سودانايل:
2025-12-15@01:00:24 GMT

تفكيك سطوة المعنى: من الدال إلى ما بعد المدلول

تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT

في البدء، حين أراد فرديناند دي سوسير أن يشيّد تصورًا بنيويًا للغة، كان يدرك أنه يؤسس لمفهوم جوهري: الدال لا يرتبط بالمدلول إلا عبر اعتباطية متفق عليها داخل النسق الاجتماعي. غير أن هذا الاتفاق، الذي بدا وكأنه حقيقة بديهية، لم يكن سوى بناء هش، قابلاً للتشظي تحت وطأة التحليل النقدي الذي جاء لاحقًا ليخلخل سطوة المركزيات اللغوية.

إن العلاقة بين الدال والمدلول لم تكن يومًا علاقة طبيعية أو جوهرية، بل هيمنوية بامتياز، تتحكم فيها سلطة المعايير والسرديات المهيمنة، حيث يتم تطويع المدلولات وفقًا لسياقات متغيرة، ليست بريئة من وقع الأيديولوجيا وصراعات السلطة. ففي كل لحظة، كان للغة دور في تشكيل الوعي الجمعي، لا كوسيلة محايدة للتواصل، بل كأداة تُعيد إنتاج الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة.

لم يكن جاك دريدا حين فجّر مفهوم “الاختلاف” يفعل أكثر من كشف هذا الزيف البنيوي، إذ أوضح أن المعنى ليس حاضراً ولا ثابتاً، بل هو دوماً مؤجل، منزاح، متوارٍ خلف سلسلة لا نهائية من الإحالات الدلالية التي تفكك أي ادعاء بالاستقرار. وهكذا، بدأ تشظي العلاقة بين الدال والمدلول، وصارت اللغة فضاءً مفتوحًا على احتمالات لا تنتهي، يتعذر اختزالها في يقين واحد أو دلالة قارة. فقد فقد الدال سطوته التقليدية، وانفلت من إساره البنيوي، متحولًا إلى طيف عابر لا يستقر في معنى بعينه، بل ينفتح على عمق اللامحدود من التأويلات. إن هذا التباعد المستمر بين الدال والمدلول قد جعل اللغة تتأرجح بين الممكن والمستحيل، بين التفكيك والتراكم، متكسرة تحت وطأة التساؤل، وممزقة بين سرديات متنافسة، لا تسعى للتوصل إلى حقيقة واحدة، بل إلى تقويض الأوهام التي كانت تُرسخ عن اليقين.

غير أن هذا التشظي لم يكن محصورًا في الخطاب الفلسفي وحده، بل سرعان ما انعكس على بنية الواقع السياسي والاجتماعي. إذ لم يعد للغة وظيفة وصفية محايدة، بل تحولت إلى أداة للهيمنة، حيث أُعيدت صياغة المعاني لتناسب مشاريع السلطة. الديمقراطية، الحرية، العدالة، باتت كلمات منزاحة عن دلالاتها الأصلية، مستنزفة في دوائر الدعاية، تُحمل من المدلولات ما ينسجم مع مصالح القوى المهيمنة، لا مع الواقع الفعلي لمن يعيشون في هامش السردية الكبرى. كلمات مثل “الحرية” و”العدالة” لم تعد مجرد مفاهيم مجردة، بل أصبحت مسلّحة تُستخدم كأدوات لتثبيت الأوضاع القائمة، تمارس وظيفة تطويعية للأفراد والجماعات على حد سواء. إن لعبة الدال والمدلول لم تعد مسألة لغوية صرفة، بل غدت فعلًا سياسيًا بامتياز، حيث يتم إنتاج المدلولات وفقًا لحاجات السوق، والإعلام، والدولة، في عملية محكمة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، عبر قسر الدال على الامتثال لسياقات سلطوية تحكمها المصالح لا الحقائق.

