التكلفة الحقيقية لفك الارتباط بالدولار
تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT
بن ستيل
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شكلت الولايات المتحدة أكثر من نصف الناتج الاقتصادي والاحتياطيات من الذهب على مستوى العالم. وكانت المملكة المتحدة آنذاك تعاني من الإفلاس بالفعل؛ وظلت باقي المناطق التي تستخدم عملة الجنيه الاسترليني مرتبطة بعضها مع بعض بضوابط رأس المال والتجارة. وبمجرد أن أصبح الجنيه البريطاني قابلًا للتحويل في يوليو 1947، بسبب إصرار الولايات المتحدة، استسلم لضغوط البيع الهائلة.
وفي حين تمثل الولايات المتحدة اليوم 25 في المائة فقط من الناتج العالمي، ما زالت مشاركة الدولار تشكل نسبة 90 في المائة تقريبا من جميع معاملات الصرف الأجنبي. ومع أن الدولار له دور مركزي في التجارة والاقتراض عبر الحدود، إلا أن نسبته من احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي قد انخفضت من 72 في المائة في عام 2000 إلى 59 في المائة اليوم. وبناء على الانتقادات القاسية الأخيرة التي وجهها المسؤولون في الصين، وروسيا، والبرازيل، والمملكة العربية السعودية، وأماكن أخرى للسياسة المتعلقة بالعملة الأمريكية، فقد تظهر، إذَن، بوادر توحي باقتراب نهاية الهيمنة المطلقة للدولار، وسيكون لذلك عواقب اقتصادية عالمية بعيدة المدى. إن الأمر الأهم هو أن أكبر خطر يهدد هيمنة الدولار لا يتمثل في البدائل المنافسة، بل في الحكومة الأمريكية نفسها. وخير مثال على ذلك هو المواجهة الأخيرة بشأن سقف الديون الفيدرالية، التي كانت ستُؤدي إلى عدم استقرار مالي على مستوى العالم. إذ دفع احتمال تكرار هذا الصراع الحزبي الطائش إلى ما لانهاية وكالة «فيتش للتصنيف الائتماني» إلى خفض التصنيف الائتماني للبلاد من AAA إلى AA+، مما يشير إلى وجود شكوك في إمكانية استمرار المستثمرين العالميين في إيلاء المصداقية لـ«الثقة والتصديق التام للحكومة الأمريكية». ولكن أكثر ما يشكل تهديدا مباشرا لهيمنة الدولار هو تسليحه المتزايد. ففي حين أن العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة كانت غير فعالة إلى حد كبير في تغيير سلوك بعض الأنظمة إلا أنها سببت أضرارا اقتصادية كبيرة. ومثلما يؤدي الإفراط في استخدام المضادات الحيوية إلى مقاومة مضادات الميكروبات، فإن الاستخدام المفرط للعقوبات يدفع البلدان المستهدفة، وكذلك الأهداف المحتملة، إلى تقليص تعاملها مع النظام المالي الأمريكي. ومع أن هذا التقليص مكلف، إلا أن تكلفته قليلة مقارنةً مع تجميد احتياطيات البنك المركزي، أو حتى الاستيلاء عليها، على سبيل المثال. وقد دافع المعلقون الأمريكيون البارزون عن مثل هذه المصادرة في حالة روسيا، من أجل تعويض أوكرانيا عن التكاليف الباهظة الناجمة عن الغزو الروسي. ولكن إذا فقد الدولار مكانته المتميزة، فما العملة التي يمكن أن تحل محله؟ في الوقت الراهن، العملة الوحيدة التي يمكن أن تكون بديلا واقعيا للدولار هي اليورو، الذي يمثل 20 في المائة من احتياطيات البنك المركزي العالمي. ومع ذلك، فإن جاذبيته تتقوض بسبب تجزئة أسواق الديون السيادية الوطنية في أوروبا، فضلًا على الشكوك العالقة فيما يتعلق باستمرارية الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل في أعقاب خروج المملكة المتحدة. ولا يشكل الرنمينبي الصيني، الذي يمثل أقل من 3 في المائة من الاحتياطيات العالمية، خطرا كبيرا يهدد هيمنة الدولار. إذ نظرا لتدهور تدابير الحماية القانونية في الصين، وصرامة القيود على رأس المال، والتخلف النسبي لأسواق السندات- التي سحب منها المستثمرون الأجانب 91 مليار دولار في عام 2022- لا يزال الرنمينبي أبعد من أن يكون عملة مختزِنة للقيمة ذات مصداقية. وتوقف تدويل العملة قبل عقد من الزمان عندما انتهت تدفقات رأس المال الناتجة عن توقعات باستمرار ارتفاع قيمة العملة.
