سرديات الخراب: كيف تعيد الحرب إنتاج نفسها في السودان؟
تاريخ النشر: 13th, March 2025 GMT
إنه الارتطام الأخير في سلسلة الارتطامات التي لم تكن سوى استكمالٍ لسردية الطغاة الذين يقتاتون على هشاشة البنية التاريخية لهذا المكان.
منذ اللحظة التي استُبيحت فيها الخرطوم ومدن الجزيرة والنيل الأزرق وغرب السودان تحت وطأة البنادق التي جيفت خطاها في شوارع صنعها المقهورون بعرقهم ودمائهم، بدا واضحًا أن المأساة ليست سوى إعادة إنتاج لحتميةٍ لم يتبقَّ منها إلا أنيابها المنغرزة في لحم المدن.
ما الذي يجعل الجلادين ينهشون بعضهم بعضًا بعد أن فرغوا من معاركهم ضد الأبرياء؟ لعل التاريخ، كما قال بنيامين، لا يسير نحو التقدم، بل هو كومة من الركام يزداد ارتفاعها مع كل طاغية جديد.
فمنذ سقوط الخرطوم الأول في 1885، كان المشهد معدًّا لولادة دائمة للحروب التي لا تجد نهايتها، بل تتشكل في كل مرة وفق سرديات الهيمنة السائدة: الدين، العرق، القومية، ثم أخيرًا تلك الفانتازيا القاتلة التي تُسمى الدولة.
غير أن الخرطوم لم تسقط وحدها، بل سقطت معها آخر أوهام الاستقلال، فالدولة الوطنية التي بُنيت على أنقاض الاستعمار لم تكن سوى استبدال مباشر للسيد الأبيض بسيد محلي لا يقل عنه تعطشًا للهيمنة.
كانت السلطة منذ البدء مشروعًا قمعيًا، تُعاد صياغته وفق مقتضيات اللحظة، لكن جوهره ظل ثابتًا: السيطرة عبر القوة، وتبرير تلك السيطرة عبر سرديات تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها لا تصمد أمام التفكيك النقدي العميق.
حين وقعت ثورة ديسمبر 2018، كان ثمّة رهان على أن التاريخ قد انحرف أخيرًا عن مداره المعتاد، وأن القوى المدنية، ولأول مرة منذ 1956، قد أصبحت قادرة على كسر احتكار العسكر لمصير البلاد. لكن سرعان ما تبدّد هذا الوهم، ليس لأن الثورة لم تكن أصيلة، بل لأنها كانت تحاول زرع بذور المستقبل في أرض صلبة من اختزال الصراعات داخل ثنائية الخير والشر، متناسيةً أن من يدير آلة القمع ليس مجرد جنرال، بل بنية متشعبة تمتد من السوق إلى الجامع، ومن المنهج الدراسي إلى التلفزيون الرسمي، ومن دور الفقه إلى غرف العمليات في السفارات الأجنبية.
لم يكن العسكر وحدهم من انقضّ على الثورة، بل كان معهم تحالف كامل من الطامحين لوراثة الخراب، كلٌّ وفق رؤيته الخاصة لمستقبل الهيمنة. رجال الأعمال الذين كوّنتهم سنوات التمكين، سماسرة الحرب، زعماء الطوائف الذين لا يعيشون إلا في ظل الفوضى، والنخب التي لم تتردد لحظة في بيع الوهم للشعب مقابل موطئ قدم في مائدة السلطان.
وهكذا، كان الانقلاب على الثورة تحصيل حاصل، فلم يكن ممكنًا لنظام عسكري-رأسمالي-أيديولوجي أن يسمح بظهور نموذج جديد للحكم يهدد مصالحه.
في مساء الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، حين انقلب البرهان وحميدتي على الشراكة الهشة، لم يكن ذلك انقلابًا ضد الوثيقة الدستورية فحسب، بل كان إعلانًا صريحًا بأن المؤسسة العسكرية، التي تشكلت عبر عقود من التحالف بين الدولة العميقة والجبهة الإسلامية، لن تسمح بتحول السودان إلى فضاءٍ مدني. كان ذلك تأكيدًا على أن الهيمنة لا تعترف إلا بالقوة، وأن السردية الوحيدة المقبولة هي تلك التي تخرج من فوهة البندقية.
لكن، مثل كل الطغاة الذين ينسجون نهايتهم بأيديهم، لم يدرك الرجلان أن استيلاءهما المشترك على السلطة ليس سوى بداية لمعركة شرسة بينهما. فالقوة، كما يعلم كل من قرأ غرامشي، لا يمكن أن تظل مقسّمة بين مركزين متصارعين دون أن يحاول أحدهما ابتلاع الآخر. وهكذا، بين ليلة وضحاها، تحولت الشراكة إلى تنازع، ثم إلى قطيعة، ثم إلى الحرب.
ولأن لكل حرب سردياتها، بدأ كل طرف في إعادة تشكيل ماضيه ليناسب طموحاته. البرهان، وريث المؤسسة العسكرية التقليدية، استعاد خطاب “الدولة” و”المؤسسة”، مستندًا إلى علاقاته القديمة مع القاهرة ورياض الانقلابات، محاولًا إقناع العالم بأنه الامتداد الطبيعي لعسكر ناصر والسادات والبشير. أما حميدتي، ابن الهامش الذي صعد من بؤس دارفور إلى قلب الخرطوم، فقد حاول أن يعيد اختراع نفسه كمنقذٍ من الطغيان، متقمصًا دور الثائر ضد البيروقراطية العسكرية التي همشته رغم خدماته الطويلة لها، مستعينًا بحلفائه في العواصم البعيدة التي رأت فيه وكيلًا مثاليًا لمصالحها.
