المسرح العُماني: إبداع بلا صناعة!
تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT
معاوية الرواحي
قبل أن أبدأ في سرد هذا الفيضان من الأفكار المُتهاطِلة على رأسي بسبب حضوري للعرض المسرحي "إصبع روج" في مسرح كلية الدراسات المصرفية والمالية، دعني أضع بعض السياق العُماني على هذا الحدث.
يبدو عاديًا للغاية، حضور ما يمكن أن يُسمى مجرد مسرحية أخرى. ليست الحقيقة هكذا، الحقيقة هي حكاية حركة فنية تعرضت لضربة قاسية عندما حلَّ ذلك الوباء المهول والمُهوَّل على كوكبنا العجيب.
قليلٌ من الأثاث، بطلان اثنان، وقطع أثاث، وإضاءة، ومؤثرات صوتية، هذه كل المكونات المادية التي أعطت لنا هذا العمل الفني، وأي موضوع يُعالجه هذا العمل الفني؟ موضوع يشطر العالم إلى نصفين الآن، أزلي من حيث طبيعته، جدلي من حيث حضوره، وإنساني من حيث معالجته. المسرحية تعالج موضوع الاضطراب الجِندَرِي (نوع الجنس)، هذا الذي كان مرضًا حتى قررت التشريعات الغربية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وما بعده، ومع تغلُّب اليسار الليبرالي، حتى أصبحت الحقائق البيولوجية لا تعني أي شيء، إنه عصر اختيار الجنس. وعلم النفس هُنا حاضر بقوّته الوصفية، وبقراراته العلمية التي حَرَمَت البشر من علاجٍ كان يُمكن أن يكون قد تطور في هذه اللحظة ليقدم حياةً مختلفةً لكثيرين، على الأقل بعضهم لم يكن يريد ما يحدث له.
الاضطراب الجندري سؤال جوهري في عصرنا المدني الحديث، ولكن أين وصلت إجابات هذا السؤال؟ لا داعي للكثير من الشرح التاريخي، بكل بساطة وصل إلى تجنبه كمشكلة ومعالجة الجوانب العرضية، ولاحقًا إلى الامتثال الجراحي بسبب الضغط السياسي، قرار تشريعي، وتحول إلى حقيقة عالمية تثير استغراب هذا الكوكب الذي عندما يسمح للترف بالحدوث تأتي معه هذه العجائب التي تُنذر بالتغيير، وبالصدامات بين الصفائح التكتونية المكونة للمجتمعات. هذا هو السياق الموضوعي لهذه المسرحية العجيبة بمعنى الكلمة!
المسرحية تتناول بطلين يتناوبان الأدوار، يظهر فيه الممثل وليد المغيزوي وهو يلبس ملابس وردية توحي بذكر مُتأنِّث، ومعه الشخصية الأخرى التي تتولى مختلف الأدوار. الكاتب احتفظ بأسرار الحقيقة لنفسه وبعثر القلق عبر المُمثلين على المُتلقين، على الجمهور الذي كنتُ أرصدُ رِدات فعله بفضول شديد. لم تكن معالجة موضوع التحول الجندري ضحلة، أو تافهة، أو مليئة بالعموميات التي تجعلك تغادر العرض قبل أن يصل إلى رُبعه، المعالجة الداخلية كانت مليئة بالتساؤل وبالشرح لماهية هذا الموضوع، والبطلان، أداءً ونصَّا توليا بكل اقتدار تقمُّص كل هذه الأدوار المتتالية، تارةً شخصية الأم، تارة شخصية الأب، والحبكة تتصاعد، وتتصاعد، حتى تصل إلى تلك المنطقة المتأزمة التي تجمع جميع المعطيات الاجتماعية والثنائية بين البطلين.