هذه العلاقة بين الدال والمدلول تجلت أيضًا في المجالات الثقافية والفنية، حيث كانت اللغة والعلامات تُستعمل في معركة أكبر من تلك التي تُخاض داخل الكتب والأدوات الفكرية. فإذا كانت الفلسفة قد عكفت على تفكيك البنى اللغوية وإظهار هشاشتها، فإن الأدب والفن قد تطرقا إلى تلك الهشاشة بصورة أكثر جسدية وملموسة. فمن تيار الوعي في الرواية، حيث تتفكك الحبكة ويتوارى السرد الخطي لصالح تداعيات سيالة للوعي، إلى التجريدية في التشكيل، حيث يتوارى الشكل لصالح اللاشكل، صار الفن تعبيرًا عن هشاشة العلاقة بين العلامة ومعناها. فالفن، بعنفوانه التجريدي، يتحدّث بلغة متشظية، لا تبحث عن معنى محدد، بل عن حرية في التعبير. لم يكن ذلك محض تجربة جمالية، بل كان استجابة لمأزق ثقافي عميق: إذا كانت المعاني غير مستقرة، وإذا كانت اللغة غير قادرة على القبض على الحقيقة، فما الذي تبقى للفن سوى الاحتفاء باللايقين والانفتاح على احتمالات التأويل؟ إن الفن، كما الفلسفة، يصبح أرضًا اختبارية يُقاس فيها هشاشة العلاقة بين ما يُقال وما يُراد قوله، بين الدال والمدلول في تفاعل مستمر لا يحاول تثبيت شيء بل يظل في حركة دائمة.

في السياق الراهن، ومع الطفرة الرقمية، جاء هذا الانهيار ليجد صدىً عميقًا في التحولات التي فرضها الزمن الرقمي. إذ بات الدال يتحرر كليًا من أي مدلول ثابت، متحولًا إلى محض ترميز رقمي، يتجلى في أشكال متعددة، لا يحكمه سوى تدفق المعلومات واستراتيجيات الخوارزميات. المعنى أصبح متقطعًا، عائمًا، يتم إنتاجه وفقًا للميكانيزمات الخوارزمية التي تحدد له مواضعه في فضاء رقمي لا مركزي. لم يعد المعنى مجرد كلمة أو فكرة يمكن فهمها بشكل ثابت، بل هو سلعة خاضعة لتحولات السوق الرقمية. يصير كل شيء تحت سيطرة التفاعلات الرقمية، حيث يصبح كل دال في حالة من اللامحدودية والتغير المستمر. كما أن المعنى أصبح عرضة للتشويه والانتقاء، حيث تتدخل خوارزميات ضخمة في تشكيل ما يُعرض لنا من معاني، وبالتالي يتحول الدال إلى أداة لتحقيق مصالح مهيمنة.

وقد تحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة تتسابق فيها السرديات المختلفة، كل واحدة تسعى لإنتاج معانٍ جديدة تتلاءم مع مصالح السلطة الاقتصادية أو السياسية. من خلال منصات التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، يمكن التحكم في ما يُقال ويُكتب، ويُشوه المعنى أو يُقلب وفقًا لمصالح ضيقة. في هذا السياق، لا يعود الحديث عن معنى أو مدلول ثابت، بل عن سطوة الخوارزميات التي تحدد ما يعبر عنه الدال في واقع بلا مرجعيات ثابتة. إن الأسئلة التي تطرحها هذه التحولات الرقمية أصبحت وجودية بامتياز: إذا كانت الكلمات قابلة للبرمجة، وإذا كانت السرديات تُصنع وفقًا لميكانيزمات التحكم الرقمي، فأين تقع الحقيقة في عالم تُعاد فيه صياغة الواقع وفقًا لما تقتضيه المصالح الاقتصادية والسياسية؟ ماذا يعني أن تكون هناك لغة في فضاء رقمي لا تملك فيه الكلمات أي مركز ثابت؟ وماذا يعني أن تكون المعاني مجرد مكونات قابلة للتغيير مع تدفق الخوارزميات؟