لذلك، في حين أنه لا ينبغي اعتبار استمرار هيمنة الدولار أمرًا مسلمًا به، لا يوجد حاليًا بديل واحد فعّال يحل محل الدولار. وبدلاً من ذلك، أشار العديد من المعلقين إلى احتمال ظهور عالم «متعدد العملات» يتسم بتراجع دور الدولار. ومع ذلك، فإن هذا العالم لا يتوافق مع النظام التجاري المتعدد الأطراف كما نعرفه.
ومن المؤكد أن البلدان يمكن أن تستغني عن الدولار عن طريق تجارة المقايضة، باستخدام سلع مثل الذهب أو النفط. فالعراق، على سبيل المثال، يتبادل النفط مع إيران مقابل الغاز الطبيعي. ولكن الحكومات لن تكدس العملات التي لا تستخدمها هي ومواطنوها. ومن ثم، فإن تراجع هيمنة الدولار يمكن أن يشير إلى زوال هيكل عالي الكفاءة للتجارة العالمية، حيث يحدَّد تدفق السلع والخدمات بناء على التكلفة والجودة. وبدلًا من ذلك، سيعتمد هذا التدفق على مدى إقبال بلد مصدر ما على عملة أجنبية معينة. وبمجرد أن تتخلى البلدان عن ممارسة تخزين العملات باستخدام فوائض الحساب الجاري، فإنها تضطر إلى تنفيذ القيود التجارية وغيرها من التدابير المشوِهة للحفاظ على أرصدة التجارة الثنائية الثابتة. وهذا هو السبب في كون الدولار، بغض النظر عن عيوبه كعملة احتياطية عالمية، يظل جزءًا لا يتجزأ من النظام التجاري المتعدد الأطراف، الذي أنشئ بموجب الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة لعام 1947، ومنظمة التجارة العالمية التي أسست خلفا له. ومع أن هذا النظام غالبًا ما يتلقى انتقادات من جانب الولايات المتحدة لمساعدته الصين على الصعود عن طريق اتباعها لسياسة الاتِّجَارية، إلا أنه اضطلع بدور حاسم في تحفيز الابتكار العالمي، وخفض التكاليف، وانتشال مئات الملايين من الفقر. ومع أن الولايات المتحدة يمكنها، بل ينبغي لها، أن تفعل المزيد، عن طريق تحسين مستوى التعليم والتدريب، وتقوية شبكات الأمان الاجتماعي، لدعم مواطنيها الذين همّشتهم العولمة، إلا أنها يجب أن تضمن أيضًا حفاظ عملتها على المصداقية اللازمة لمواصلة دعمها للتجارة العالمية. وهذا يعني وضع حد لسياسة حافة الهاوية الحزبية الدورية المرتبطة بالتخلف عن السداد، وممارسة قدر أكبر من الحذر وضبط النفس في استخدام العقوبات المالية من جانب واحد.
بن ستيل مدير الاقتصاد الدولي في مجلس العلاقات الخارجية.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة هیمنة الدولار فی المائة یمکن أن إلا أن
إقرأ أيضاً:
زعيم إيران يقول إنه لا يتوقع نتائج من المحادثات مع الولايات المتحدة
ترجمة وتحرير “يمن مونيتور”
قال المرشد الأعلى الإيراني إنه لا يتوقع أن تؤدي المحادثات غير المباشرة مع الولايات المتحدة إلى “نتائج”، مما يضعف الآمال في تحقيق انفراج، وذلك بعد أن لمح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأسبوع الماضي إلى إحراز تقدم في المفاوضات لإنهاء الأزمة المستمرة منذ فترة طويلة حول برنامج إيران النووي.
