في خطوة تعكس طموحات قوى سياسية واجتماعية نحو إعادة تشكيل المشهد الدستوري في السودان، وقعت الأطراف المكونة لتحالف السودان التأسيسي على الدستور الانتقالي لجمهورية السودان لعام 2025. هذا الدستور، الذي يلغي الوثيقة الدستورية لعام 2019 وجميع القوانين والقرارات والمراسيم السابقة، يمثل قطيعة قانونية وسياسية مع تجارب الحوكمة السابقة، ويؤسس لنظام سياسي جديد يقوم على الديمقراطية، العلمانية، واللامركزية، مما يعكس رؤى القوى الموقعة في إعادة هيكلة الدولة على أسس مختلفة عن تلك التي سادت لعقود.



أحد أبرز ملامح هذا الدستور هو تكريسه لمفهوم فصل الدين عن الدولة، وهو طرح ظل مثار جدل كبير في المشهد السوداني الذي ظل تاريخياً متأرجحاً بين الدولة الدينية والمدنية. بالإضافة إلى ذلك، سعى الدستور إلى إزالة الهوية العرقية والجهوية من مؤسسات الحكم، مع التأكيد على أن المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات. في هذا السياق، يمكن مقارنة هذا النموذج بالنموذج الهندي الذي تبنى دستوراً علمانياً عقب الاستقلال رغم التنوع الديني والعرقي الكبير، ما ساعد في استقرار النظام السياسي على المدى الطويل، على الرغم من التحديات التي واجهته.

أما من حيث نظام الحكم، فقد أقر الدستور الانتقالي اللامركزية السياسية، الإدارية، القانونية، والمالية، حيث أُعيد تقسيم السودان إلى ثمانية أقاليم، لكل منها صلاحيات دستورية دون المساس بوحدة الدولة. ويعكس هذا التوجه مزيجاً بين النموذج الفيدرالي كما هو معمول به في الولايات المتحدة وألمانيا، والنظام اللامركزي كما في بلجيكا، حيث تتعايش الأقاليم المتعددة داخل كيان وطني واحد مع سلطات موسعة. غير أن تحديات التطبيق في السودان تظل معقدة، لا سيما في ظل غياب تقاليد راسخة للحكم اللامركزي، ووجود صراعات عسكرية وجهوية قد تعرقل هذا النموذج.

حدد الدستور الفترة الانتقالية بمرحلتين، تبدأ الأولى من تاريخ سريانه حتى الإعلان الرسمي عن إنهاء الحروب، ثم تعقبها مرحلة انتقالية تأسيسية تمتد لعشر سنوات، وهي مدة طويلة مقارنة بالتجارب الانتقالية في دول ما بعد النزاعات مثل جنوب إفريقيا والبوسنة والهرسك، حيث تراوحت الفترات الانتقالية بين ثلاث إلى خمس سنوات. ويعكس هذا الخيار وعياً بمدى تعقيد المشهد السوداني، إلا أنه يثير تساؤلات حول إمكانية الحفاظ على الاستقرار السياسي طيلة هذه المدة دون نشوب أزمات جديدة.

هياكل السلطة التي نص عليها الدستور تعكس رؤية تتجاوز الأنظمة العسكرية والمدنية الهشة السابقة، إذ تتكون السلطة التشريعية من مجلسين، مجلس الأقاليم ومجلس النواب، مما يعكس محاولة لتحقيق توازن بين التمثيل الشعبي والتمثيل الجهوي. كما تم تحديد نسبة تمثيل النساء بـ 40%، وهو توجه مشابه لما تم تطبيقه في بعض الدول الإفريقية مثل رواندا التي نجحت في تحقيق مشاركة نسائية واسعة في البرلمان، مما أسهم في تحقيق استقرار اجتماعي وسياسي ملحوظ.

في الجانب التنفيذي، نص الدستور على تشكيل مجلس رئاسي يتكون من 15 عضواً يمثلون الأقاليم، مع صلاحيات تعيين وإقالة رئيس الوزراء والقيادات الدستورية. كما أقر بتشكيل حكومة انتقالية بلا محاصصة حزبية، في محاولة للابتعاد عن نظام المحاصصة الذي أثبت فشله في تجارب ما بعد الثورة، كما حدث في العراق ولبنان. غير أن السؤال المطروح هو: هل يمكن فعلاً تجاوز تأثير الأحزاب السياسية في ظل تاريخ طويل من التدخلات السياسية في التعيينات الحكومية؟

أما في ما يتعلق بإعادة هيكلة المؤسسات النظامية، فقد نص الدستور على تأسيس جيش وطني جديد بعقيدة عسكرية غير أيديولوجية، وهو طرح شبيه بالنموذج الجنوب أفريقي بعد نهاية الأبارتيد، حيث تم دمج قوات الفصائل المسلحة السابقة في جيش وطني موحد. لكن تحدي التطبيق في السودان سيكون أكثر تعقيداً بسبب تعدد الفصائل المسلحة واختلاف أجنداتها السياسية. كما نص الدستور على تأسيس قوات شرطة وجهاز أمن جديدين، مع ضمان عدم ولائهما لأي تيارات سياسية أو قبلية، وهو أمر مثالي نظرياً، لكنه في الواقع يتطلب تحولات جوهرية في الثقافة المؤسسية لهذه الأجهزة.

