الاستعراض الأمريكي في الوقت الضائع
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
علي بن مسعود المعشني
عندما خرج الأمريكان من العراق وسحبوا قواتهم في جنح الظلام عام 2011، بعد أن تيقنوا من استحالة حصولهم على معاهدة بمباركة شعبية عبر الاستفتاء الشعبي نتيجة الرفض الشعبي لهم، واكتفوا باتفاقية مع الحكومة كبديل عن المعاهدة المستحيلة؛ حيث جعل الأمريكان من الاتفاقية والانسحاب نصرًا مدويًا لهم وعلى طريقة هوليود المعروفة عنهم!!
المهم في توقيت الانسحاب، أنه جاء بعد خسائر فادحة تكبدتها القوات الأمريكية ورديفها من الحلفاء ومرتزقة "بلاك ووتر" نتيجة ضراوة فصائل المقاومة التي لم يعرها الأمريكيون والحلفاء التقييم اللائق بها، كما إن السبب الرئيس الآخر للانسحاب المُخزي أتى نتيجة تقادم الأسلحة الاستراتيجية للجيش الأمريكي وخروجها الفعلي من الخدمة، وهذا ما دفع برئيس الأركان المشتركة الأمريكي حينها للتصريح بالقول إن الجيش الأمريكي غير قادر على خوض أي حرب خارج الولايات المتحدة الأمريكية قبل حلول عام 2023.
لهذا السبب لم يتفاعل الجيش الأمريكي مُطلقًا مع تهديدات الرئيس باراك أوباما عام 2013 بتوجيه ضربة عسكرية إلى سوريا بعد الاتهام المزعوم باستخدام السلاح الكيماوي؛ حيث رفضت قيادة الجيش الأمريكي تلك الضربة رغم تنازلات الرئيس وتخفيضه لبنك الأهداف مرارًا، وتصريحه بأن الضربة ستكون صاروخية فقط ولن تحتاج إلى تواجد عسكري على الأرض، لكن القيادة العسكرية احتفظت بقناعتها بعدم جهوزية الجيش الأمريكي للقيام بأي عملية عسكرية، والحاجة الماسة إلى ترميم عدته وعتاده بعد مستنقعي أفغانستان والعراق.
اليوم نحن في عام 2023، العام الموعود لترميم عدة وعتاد الجيش الأمريكي وجهوزيته لخوض مهام قتالية خارج جغرافيته، لكن المتغيرات على الأرض اليوم كثيرة ولم تعد تسعف الأمريكي للعب دور "سوبر مان" كما كان سابقًا.
الأمريكان أوفياء جدًا في حماية ربيبتهم المسماة إسرائيل، فهي قاعدتهم المتقدمة وذراعهم التخريبي في قلب "خير أمة أخرجت للناس"، وبالتالي لن يألو جهدًا أو يدخروه في سبيل تحقيق ذلك. والأمريكان، في المقابل، يعلمون- لكنهم لا يدركون- أن صنيعتهم الكيان الصهيوني محاطٌ ببحر من الكراهية والبغضاء وتراكم الثأرات مع الأمة العربية، وأن هذا الكيان اليوم أصبح في حكم الزائل بعد تحول تلك المشاعر إلى أفعال يومية على الأرض، لهذا فلن تنفعهم إقامة منطقة عازلة حصينة اليوم بين العراق وسوريا؛ لأن الصواريخ والمُسيّرات لا تعترف بالحدود والمناطق العازلة على الأرض، ولأن أسرار تلك الأسلحة أصبحت في متناول جميع مكونات حلف المقاومة من أقطار وفصائل، وبالتالي فذريعة التهريب والإنفاق وإغلاق الحدود، أصبحت من الماضي.
الأمريكان بوجودهم اليوم على الأرض وفي البحر يجعلون من أنفسهم أهدافًا سهلة وقريبة، ليس من الخصوم المستهدفين علنًا؛ بل من كل من له ثأر مع أمريكا وما أكثرهم في الشرق والغرب والجنوب، ولن يشفع لهم الحلحلة الجزئية مع إيران في تحييد إيران من أي حماقة أمريكية في المنطقة، فلكل مقام مقال ولكل قضية ملف.
العارفون بالسياسات الأمريكية يدركون أن هذا الضجيج الاستعراضي اليوم، ليس سوى "سيناريو حافة الحرب"، كورقة بائسة للأمريكي العاجز، والذي أفلس في تمرير غاياته ومخططاته في إيران والعراق وسوريا ولبنان عبر أدواته وعملائه؛ الأمر الذي أجبره اليوم على الخروج بنفسه على خشبة مسرح الأحداث والقيام بمهمة المواجهة منفردًا، مُتناسيًا الثأرات الظاهرة والمرتقبة له من العرب والروس والصينيين، وغيرهم في الخفاء ممن يتمون زوال أمريكا حتى من قبل بعض حلفائه الظاهريين من الأوروبيين أنفسهم.
يجب أن لا ينسى الأمريكان- أو يتناسوا- أن السنوات العشر التي عكفوا فيها على ترميم أسلحتهم ونفسيات جنودهم، هناك في المقابل من رمَّمَ الكثير من العدة والعتاد خلال تلك الفترة استعدادًا لمنازلة اليوم.
قبل اللقاء.. يقول ونستون تشرشل في وصف الأمريكان: "الأمريكان لا يفكرون؛ بل يجربون حتى يفشلوا"، وقد صدق في هذا الوصف وهو الكذوب!
