تشارك الزعيمان سعد زغلول ومصطفى النحاس، فى المواقف السياسية المهمة، وفى المناصب ذاتها خلفاً لبعضهما، وفى النفى أيضاً، وكانت النهاية كذلك واحدة، إذ فارقا الحياة فى نفس التاريخ 23 أغسطس، لكن فى عامين مختلفين، تشابهت جنازتا الزعيمين من حيث الحشود الشعبية، وحرقة البكاء عليهما، حيث خرج فى جنازتيهما جميع أطياف الشعب المصرى، فى أول مرة 23 أغسطس 1927، لتوديع زعيم الأمة سعد زغلول، وفى نفس اليوم عام 1965 لتوديع النحاس باشا.
وقد اجتمعت لسعد من مزاياه الشخصية صفة الزعامة الواجبة على المصريين، فهو الفلاح الذى استطاع أن يجمع حوله السواد الأعظم من أبناء الفلاحين، وهو قوام الأمة المصرية، واستطاع أن يقود النهضة الأولى التى اشترك فيها الرجال والنساء، وشملت الأمة كلها، لأنها شملت البيت كله. كما استطاع أن يمحو الفوارق الدينية والعصبية والمذهبية فى الحركة الوطنية، واستطاع أن يقود الشبان المتحمسين كما يقود الشيوخ المحنكين، أو استطاع أن يجمع الجيلين فى ثورة واحدة.
كان الزعيم سعد زغلول ساحراً للفلاح وابن البلد، سمعه فلاح فى قنا، فى الاحتفال بعيد النيروز فبكى، ثم أفاق لنفسه وهو شيخ لم يتعود أن يبكى إلا لحادث يصيبه فى آله أو ماله، فأخذ يسأل من حوله: ما بالى أبكى؟!.. أمات أبي؟ أماتت أمي؟ أغرقت مراكبي؟ أأجدب زرعى؟!.. وما لهذا الرجل يبكينى؟!.. أساحر هو؟!.. أفاتن هو؟!.. والله لا أدرى، ولكن الفلاح الحائر فى بكائه قد بين وأوجز البيان أن سلطان «سعد» على النفوس المصرية حادث كحوادث القدر، أو هو من قبيل تلك العوامل التى ظن الفلاح أنها هى وحدها خليقة لأن تسيل الدموع من عينيه.
هذه الزعامة هى التى التقى حولها المصريون فعلموا أنهم أمة، وعلموا أنهم مسلمون ومسيحيون ولكنهم أمة، وأنهم حضريون وريفيون ولكنهم أمة، فانبعثت للأمة حياة ماثلة إلى جانب حياة كل فرد وكل طبقة كل طائفة وكل جنس وكل دين. وسرى قبس من روح الوحدة المصرية إلى كل أمة فى الشرق تعلم أن شأنها فى طلب الحرية كشأن المصريين، وأن حاجتها إلى الوحدة الوطنية كحاجة المصريين، فظهر الوفاق بين الطوائف فى بلدان، لم تعرف قط وفاقاً ولا رغبة فى وفاق، وأصبح سعد زغلول علماً للنهضة الشرقية بأسرها، لا للنهضة المصرية وحدها، ورمزاً لدعوة الوحدة فى كل بلد ممزق بين العصبيات الداخلية والمطامع الأجنبية.
قال المهاتما غاندى فى مؤتمر هندى عقد فى لندن، عن الزعيم سعد زغلول: «إننى تتبعت سيرة هذا الرجل القدير من سنة 1919، ولا يزال له فى نفسى أثر عظيم، وأنا أعده قدوة وأراه بمثابة أستاذ». وقال غاندى: «إنه اقتدى بسعد فى إعداد طبقة من العاملين فى القضية الهندية، فلا تعتقل طبقة منهم إلا لحق بها خلفاؤها على الأثر، وعن سعد أخذت توحيد العنصرين، ولكنى لم أنجح بعد كما نجح فيه.. إن سعداً ليس للمصريين فقط ولكنه لنا أجمعين».
