المسلة:
2025-08-12@08:12:29 GMT

الديمقراطية السائبة: طوفان بلا سدود

تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT

الديمقراطية السائبة: طوفان بلا سدود

8 مارس، 2025

بغداد/المسلة: كتب رياض الفرطوسي

إنها الريح العاتية حين لا تجد جداراً يوقفها، والماء المتدفق حين تُهدم السدود من أمامه، فتتلاعب به المنحدرات، وتأخذه حيث تشاء المصالح، لا حيث تقتضي المصلحة الوطنية. إنها الديمقراطية السائبة، حين يُرفع عنها الغطاء القانوني، وتُترك دون ضوابط تحدد مساراتها، فتصبح بلا هوية، تتأرجح بين الولاء للوطن والانصياع لجهات أجنبية تملي شروطها خلف ستائر المصالح الخفية.

الديمقراطية في العراق، كما وصفها السياسي المستقل الأستاذ عزت الشابندر، تعاني من فقدان الحدود الواضحة التي تحكمها، فهناك سياسيون يتنقلون بين السفارات كما يتنقل العابر بين محطات استراحة، يلتقون بمسؤولين أجانب، ويتفاخرون بالصور التي تجمعهم بهم، وكأنهم حصلوا على ختم القبول من جهات خارجية ترفع شأنهم في الداخل، فيصبح ولاؤهم معلّقاً بين طرفين، لا بين شعبهم ووطنهم.

إن خطورة الديمقراطية السائبة تكمن في أنها تفتح الأبواب لمن هبّ ودبّ ليقدم أوراق اعتماده في المزاد السياسي، متناسياً أن العمل السياسي هو مسؤولية لا مساحة للعبث فيها. حين تصبح الديمقراطية جسراً لعبور المصالح الأجنبية، تتحول إلى أداة اختراق تُضعف الدولة، وتجعلها هشّة أمام العواصف.

الديمقراطية المنتجة التي يمكن أن يضع أسسها الراسخة البرلمان العراقي في مشروعه الإصلاحي، هي الديمقراطية التي يحرص على حمايتها وتطويرها بما يتماشى مع احتياجات التنمية والتطور في العراق، وفي إطار دستوري يجلب الاستقرار والرخاء والازدهار للجميع. إنها الديمقراطية التي تناسبنا، التي تعتبر امتداداً طبيعياً لتاريخنا وحضارتنا، وتراعي قيمنا ومبادئنا وثقافتنا والتطور التاريخي لمجتمعاتنا.

هذه الديمقراطية تختلف اختلافاً جذرياً عن الديمقراطية السائبة التي نرى إفرازاتها عند تصريحات ولقاءات بعض المسؤولين ونتائجها وعواقبها الوخيمة على مستقبل الوضع السياسي، وهو نوع من الانفلات. الأنكى من ذلك أن الغرب مؤمن أن نموذجه الديمقراطي هذا هو أحدث ابتكارات تراكمات الفكر السياسي عبر العصور، وأنه يصلح لكل مكان وكل أمة وشعب وتجمع بشري، ولذلك يعمل على نشر هذا النموذج في العالم، وقد ظهرت تجلياته في وضعنا السياسي من خلال الديمقراطية المشوّهة.

فرض ديمقراطية مستوردة من خارج الحدود هو أبشع أشكال الانفلات، فليس هناك من عاقل يكره الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ولكن الواعي وحده يعرف أن الغرب يستخدم هذه المفردات الجميلة لتحقيق مكاسب سياسية، وزعزعة المجتمعات المستقرة، والضغط على أنظمتها، وخلخلتها، والعبث بمساراتها التاريخية والاجتماعية، ثم السيطرة على مقدراتها بعد إنهاكها بالحروب والنزاعات والفتن.

تؤدي الديمقراطية السائبة إلى قلب مراكز القوة في الدولة على المستوى الإعلامي والسياسي، وتعطل وتعرقل مسيرة البناء، لأنها تساهم في عدم التزام سياسة واحدة، مما يغري الجميع على التجاوز والاستقواء بالخارج على حساب القرار السياسي الداخلي للدولة. الفيلسوف وعالم الاجتماع جان جاك روسو يقول: “هناك شخص يمكن أن يمثل أشخاصاً آخرين لمجرد أنه حاز على عدد أصوات أكبر في الانتخابات، لكن من المفروض أن يعمل لصالح الناخبين، فكيف به إذا عمل ضد مصالح الناخبين سراً وعلانية؟” هنا تأتي أهمية الرقابة البرلمانية، وعلى المسؤولين أن يدركوا أنهم لا يتمتعون بتفويض مفتوح من الناخبين ليقوموا بما يحلو لهم من أعمال.

نحتاج إلى نضج سياسي وبصيرة في الفصل بين الديمقراطية السائبة والديمقراطية المنتجة.