من النقاط المثيرة للجدل في هذا الدستور أنه جعل قوات الدعم السريع والجيش الشعبي لتحرير السودان وحركات الكفاح المسلح نواةً للجيش الجديد، بينما نص على حل مليشيات المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وجميع المليشيات الأخرى. هذا التوجه يعكس انحيازاً واضحاً لبعض القوى المسلحة دون غيرها، مما قد يؤدي إلى مشكلات تتعلق بالعدالة الانتقالية وتوازن القوى بين الفصائل المختلفة، خصوصاً في ظل تجربة السودان مع الصراعات المسلحة التي غالباً ما يعقبها ظهور حركات تمرد جديدة رداً على الإقصاء.

بالمجمل، فإن هذا الدستور يعكس رؤية طموحة لإعادة هيكلة الدولة السودانية بعيداً عن التجارب السابقة التي اتسمت بالمركزية المفرطة والاضطراب السياسي. لكن نجاحه مرهون بمدى قدرة القوى السياسية والعسكرية على الالتزام بمبادئه، وتجاوز العقبات البنيوية التي حالت دون استقرار السودان في العقود الماضية. كما أن المقارنة مع تجارب دولية مشابهة تشير إلى أن أي مشروع تأسيسي بهذا الحجم يحتاج إلى توافق واسع، وإدارة دقيقة للمرحلة الانتقالية، حتى لا يتحول إلى مجرد وثيقة أخرى تُضاف إلى سجل المحاولات الدستورية الفاشلة في السودان.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذا الدستور فی السودان

إقرأ أيضاً:

السوداني يدعو لحماية النظام السياسي

آخر تحديث: 10 يوليوز 2025 - 10:00 ص بغداد/ شبكة أخبار العراق- أكد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، أمس الأربعاء، أن الحكومة لا تسمح لأي طرف يدفع بجعل العراق جزءًا من ساحة الصراع، فيما بين أن العراق يقف بثبات إزاء أي محاولة للعبث بأمنه واستقراره.وذكر بيان لمكتبه ، أن “السوداني أجرى زيارة الى مضيف شيخ عشائر آل شبل في ناحية الحيرة بالنجف محمد آل ثعبان، حيث التقى بعدد من الشيوخ والوجهاء وعموم المواطنين من أبناء الناحية“.وأشار السوداني الى “القيمة الاعتبارية لمضايف العشائر، حيث تشكل أهم الركائز لدعم الدولة والمجتمع، وموقفها في تغيير النظام الدكتاتوري، عندما تصدت العشيرة للمسؤولية وحافظت على مؤسسات الدولة والسلم الأهلي، وتلبية أبناء العشائر لنداء المرجعية بعشرات الآلاف، والتصدي لهجمة عصابات داعش الإرهابية”.وأضاف: “أطلقنا 3 مشاريع للبنى التحتية في محافظة النجف بقيمة 609 مليار دينار، كتخصيصات إضافية للمحافظة، واستلمنا الحكومة في تشرين الأول 2022، في ظل تفاقم أزمة للغذاء العالمي، واليوم نتمتع بالاكتفاء الذاتي للحنطة، وتقدمنا في خطوات الأمن الغذائي“.وأكد أن “الإرهاب اليوم لا يمثل ولا يتمكن من تهديد الدولة العراقية، مبيناً أن “الأجهزة الأمنية تمثل المجتمع في مواجهة التحديات وأبرزها المخدرات التي تفتك بشبابنا، ويجب اتخاذ وقفة مجتمعية الى جانب الإجراءات الأمنية الرادعة“.وبين أنه “يجب توظيف العلاقات المجتمعية بين العشائر لدعم الاستقرار الأمني، وإسكات صوت الفتنة الذي يشجع على الكراهية والتخوين، ونمرّ بظروف غير مسبوقة بالمنطقة، والعدوان يستمر على غزّة ولبنان واليمن وسوريا، وإيران، وموقفنا كان معبراً عن رأي المجتمع العراقي“.ولفت إلى أن “الحكومة تصرفت بمسؤولية على المستويات السياسية والإعلامية والإنسانية، ولا نسمح لأي طرف يدفع بجعل العراق جزءًا من ساحة الصراع، ولم ننخرط في المشاكل والجدل الساعي الى تزييف الحقائق، وتصرفنا بمسؤولية، ولا يشغلنا شيء عن خدمة أهلنا وشعبنا“.واختتم السوداني حديثه: “واقفون بثبات إزاء أي محاولة للعبث بأمن العراق واستقراره، لافتا إلى أن “استحقاق الانتخابات مهم، ويجب تعزيز الثقة بالعملية الانتخابية، والنظام السياسي قائم على سلطة الشعب تحت قبة البرلمان العراقي“.

مقالات مشابهة

  • بالفيديو.. الكشف عن تفاصيل جديدة في جريمة السوداني الذي قتل طليقته الطبيبة وأفراد أسرتها بالسعودية.. قتل زوجته السابقة دفاعاً عن نفسه ووالدتها توفيت نتيجة “كومة سكري” والطفلة ماتت بسبب ضربة طائشة
  • الرئيس اللبناني: مسألة التطبيع مع إسرائيل غير واردة
  • الرئيس اللبناني: مسألة التطبيع غير واردة في سياستنا الراهنة
  • الدستور يُحرّم الترويكا
  • مزيج من الفرص والتحديات.. توقعات برج الدلو لشهر يوليو 2025 | خاص
  • مسرح العبث السوداني
  • رئيس الوزراء السوداني يجتمع مع سفير دولة قطر
  • السوداني يدعو لحماية النظام السياسي
  • أنماط طرائق التفكير السوداني «5»
  • السوداني: ماضون بحصر السلاح بيد الدولة