من تاريخ سعد والنحاس، نتعلم أن الأمة هى مصدر السلطات، وأنها أعلى من السلطة، ومن يملك الحق أعلى كثيراً ممن يملك القوة.. ونتعلم أيضاً الالتزام بسيادة القانون والدفاع عن الدستور مهما كلفهم ذلك من تضحيات، والانحياز للشعب حتى لو كان ثمن ذلك تهديداً مباشرًا لحياتهما. كذلك من الدروس المهمة التى تركها الزعيمان خلفهما، أنه لا يمكن أن تخضع للإرهاب أو التدخل الأجنبى، وأن «سعد» وقف موقفاً واضحاً ضد التدخل فى أعمال وزارته، عندما جرى قتل السير لى ستاك، وأبى أن يخضع للقرار البريطانى. نفس الموقف فإن النحاس باشا ألغى معاهدة 1936 معلناً الكفاح المسلح على الإنجليز فى القناة، وكلاهما سعد والنحاس رفض تسييس الدين، بمعنى استخدامه فى تحقيق أغراض ومصالح شخصية، وهو ما تجلى فى رفض سعد زغلول تنصيب الملك فؤاد «خليفة للمسلمين»، ورفض النحاس باشا تنصيب فاروق فى احتفال دينى، ومواجهته لحسن البنا عندما رفع شعاراته الدينية فى عالم السياسة.
لقد شاءت إرادة الله أن يتوفى زعيما الوفد سعد زغلول ومصطفى النحاس، فى شهر واحد، ويوم واحد 23 أغسطس، وأن يتوفى الزعيم الثالث فؤاد باشا سراج الدين فى نفس الشهر، ولكن قبلهما بأيام، 9 أغسطس عام 2000، بعد أن أسسوا قواعد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقادوا حركة الكفاح ضد المحتل البريطانى، ولا ننسى حركة الكفاح المسلح سنة 1951 التى قادها الوفد بقيادة فؤاد باشا سراج الدين، عندما كان يشغل منصب وزير الداخلية ضد الاحتلال البريطانى فى معركة الإسماعيلية التى تم تحويلها إلى عيد للشرطة يوم 25 يناير من كل عام.
إحياء ذكرى زعماء الوفد واجب وطنى على كل مؤسسات الدولة لأنهم من المؤسسين لتاريخ مصر الحديث والتاريخ العربى بشكل عام، وهم من الشخصيات التاريخية التى أسهمت فى بناء نهضة مصر الحديثة ودافعت عن الوطن ضد المحتل الغاشم، وستظل أسماؤهم محفورة فى تاريخ مصر لما بذلوه من وطنية فى ظل تحديات كثيرة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الشعب المصرى الحركة الوطنية سعد زغلول
إقرأ أيضاً:
محمد شريف باشا.. الرجل الذي كتب دستور مصر الحديث
محمد شريف باشا، واحد من أعمدة السياسة المصرية في القرن التاسع عشر، وأحد الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ وطننا، ولد في فبراير 1826، بين إسطنبول والقاهرة حسب الروايات المختلفة، في بيت أصيل جمع بين العلم والسلطة.
حيث كان والده أحمد شريف باشا قاضيا وشيخ الإسلام في الآستانة، وعاش طفولته وهو محاط بالعلم والهيبة، مما غرس فيه قيم الوطنية والولاء لمصر منذ الصغر، ورغم أصله التركي، كانت مصر بالنسبة له أكثر من وطن، كانت حبه الأول وموطن رسالته السياسية والاجتماعية.
منذ نعومة أظافره، انخرط محمد شريف في مسار علمي وعسكري متميز، التحق بمدرسة الخانكة الحربية التي أنشأها محمد علي، وربطته الدراسة بصلة قوية بأسرة الخديوي، ما أتاح له فرصة نادرة للتعرف على صناع القرار منذ بداياته.