السؤال الكبير ليس لماذا النص؟ وليس مشاكله، وليس أخطائه، السؤال الكبير هو كيف يمكن لهذا الحد الأدنى من الصناعة أن يصنع عملًا مسرحيًا مُؤثِّرًا لهذا الحد. موضوع سيكولوجي، عالمي، عُولج من ملامحه الإنسانية دون أن يقوم بتلقين المتلقي المواقف السياسية، والمرافعات، والجدالات على الجاهز، إن لم تكن هذه وظيفة العمل الإبداعي فماذا تكون وظيفته؟
كيف كانت خاتمة هذا العمل، كانت "زبالة" نعم كانت الخاتمة زبالة، وهذه ليست صفة متعلقة بالعرض، هذه إحدى المشاهد التي رمى فيها البطل بعد نهاية التفاعلات نفسه القديمة في "زبالة" حرفيًا، وتخلَّص منها تمامًا. الحقيقة أنَّ هذا الموضوع، كما وصفه البطل في نهاية العرض: خذله العالم. وهنا نأتي إلى الموضوع النفسي في حقيقته، المرتبط بكل التعقيد الاجتماعي، والديني، والجنون الجراحي في هذا العصر الحديث، المساق العلمي الذي بُتر تراكمه بأعذارٍ كلها تذهب للمارسات القديمة في العلاج النفسي، من الذي يستطيع أن يتكلم غير في تطبيق (X) بهذا المقال؟ لا أحد، إلّا أن تنشرَ في جهة آمنة من شرور الليبراليين وقمعيتهم، وهُنا قبلة الشرق تتجلى بشكل شاحبٍ كمنبرٍ يبدو عاديًا بالنسبة لأيامنا العربية، لكن بالنسبة للعالم؟ هُنا يتغير الكلام، هذا العمل لو كان في منطقة غربية لكان الآن مخرجه، وممثلوه عرضة للهجوم غير المُتوقَّف من اليسار المسعور.
آلاف الكلمات في رأسي، عشرات الأفكار تضرب في بعضها البعض، تخرُج من هذه المسرحية إلى السياق الكبير المُتعلِّق بالثقافة في عُمان، قُلت قبل عامين: المسرح هو الحل! هو البداية التي قد تُخرجنا من تلك الرؤية المُترَفة للإبداع؛ باعتباره صلة للعقل الفرد بمعطيات الخلود للتاريخ، ونعم قد يكون للإبداع هذه الوظيفة الوجودية، وربما حتى علاقته بالفناء، ولكن لو شئنا أن نرى تحوُّل الإبداع إلى مهنة حقيقية المسرح، من أوباما وعهده، إلى بايدن، إلى كاميلا هاريس، إلى قرارات مُنظمات علم النفس، إلى تواطؤ المنصات الرقمية، إلى انقسام العالم الحديث، كل هذا يعبُر في عقولنا ونحن نرى هذا العمل الذي يبدو عاديًا في منبرنا العربي، وأصبح صعبًا للغاية في تلك المنابر "الحُرَّة" التي تُعلِّمُنا معاني الحرية كشعوبٍ متأخرة حتى هذه اللحظة تؤمن بتلك الخرافات القديمة والتي من ضمنها (البيولوجيا) المنطقية!
نحن نعيش في عالم غريب، وهذه المسرحية قدَّمت لنا التفاعل الوجداني للفرد، وعذابات من خذلهم العالم حقًا عندما وضعهم أمام خيارات صعبة للغاية، فقدوا تراكمًا علميًا تسابقَ التواطؤ الرأسمالي، والسياسي لقمعه وتحويله إلى جبهة قتال فكرية يدفع ثمنها في النهاية كل هؤلاء الذين ماتوا على هامش الحدث في طريقهم الى التحول إلى "باربي" مُتحوِّلة تُعرض في جميع المنابر.
هذه المسرحية امتدادٌ لأشياء العالم في الناس، لكل ما يمكن أن يقدمه عمل إبداعي، يستحق أن تنتبه له الصناعة هذه التي تؤمن بالمسؤولية الاجتماعية في تنظيف الشواطئ، لإسناد هذه الحركة المسرحية التي تعرَّضت لضربة كورونا، والتي الآن تستعيد أنفاسها بأدوات صناعية بسيطة لوجستيًا، وعظيمة كتأثير لكل هؤلاء المبدعين الذين يكاد بعضهم أن يكون متطوعًا يتلقى التعليمات المُترفة من العقول الثقافية العظيمة التي تُقنعهم أن الإبداع لا يمكن أن يكون مهنةً، وأن التمثيل أداة حضور اجتماعي وليست مسارًا مهنيًا طويل المدى، ليست مهنة.
