونة
  • اللواء أبو قصرة: سنبني جيشاً له عقيدة عسكرية وطنية تحمي الشعب السوري
  • اللواء أبو قصرة: نتعاون مع وزارة الداخلية في ملاحقة فلول النظام وضبط السلاح وحصره بيد الدولة ومنع أي تعديات أو تجاوزات على الشعب السوري
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في لقاء خاص مع قناة الإخبارية السورية: صورة وسمعة الجيش السوري السابق مشوهة بسبب ما قام به من جرائم بحق الشعب السوري، ونحن اليوم نسعى لترميم هذه الفجوة بين الجيش والشعب
  • معرض في دمشق يوثق لافتات أهالي بلدة كفرنبل بريف إدلب أثناء الثورة السورية المباركة
  • رغم اللوائح والتعليمات.. السلطة السورية الجديدة أمام تحدي فرض القوانين وواقع الحال