«الصحافة الحكومية».. الصوت والصدى
تاريخ النشر: 19th, February 2025 GMT
لم يعد هناك ما يسمى بـ«صحافة الدولة»، أو «الإعلام الرسمي» -بمفهومه الضيق والمحصور في وجهة نظر واحدة- لقد عفا الزمن عن مثل هذه التسميات التي تؤطر دور الإعلام، وتحصره في مسار واحد، وتقيد حريته، ونشاطه، وتقصر متابعاته الخبرية على الأنشطة الحكومية، لقد تحولت الصحافة إلى الشمولية، والتعددية، وأصبحت أداة للرقابة، وكشف المستور، وإجراء التحقيقات الهادفة، والاستقصائية، وهو ما يعطيها دفعتها للحياة، والبقاء، والنزاهة، فهي يد وعين للحكومة لتنفيذ مشروعاتها، وكشف أوجه القصور، والتقصير فيها، ومتابعة تنفيذها، وهي بذلك تقوم بدورها التنموي بمفهومه غير التقليدي، وكذلك تقوم بدروها في توجيه بوصلة الحكومة، كما تعين الدولة على تقليل هامش الفساد، ووقف إهدار المال العام، وتوجيه موارد الدولة إلى مكانها الصحيح.
إن الحكومات في أي دولة -تسعى إلى المستقبل- لا تحتاج لمن يردد خلفها «آمين»، أو أن يكون مجرد صدى لصوتها، بل تحتاج إلى من يعينها على أداء واجباتها، ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، وتقدم لها صورة واضحة، وحقيقية، ومحايدة للمشهد العام، فالصحافة -بكل قنواتها سواء إذاعة أو تلفزيون أو جرائد- قادرة على النزول إلى الشارع، ومعرفة همس الناس، ونقل قضاياهم، ووجهات نظرهم إلى المسؤولين في الحكومة، ونبش خبايا أمور قد لا تظهر أحيانا للجهات الرسمية، ولذلك يبقى صوت الصحافة مؤثرًا ومحوريًا في عملية التنمية، سواء بشرية أو مادية، وفي كل الأحوال يبقى لصوت الحكومة ودعايتها لمشاريعها، وأجندتها التي تعمل عليها هامش واسع لكي تنقل وجهة نظرها للجمهور، وتركز على أهدافها المشروعة، وتوصل صوتها إلى الناس، وتعكس جهودها، فهذا من حقها، وجزء من رسالتها المجتمعية، مع عدم إغفال وجود مساحة واسعة كذلك للرأي الشعبي العام، ونقل وجهات نظر الناس في الشارع، فهم المعنيون بكل تنمية، لذا يجب فهم آرائهم، وجس نبضهم، وفهم مدى رضاهم عمّا تقدمه الحكومة، والذي سيساعد ولا شك في إشراك الجمهور في خريطة بناء الدولة، وتنمية المجتمع بكل صدق، وشفافية.
لقد حلّت وسائل التواصل الاجتماعي بشتى منصاته مكان الصحافة الحكومية، وغدا الناس يتابعون تلك القنوات؛ لأنهم يرون أنها تنقل ما يعانونه، وتسهم في «تفريغ» الغضب، أو عدم الرضا عن قرار معين، أو مشروع غير ذي جدوى بالنسبة لهم، ولذلك انحسرت متابعة الجمهور للصحافة الرسمية؛ لأنهم يرون أنها تنقل وجهة نظرة واحدة، ووحيدة، وأصبح كثير من وسائل الخبر الحكومية لا تؤدي الغرض منها في نقل صورة حقيقية وواقعية للمشهد في المحيط العام، وهذا منحنى خطير على التنمية البشرية بالذات، وهو بحاجة إلى معالجات حاسمة، وحلول جذرية تعيد الصحافة الرسمية إلى مكانتها، وتعمل على تشكيل وعي مجتمعي مؤثر، وقادر على التغيير الذي تسعى إليه أي حكومة في العالم، وهو يأتي عبر إتاحة مساحة جيدة لسماع صوت المواطن في تلك الدول.
إن تأثير الصحافة على الرأي العام أمر مهم، وضروري، ولا يأتي هذا التأثير من خلال «الطريق ذي الاتجاه الواحد»، بل يكون عبر إتاحة مسارات مختلفة، ومتعددة تنقل كل ما يدور في الشارع، وتتيح الفرصة للجميع -سواء الحكومة أو الجمهور- للتعبير بشكل أكثر شفافية، واحترافية، ومهنية عن آرائهم، وهذا التوازن الإيجابي أحد أهم مرتكزات التنمية المستقبلية لأي مجتمع يسعى إلى بناء نفسه، دون أن يخل بأحد طرفي المعادلة البشرية «الحكومة والشعب».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الجيش الوطني والفيدرالية الديمقراطية
لولا وجود مؤسسة الجيش السوداني، ومهنيته واحترافيته المشهودة، ورسوخ عقيدة الإنتماء والولاء للوطن أولاً وأخيراً، لما بقيت في السودان طوبة واحدة، ولا مواطن واحد، ولأصبحت البلاد ضمن مناطق الاستعمار الاستيطاني، والوصاية الإدارية، والحماية الدولية، برعاية الأمم المتحدة، وتوابعها الإقليمية، وقوى الاستعمار الجديد المتربصة.