وردّ آية الله علي خامنئي، صاحب القرار النهائي في إيران، على إصرار الولايات المتحدة على عدم السماح للجمهورية الإسلامية بتخصيب اليورانيوم، مشيرًا إلى الفجوة الكبيرة بين الطرفين.
وقال: “إن الجمهورية الإسلامية لديها سياسة معينة ستواصل اتباعها”، متهمًا المسؤولين الأمريكيين بالإدلاء بـ”تعليقات غير منطقية”.
وأشار إلى أن الإدارة الإيرانية السابقة انخرطت أيضًا في محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة “ولكنها لم تحقق أي نتيجة. لا نعتقد أن هذه المحادثات ستؤدي إلى نتائج هذه المرة أيضًا. لا نعرف ماذا سيحدث.”
وقد أدت هذه التصريحات إلى ارتفاع وجيز في أسعار النفط العالمية، حيث ارتفع خام برنت بنسبة 1٪ تقريبًا قبل أن يفقد هذه المكاسب.
وجاءت تصريحات خامنئي بعد أيام من تأكيد المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف يوم الأحد أن إدارة ترامب تطالب بالتفكيك الكامل لبرنامج إيران النووي.
وقال ويتكوف، كبير المفاوضين الأمريكيين مع إيران، خلال مقابلة مع برنامج “This Week” على قناة ABC: “لدينا خط أحمر واضح للغاية، وهو التخصيب. لا يمكننا السماح حتى بنسبة 1٪ من القدرة على التخصيب”.
ويقول محللون إيرانيون إن طهران، التي تعيش واحدة من أكثر فتراتها ضعفًا خلال العقود الأخيرة بعد أن تلقت ضربات عسكرية قاسية لها ولحلفائها في المنطقة، تسعى للتوصل إلى اتفاق لكنها لا تريد أن تبدو وكأنها ترضخ لضغوط ترامب.
وقد أكد المسؤولون الإيرانيون مرارًا أن ذلك سيكون غير مقبول، حيث تصرّ طهران على حقها في تخصيب اليورانيوم كطرف موقع على معاهدة عدم الانتشار النووي.
وقال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يوم الثلاثاء إن قدرة إيران على التخصيب “غير قابلة للتفاوض”، رافضًا “المواقف غير المعقولة تمامًا التي كشف عنها المسؤولون الأمريكيون”.
وأضاف عراقجي، الذي يتفاوض مع ويتكوف، في حديثه للتلفزيون الرسمي: “لن نتراجع بأي شكل من الأشكال عن حقوقنا”.
وقد قدّم المسؤولون الأمريكيون إشارات متباينة منذ أن بدأت إدارة ترامب محادثاتها مع طهران حول الأزمة النووية في أبريل/نيسان.
وفي الأسبوع الماضي، قال ترامب إن المفاوضات تحرز تقدمًا، مشيرًا إلى: “نقترب من عقد صفقة ربما”.
وأضاف: “لا يمكنهم امتلاك سلاح نووي. هذا هو الأمر الوحيد. الأمر بسيط جدًا”.
ويؤكد ترامب أنه يريد اتفاقًا، وقد عقدت إيران والولايات المتحدة أربع جولات من المحادثات منذ أبريل. لكنه هدد أيضًا باستخدام القوة العسكرية إذا فشلت الدبلوماسية.
ويحذّر الخبراء من أن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين سيكون بالغ الصعوبة، نظرًا لمستوى انعدام الثقة العميق بينهما وحجم التقدم الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي.
وتعود جذور الأزمة إلى عام 2018 عندما انسحب ترامب بشكل أحادي من الاتفاق الذي وقعته طهران مع إدارة باراك أوباما وقوى عالمية أخرى، والذي نصّ على فرض قيود صارمة على الأنشطة النووية الإيرانية مقابل رفع العقوبات.
وردّت طهران على انسحاب ترامب من الاتفاق وقراره فرض مئات العقوبات على الجمهورية الإسلامية بزيادة كبيرة في عمليات التخصيب.
المصدر: Financial Times
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق عربي ودوليالمتحاربة عفوًا...
من جهته، يُحمِّل الصحفي بلال المريري أطراف الحرب مسؤولية است...
It is so. It cannot be otherwise....
It is so. It cannot be otherwise....
سلام عليكم ورحمة الله وبركاتة...