لكن كلا السرديتين لم تكونا سوى محاولتين لإخفاء الحقيقة: أن الحرب ليست صراعًا على المبادئ، بل هي معركة بين شبكتين من المصالح، تتداخل فيهما حسابات الذهب مع خطوط الإمداد الإقليمي، وتتحرك فيهما المواقف وفق الرياح القادمة من أبوظبي والخرطوم وباريس. فمنذ متى كان البرهان ديمقراطيًا؟ ومنذ متى كان حميدتي نصيرًا للثورة؟
إن استدعاء ماركس هنا ليس ترفًا، فالسودان اليوم هو النموذج الحي لما وصفه في الثامن عشر من برومير، حيث يعيد التاريخ نفسه أولًا كمأساة، ثم كمهزلة. فالجيش، الذي كان يفترض أن يكون أداةً لحماية البلاد، أصبح هو نفسه العدو الأول لها. والدعم السريع، الذي بدأ كأداة لقمع الهامش، صار وحشًا يلتهم المركز. وفي كل هذا، يبقى المدنيون، الذين ملأوا الشوارع بأحلامهم، مجرد مشاهدين لمسرحية تُكتب فصولها بالدماء، وقودًا لسرديات تُصاغ في أروقة مراكز النفوذ العالمية، بين تقارير الاستخبارات وحسابات شركات السلاح.
ما العمل إذن؟ هل نقول مع برناردو في افتتاحية هاملت: “ثمة شيء عفن في مملكة الدنمارك”؟ أم نستدعي فرانز فانون لنفهم كيف أن النخب الفاشلة تظل تعيد إنتاج الاستعمار بأدوات وطنية؟ أم نعود إلى ألتوسير لنتأمل كيف أن مؤسسات الدولة الأيديولوجية تخلق مواطنين مستعدين لتكرار المأساة إلى ما لا نهاية؟
ربما لا نحتاج إلى أيٍّ منهم، فالحقيقة أبسط من ذلك: ما لم يتم تفكيك الدولة العميقة التي جعلت من الجيش والميليشيا صنوان، وما لم يتم إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع خارج منطق القوة، وما لم تدرك الأجيال الجديدة أن الثورة لا تُختزل في مظاهرة، ولا في بيان، ولا حتى في حكومة مدنية، بل هي عملية طويلة من تفكيك البنى المهترئة وإعادة بناء مفهوم الدولة من الأساس، فإن هذه الحرب لن تكون الأخيرة، بل مجرد فصل جديد في الحكاية التي لا تنتهي
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
مؤسسة جذور تدشّن إصدارها الثالث: سرديات النضال للدكتورة لمياء الكندي.
دشّنت مؤسسة جذور للفكر والثقافة إصدارها الفكري الثالث ضمن سلسلة "الهوية اليمنية"، وهو كتاب أدبي وقومي جديد للدكتورة لمياء الكندي، حمل عنوان: "سرديات النضال في شعر الأقيال – محاولة لتوثيق الشعر في زمن الحرب (الجزء الأول: شعراء الفصحى)".
ويأتي الإصدار في إطار جهود المؤسسة لتوثيق الأدب المقاوم، حيث اشتمل الكتاب على قراءة أدبية تحليلية لمئات القصائد والمقطوعات الشعرية التي كتبها 29 شاعرًا من شعراء الهوية اليمنية خلال سنوات الحرب، تناولت موضوعات الهوية ومواجهة الخرافة السلالية، واستنهاض الذات اليمنية، والدعوة لاستعادة الدولة وتحقيق نهضة وطنية شاملة.
ويمثل الكتاب، الواقع في 462 صفحة من القطع المتوسط (A5)، مرجعًا غنيًا ومصدر إلهام لصنّاع المحتوى، ومعدّي البرامج التلفزيونية والإذاعية، وخطباء المساجد، والقادة السياسيين والعسكريين، لما يحتويه من مادة شعرية ووطنية محفّزة تخدم خطاب التعبئة والتوجيه في مختلف المنصات.
وقد أهدت المؤلفة عملها إلى "شهيدي القصيدة والموقف": القيل خالد الدعيس، والقيل نايف الجماعي.
من جهته أوضح رئيس مؤسسة جذور -- عمار التام أن الظروف المالية الصعبة أجبرت المؤسسة على التوقف عن تنفيذ العديد من أنشطتها، والاقتصار على إصدار الكتب الفكرية، التي يتم إنجازها من داخل المنازل وبإمكانات محدودة.
وأضاف: "رغم التحديات، نحرص على استمرار جذور كصوت فكري وثقافي حاضر في معركة اليمن المقدسة".
وأشار التام إلى أن تدشين الكتاب سيترافق مع حملة إلكترونية تبدأ مساء الثلاثاء 13 مايو، في تمام الساعة السابعة، تتضمن نشر عشرات المقطوعات الشعرية والأدبية من الكتاب، باستخدام الوسمين:
#الهويه_اليمنيه
#الشعر_ذاكره_وثوره
ودعا في ختام تصريحه وسائل الإعلام والمراكز الثقافية والمبدعين والناشطين للمشاركة في الحملة والمساهمة في إيصال رسالة الكتاب إلى أوسع نطاق.