وبالشكر تدوم النعم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
القائد.. مصدر إلهام أم سبب احتراق؟
خالد بن حمد الرواحي
في زحمة الاجتماعات ورسائل البريد وتقارير الأداء، ينسى بعض القادة أن وراء الأرقام وجوهًا تتعب، وقلوبًا تُرهق، وعقولًا تبحث عن مساحةٍ للتنفس. فالاحتراق الوظيفي ليس مصطلحًا نفسيًا عابرًا، بل جرس إنذارٍ يدقّ في أروقة المؤسسات عندما تتحوّل بيئة العمل من مصدر إلهامٍ إلى ساحةٍ للاستنزاف.
والمفارقة أن هذا الاحتراق لا يصنعه ضعف الموظفين، بل يبدأ غالبًا من قراراتٍ قياديةٍ صغيرة تُمارس بنية الإصلاح، لكنها تُخلّف أثرًا عكسيًا مع مرور الوقت. فعندما يغيب الوعي القيادي، تتحوّل النوايا الحسنة إلى أدوات إنهاكٍ غير مقصودة، وتبدأ المعاناة من حيث ظنّ القائد أنه يُحسن الإدارة.
ولعلّ الصورة تتضح أكثر حين نتأمل المشهد عن قرب. في أحد المكاتب المزدحمة، يجلس المدير خلف مكتبه محاطًا بملفاتٍ لا تنتهي، يمرّ على موظفيه بنظراتٍ سريعةٍ تحمل مزيجًا من القلق والتوقّع. يطلب تقريرًا جديدًا قبل أن يراجع التقرير السابق، ويرسل رسالة تذكيرٍ في منتصف الليل، ويبدأ كل اجتماعٍ بجملةٍ مألوفة: "الوقت يداهمنا".
لا يقصد أن يُرهق أحدًا، بل يظن أن الحزم طريق الإنجاز. غير أن فريقه الذي كان يومًا يفيض بالحماس، صار يعمل بصمتٍ ثقيل، ينجز المطلوب دون حافز، وينتظر نهاية الأسبوع كما ينتظر المريض جرعته من الراحة. وهكذا يولد الاحتراق الوظيفي من قيادةٍ تظن أن الدفع المستمر يصنع النجاح، بينما هو في الحقيقة يستهلك الإنسان قبل أن يبلغ الهدف.
ومن هنا تبدأ الأخطاء الصغيرة التي تتحوّل، مع مرور الوقت، إلى مصدر إنهاكٍ جماعي. فعندما يتحوّل القائد إلى ظلٍّ دائمٍ خلف كل موظف، يراقب التفاصيل الصغيرة ويعيد توجيه كل خطوة، يظن أن الدقة لا تتحقق إلا بالمراقبة اللصيقة.
لكن تلك الإدارة التفصيلية تُطفئ شعلة المبادرة، وتزرع الخوف من الخطأ بدلًا من الجرأة على التجربة. ومع كل مهمةٍ تُصنَّف بأنها «عاجلة»، وكل موعدٍ يوصف بأنه «نهائي لا يُؤجَّل»، تتراكم الضغوط ويزداد الإرهاق في سباقٍ لا نهاية له. وهكذا تضيع الطمأنينة ويبهت الإبداع، حين يتحوّل العمل من شغفٍ يُغذّي العقول إلى عبءٍ يُنهك النفوس.
وفي خضم هذا الإيقاع المتسارع، ينسى القائد أبسط ما يحتاجه الإنسان ليُواصل العطاء: كلمة شكرٍ تُعيد إليه معنى الجهد الذي يقدّمه. فعندما يغيب التقدير، يبهت الحماس، ويتحوّل الإنجاز إلى واجبٍ ثقيلٍ بلا روح. ومع الوقت، يصبح الأداء استجابةً للخوف لا تعبيرًا عن الرغبة في النجاح.
وإذا كان الضغط يُنهك الجسد، فإنَّ التجاهل يُرهق الروح. فعندما لا يجد الموظف من يُصغي إلى ملاحظاته أو يُقدّر رأيه، يشعر وكأن صوته يضيع في فراغٍ إداريٍّ صامت. ومع مرور الوقت، تتلاشى الحدود بين العمل والحياة، فلا يعود هناك فصلٌ بين يومٍ شخصيٍ وواجبٍ وظيفي، فتتسلّل الضغوط ببطءٍ إلى البيوت والعقول والقلوب على حدٍّ سواء.
ويزداد الأمر سوءًا حين يُترك الموظف يواجه التحديات وحيدًا، دون دعمٍ أو توجيه، أو حين تغيب الشفافية في التواصل، فيبقى الفريق تائهًا بين التخمين والانتظار. وعندها لا يكون الإنهاك نتيجة عبء العمل فحسب، بل ثمرةَ بيئةٍ قياديةٍ فقدت حسّها الإنساني ومسؤوليتها الأخلاقية تجاه من يعملون تحت مظلتها.
إن القائد الحقيقي لا يُقاس بعدد القرارات التي يصدرها، بل بعدد القلوب التي ظلّت تؤمن به رغم التعب. فالمؤسسة الناجحة لا تُبنى على الإنجاز وحده، بل على الطاقة التي تُنتجه، وعلى بيئةٍ تمنح الإنسان شعورًا بالأمان قبل أن تطلب منه الأداء والعطاء معًا.
والقيادة الواعية لا ترفع الصوت، بل ترفع المعنويات، ولا تكتفي بتوزيع المهام، بل توزّع الثقة. وحين يدرك القائد أن إنجاز اليوم لا يبرر استنزاف الغد، يتحوّل العمل إلى مساحةٍ للعطاء لا إلى معركةٍ من أجل البقاء.
ويغدو الفريق أكثر ولاءً وابتكارًا، لأنه يعمل بقلبٍ مطمئنٍ لا بضغطٍ مستمر. فالقائد الملهم لا يُشعل الحماس ليحترق الآخرون، بل يُضيء الطريق ليصلوا جميعًا بسلامٍ ونجاح.
رابط مختصر