وهنا أغلق المقال ببدايته، سؤال عُمان الكبير عن الثقافة والاستمرارية فيها، عن الصناعة، والنمو، وتنافس المسارح، وبنائها في كل ولاية، وصناعة هذا النمط الإبداعي، ومواجهة مقاومة التغيير، كل هذا، جزء من المعركة التي تجعل المُبدع مُبدعًا، بدلًا من ملاحقته للدعم، أن يكون للناس، ومن الناس، وإليهم.
ماذا أقول في النهاية؟ أقول: أتمنى، وغيري يتمنى، وتابعت مسرحية جميلة للغاية أتمنى أن أرى حركتها المسرحية القادمة تصنع شيئًا مختلفًا في جمود القوالب الجاهزة التي يحفل بها مكاننا العُماني العجيب!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: هذه المسرحیة هذا العمل أن یکون التی ت
إقرأ أيضاً:
المسرحية الموسيقية «هاميلتون» والمؤرخ رون تشيرنو يحصلان على جائزة ميدالية الحرية
تحصد مسرحية «هاميلتون» الموسيقية على مسرح برودواي، والمؤرخ الذي ألهمه كتابها، على ميدالية الحرية من المركز الوطني للدستور هذا الخريف، وهي جائزة تُمنح تقديرًا لجهود نشر الحرية حول العالم، وذلك في حفل يُقام في أكتوبر في مركز "إندبندنس مول" بفيلادلفيا.
أشاد منظمو الجائزة بالكتاب والمسرحية لما لهما من "تأثير فريد" في إحياء ونشر قصة دستور الولايات المتحدة، وألكسندر هاملتون، الشخصية المحورية في صياغة وثيقة الحكم والترويج لها. وكان أيضًا أول وزير خزانة أمريكي.
أصبحت مسرحية "هاميلتون"، التي عُرضت لأول مرة على مسرح برودواي قبل عقد من الزمان، معلمًا ثقافيًا بارزًا، حيث فازت بجائزة بوليتزر، وجائزة غرامي، و11 جائزة توني.
مؤلف مسرحية «هاميلتون»: الجائزة شرف عظيموصف لين مانويل ميراندا، مؤلف المسرحية الموسيقية، الجائزة بأنها شرف عظيم، وقال في بيان صدر قبل الإعلان الرسمي: "الدستور ليس مجرد قطعة أثرية تاريخية، بل هو تحدٍّ. دعوة للمشاركة، للتعبير عن الرأي، ولتحسين التصور، وللعمل يوميًا نحو اتحاد أكثر كمالًا".
ومن بين كتب تشيرنو العديدة سيرة الرئيسين السابقين جورج واشنطن ويوليسيس إس. غرانت، ومؤخرًا، سيرة الكاتب والفكاهي مارك توين.
وأضاف تشيرنو في بيان: "من خلال كتابتي عن هاميلتون وواشنطن وغرانت، أدركتُ أن الحرية ليست هبةً تتوارثها الأجيال، بل مسؤوليةٌ تتطلب الشجاعة والتنازل والالتزام. لم يكن هؤلاء الرجال كاملين، لكنهم تجرأوا على تصوّر شيءٍ أعظم من أنفسهم".
أُسست ميدالية الحرية عام ١٩٨٨ تكريمًا للذكرى المئوية الثانية لتوقيع دستور الولايات المتحدة عام ١٧٨٧، وكان ومن بين الفائزين بها مؤخرًا قاضية المحكمة العليا الراحلة روث بادر غينسبيرغ، ومخرج الأفلام الوثائقية كين بيرنز من شبكة بي بي إس.
اقرأ أيضاًأهم ليلة على مسرح برودواي.. متى سيُقام حفل توزيع جوائز توني؟
فرقة «فابريكا» تحيي حفلا فنيا على مسرح أوبرا دمنهور
كارا يونج تقترب من صنع التاريخ في برودواي عبر مسرحية «الغرض»