إصلاح المسار قبل فوات الأوان

إن الحاجة مُلحّة اليوم لتشريعات واضحة، تُحدد معايير التعامل مع الجهات الخارجية، وتضع فواصل دقيقة بين العمل السياسي المسموح، والتسيب الذي يؤدي إلى الإضرار بمصالح الدولة. هناك عراقيون يتصلون بمسؤولين أجانب ويزورون السفارات دون علم الحكومة، وبعضهم يحصلون على رواتب وأموال من الدولة ثم يستغلون مواقعهم ضد نظامهم السياسي، وهذا سلوك خطير يجب التصدي له عبر قوانين صارمة ورقابة مشددة.

لا بد أن تُعاد هيكلة الديمقراطية في العراق لتكون ديمقراطية ذات هوية واضحة، لا يعبث بها الانتهازيون، ولا تتقاذفها أمواج المصالح الخارجية. فالوطن أكبر من أن يكون ساحة للتجارب السياسية، وأمنه القومي أقدس من أن يُرهن باتصالات عابثة لا تخدم إلا أصحابها.

إن لم يوضع حد لهذه الديمقراطية المنفلتة، فسيظل العراق ساحةً مشرّعة للنفوذ الخارجي، وستبقى المصالح الوطنية في مهبّ الريح، يتلاعب بها من لا يهمه سوى بقاؤه السياسي، ولو كان ذلك على حساب الأرض والشعب.

فإما ديمقراطية محكومة بالقانون، أو فوضى تتلبّس قناع الديمقراطية، تجرّ الوطن نحو الضياع.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

المصدر: المسلة

إقرأ أيضاً:

الانتخابات بين اجتثاث البعث وتطهير الفساد: معركة قبل التصويت

11 أغسطس، 2025

بغداد/المسلة: يسلط قرار استبعاد عشرات المرشحين من السباق الانتخابي في العراق الضوء على واحدة من أعقد أزمات الحياة السياسية في البلاد، حيث تتقاطع معايير “حسن السيرة والسلوك” مع إرث المساءلة والعدالة وملاحقة الفساد، في مشهد يعكس تشابك القانون بالسياسة وتاريخ الانتماءات الحزبية.

ويكشف الحدث عن استبعاد 66 مرشحاً حتى الآن، وتهديد 75 آخرين بالإقصاء، بأن العملية الانتخابية تدخل هذه المرة بجرعة مكثفة من التصفية المسبقة، قد تحمل ملامح إعادة رسم الخريطة النيابية قبل أن يبدأ الاقتراع.

وتأتي هذه الخطوة في سياق يصفه مراقبون بأنه محاولة متأخرة لتطهير المشهد الانتخابي من إرث الفساد والبعثية، وهي مفردات مشحونة في الذاكرة السياسية العراقية، إذ لا تزال قوانين الاجتثاث والمساءلة تثير جدلاً حول استخدامها كأداة سياسية أو كضمانة أمنية وقانونية.

ويرى بعض المحللين أن استبعاد من تشملهم قضايا جنائية أو شبهة فساد أمر بديهي في أي نظام ديمقراطي، لكن التحدي يكمن في شفافية المعايير وعدم توظيفها لقصم ظهور خصوم سياسيين تحت لافتات قانونية.

ويشير التوقيت إلى أن العراق، قبل أشهر قليلة من انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، يعيش حالة شدّ وجذب بين قوى تريد فتح صفحة جديدة نظيفة، وأخرى ترى أن معركة الاستبعاد تدار بمنطق الحسابات الانتخابية. ويؤكد نشر مقاطع الفيديو والوثائق الرسمية حول الاستبعاد أن المفوضية العليا تسعى لإظهار نفسها كسلطة مستقلة، لكنها تواجه اختباراً حقيقياً في كسب ثقة الشارع الذي تعوّد على التشكيك في نزاهة العملية السياسية.

وتفتح هذه الإجراءات الباب أمام أسئلة أكبر حول مستقبل العملية الديمقراطية في العراق، ومدى قدرة النظام الانتخابي على التوازن بين حماية المؤسسات من الاختراق الفاسد أو البعثي، وبين ضمان حق المشاركة السياسية للجميع ما لم يصدر بحقهم حكم قضائي نهائي.

وفي ظل استمرار الحديث عن قوائم جديدة قادمة، يبدو أن الانتخابات المقبلة قد تتحول إلى اختبار وجودي لبعض القوى والشخصيات التي اعتادت التغلغل في مؤسسات الدولة رغم سجلها المثير للجدل.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • من بغداد إلى بيروت.. لاريجاني و خرائط جديدة لمحور الممانعة
  • سكة الحديد بين العراق وإيران.. حلم جيوسياسي يصطدم بعقبة الشركات
  • الموارد المائية: نصف احتياطي مياهنا الجوفية موجود في الاقليم
  • العراق في عز الصيف.. والوزارة تعلن الانطفاء التام للكهرباء
  • العراق وإيران يوقعان مذكرة تفاهم أمنية بشأن الحدود
  • الانتخابات بين اجتثاث البعث وتطهير الفساد: معركة قبل التصويت
  • لاريجاني إلى بغداد لتوقيع اتفاقية أمنية
  • تدقيق المرشحين ضمانة الديمقراطية وحماية للعراق من اختراقات الماضي
  • تركيا تؤكد مضي اتفاق إطلاق الدفعات المائية إلى العراق
  • أشعة الشمس تجفف سدود حصاد الأمطار في كركوك