لم يقتصر طموحه على مصر فقط، بل سافر إلى أوروبا ليكمل تعليمه، حيث درس في باريس وسان سير، والتحق بالجيش الفرنسي وتدرج في الرتب العسكرية، حاملا طموحا كبيرا لخدمة وطنه بمجرد عودته.
كانت حياته العملية مليئة بالتحديات والمناصب المهمة، فقد خدم في عهد محمد علي وأبناءه، وشارك في بعثات دبلوماسية لتمثيل مصر في المحافل الدولية، وفي الوقت نفسه كان يتفانى في العمل الداخلي، سواء كناطر للأحكام أو وزير للخارجية أو الداخلية، وساهم في بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
تميز شريف باشا بشجاعة نادرة في الدفاع عن استقلال مصر وكرامة مناصبه، ورفض الخضوع للضغوط الأجنبية، فكان الوزير المصري الوحيد الذي استقال حفاظا على هيبة منصبه عندما واجه ضغطا من لجنة التحقيق الأوروبية بشأن تسوية الدين العام.
تولى شريف باشا رئاسة الوزراء في مصر أربع مرات، وكل وزارة قادها كانت محطة هامة في بناء الدولة الحديثة، فقد أسس النظام الدستوري وأدخل مبدأ المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب، مؤسسا بذلك حجر الأساس للبرلمان المصري الحديث.
لم يكتف بذلك، بل أسس المدارس والمعاهد، نظم التعليم، واهتم بتأهيل الموظفين، مؤكدا أن مصر تحتاج إلى رجال مثقفين ومدركين لأهمية القانون والمؤسسات.
وقد أنشأ المدارس الهندسية، والمدرسة التجهيزية بالقاهرة، ومدرسة الحقوق، وأشرف على إصدار قوانين عسكرية لتحسين حياة الضباط والجنود، كلها خطوات عملية تعكس رؤيته الوطنية العميقة.
محمد شريف باشا لم يكن مجرد سياسي أو إداري ناجح، بل كان رمزا للوطنية والإخلاص لمصر، مقاوما لكل محاولات التدخل الأجنبي، محافظا على سيادة الوطن وكرامة الدولة.
كان يرفض الانصياع لمطالب القوى الاستعمارية مهما كان الثمن، وكان دائما يضع مصلحة مصر فوق أي اعتبار شخصي أو سياسي، هذا الموقف جعله محل احترام وإعجاب الشعب المصري، الذي رأى فيه نموذجا للقائد الوطني الذي يجمع بين الشجاعة والإخلاص والتفاني في خدمة وطنه.
رغم كل نجاحاته، لم ينس محمد شريف الحياة الشخصية، فقد تزوج من ابنة قائده سليمان باشا الفرنساوي، وأنجب أولادا وحفيدات، ليترك إرثا عائليا راسخا إلى جانب إرثه السياسي والاجتماعي.
وتوفي محمد شريف باشا في النمسا عام 1887، لكن محبته لمصر وأثره في تاريخها ظل حيا في قلوب المصريين، الذين شيعوه في القاهرة والإسكندرية تكريما لرجل قضى عمره في خدمة الوطن، يحمل لواء الوطنية والكرامة، ويترك للأجيال درسا خالدا في حب مصر والعمل من أجلها.
محمد شريف باشا، بكل بساطة، لم يكن مجرد رئيس وزراء أو سياسي، بل كان مثالا للوطنية الحقيقية، رجلا حمل على عاتقه بناء الدولة الحديثة، وتأسيس مؤسساتها، والدفاع عن استقلالها، مقدما نموذجا نادرا في التاريخ المصري، يجمع بين العقل، والإخلاص، والشجاعة، والحب العميق لمصر، ليظل اسمه مضيئا في سجل الوطنية المصرية إلى الأبد.