ما يحتاجه السودان اليوم، وبإلحاح واثق، هو إجراء تغيير شامل وكامل، في طبيعة وشكل الدولة التي فرضتها سلطة الغزو الاستعماري الخديوي التركي عام 1821م، ثم النسخة الاستعمارية التالية التي تمثلت في الغزو الثنائي الخديوي – الإنجليزي عام 1898م والذي دمر الدولة الوطنية في كرري. فألغى الحاكم العام الجنرال ريجنالد وينجيت الدستور الوطني، الذي ارتضاه وظل يُحكم به شعب السودان من لدن السلطنة الزرقاء، ومنذ أربعة قرون خلت، وبلا انقطاع، فأبدله المستعمر الغازي بالقوانين المستوردة: الإنجليزية – الهندية.. وتم ذلك وفقاً لإتفاقية “الحكم الثنائي” التي تم التوقيع عليها في 19 يناير 1899م من قبل اللورد كرومر، القنصل العام لإنجلترا بمصر، و وزير خارجية مصر الخديوية، بطرس غالي – وهو جد وزير خارجية مصر الأسبق والأمين العام الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة في أوائل التسعينيات.
والشاهد في الشكل والإخراج العام للإتفاقية ورسالتها لشعب السودان، ولكسب مباركة الصليبية الدولية الراعية للغزو، أن الموقّعَين عليها هما من غير المسلمين. فأقدما على فرض دستور مصنوع، تُحكم به بلاد أكثر من 90% من مواطنيها من المسلمين.
فاستتبع ذلك إلغاء كافة قوانين الشريعة الإسلامية، واستبدالها بقوانين العقوبات الهندية – الإنجليزية، التي أقّرت شرب الخمر، وممارسة الدعارة، وصالات القمار، والمعاملات الربوية.
ثم تم تغيير شكل الدولة الوطنية، التي كانت عبارة عن إتحاد سلس بين الفيدرالية والكونفيدرالية الإدارية، وتمارس السلطة عبر قيادات محلية، وتحالفات توافقية بين مكوناتها الأهلية، كمشيخات البجة، وملوك المحس، والميرفاب، والشايقية، والجعليين، ومملكة تقلي، وسلطنة دارفور، وهلم جرا.. فاقتضت المخططات السلطوية الاستعمارية الشمولية الإدارية، وتكريساً للقبضة الأمنية، تجميع كافة السلطات تحت حاكم مركزي قابض، وحاكم بأمره، دون مساءلة ولا رقابة ولا محاسبة. ويعمل تحت إدارته المباشرة المآمير والمفتشون المُعَيّنون بأمره. فليس هناك انتخابات، ولا برلمان، ولا ديمقراطية، ولا يحزنون..
فالحل الشامل المتاح، لتحقيق الإستقلال الإداري والسيادي، والانعتاق من الإرث الإداري الاستعماري الموروث، يتأتى فقط عبر تغيير شكل وطبيعة الدولة المفروضين؛ والتطهر الكامل من ثقافة واستراتيجية الغزو الخديوي العميل، ومبادئ الحكم الثنائي الإدارية، التي أقعدت الدولة الوطنية، ومنذ قرنين، عن النمو والتطور والمواكبة. فبذرت فيها القنابل الجهوية الموقوتة، التي أنتجت حركات التمرد الدموي المتناسلة، والانتفاضات المسلحة المتتالية، والإنقلابات العسكرية. فاستشرى من جراء ذلكم النموذج الاستعماري البغيض التهميش التنموي المستدام، والإستبداد العسكري، والتناحرات العقائدية التي تؤججها الأفكار الإستلابية الوافدة، والممولة من دول الاستعمار الجديد ومن أوليائه الإقليميين.
وتحقيقاً للإرادة الوطنية الجمعية، ولتأكيد وتعزيز سلطة وحكم وإرادة الشعب، يتعين إتخاذ تدابير إجرائية حاسمة، تفضي لبناء سودان جديد، ضمن دولة فيدرالية ديمقراطية وإتحادية، لتدار البلاد عبر التشاور الشعبي الشامل، وبالتراضي العام، وبالمشاركة الشمولية الواسعة، لتأسيس ممارسة سياسية راشدة تقوم على قاعدة وحقوق المواطنة، وتمكين سلطة وسيادة الشعب، لمخاطبة قضايا التنوع الناشزة، وتحقيق العدالة الإجتماعية والاقتصادية، وعبر التوزيع المبصر والعادل للثروة الوطنية، والشراكة في استثمار الموارد القومية، وعبر الشراكة الذكية في ممارسة السلطة، وبعدالة توزيع الثروة، ورفض العمالة، ورفض التدخل الأجنبي في شئون البلاد بكافة صوره وأشكاله .
د. حسن عيسى الطالب
إنضم لقناة النيلين على واتساب