هكذا، لا يبدو أن الأمر مجرد تفكك لعلاقة الدال والمدلول، بل هو انهيار كامل للفرضيات التي كانت تؤطر مفهوم المعنى نفسه. لقد تجاوزنا مرحلة التأجيل الدلالي، ودخلنا في طور جديد: ما بعد المعنى، حيث لا يقين، ولا مدلولات قارة، بل فضاء مفتوح على احتمالات لا نهائية، تدور فيه اللغة حول ذاتها، بلا أفق واضح، وبلا سلطة حاسمة تحدد ماذا تعني الأشياء حقًا. وبذلك، تُصبح اللغة، في هذا السياق المعاصر، مجرد ركام من الإحالات المتداخلة التي تبتعد عن أي محاولة جادة للاقتراب من حقيقة ثابتة، بل هي تنبض بحرية محكومة فقط بالآليات التي تشكل الواقع الاجتماعي والسياسي في عصر المعلومات

 

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: العلاقة بین لم یکن التی ت

إقرأ أيضاً:

رئيس وزراء العراق: بعثة الأمم المتحدة كانت شريكا حيويا وأسهمت في تثبيت المسارات الدستورية

أكد رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، اليوم السبت، أن بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) كانت شريكا حيويا، ويدا ممدودة لمساندة العراق، مشيرا إلى أنها أسهمت في تثبيت المسارات الدستورية في بلاده.
جاء ذلك خلال كلمة السوداني في احتفالية الإعلان الرسمي لانتهاء أعمال ولاية بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، وفقا لما نقلته وكالة الأنباء العراقية (واع).
وأشار إلى أن العراق أسس نظاما سياسيا يعتمد على مبادئ الديمقراطية، وأن بلاده شهدت تطورا ملموسا في مجال الأمن وإصلاح المؤسسات، وانفتاحا دبلوماسيا غير مسبوق.
وأكد السوداني أن العلاقات مع بعثة "يونامي" ستبقى راسخة، موضحا أن العراق يمضي بثبات وقوة نحو التنمية والنهضة الاقتصادية، معربا عن شكره للمرجعيات الدينية والقوى السياسية والنخب الاجتماعية التي أسهمت في بناء التجربة العراقية.
من جانبه، أكد جوتيريش أن الأمم المتحدة ستواصل مشاريعها وبرامجها في العراق، وأنها ستقف دائما إلى جانب العراق ، وأضاف : "اليوم نغلق إحدى صفحات التعاون مع العراق ونفتح أخرى جديدة"، مؤكدا أن العراق أصبح أكثر تطورا وأمانا.

طباعة شارك رئيس وزراء العراق بعثة الأمم المتحدة العراق يونامي

مقالات مشابهة

  • مرقص من عاصمة الشمال: طرابلس كانت ولا تزال بوابة عبور بين لبنان والدول العربية والأوروبية
  • عمر متولي يستعيد مواقف مؤثرة مع والدته الراحلة شقيقة عادل إمام: كانت صارمة وتملك حسًا كوميديًا
  • دعم المديريات: تفكيك شبكة إجرامية منظمة تديرها عناصر أجنبية
  • كانت حامل.. مفاجآت واعترافات صادمة بقضية مقتـ.ل عروس المنوفية ضحية الزوج
  • د.نزار قبيلات يكتب: العربية والموسيقى والشعر
  • رئيس وزراء العراق: بعثة الأمم المتحدة كانت شريكا حيويا وأسهمت في تثبيت المسارات الدستورية
  • جارة عروس المنوفية: شفتها كانت ميـ.تة وسلفتها كانت مضروبة وبتنزل د.م من وشها
  • المطربة أنغام البحيري: بداية مشواري الفني كانت مع والدي الطبال
  • الطمأنينة.. المعنى الحقيقي للحياة
  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد