ليوبولد سيدار سنغور رمز الأدب والسياسة في أفريقيا الحديثة
تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT
فيلسوف في السلطة، وشاعر في قلب الدولة، هكذا شكّل ليوبولد سيدار سنغور بصمة عميقة في التاريخ الأفريقي والعالمي.
كان شاعرا ومفكرا وسياسيا جمع بين الكلمة والسلطة، وسعى إلى دمج التقاليد الأفريقية بالقيم العالمية في مشروع حضاري متكامل، فهو مؤسس مفهوم "الزنوجة" وأول رئيس للسنغال المستقلة وعضو في الأكاديمية الفرنسية، كان جسرا بين التقاليد الأفريقية والحداثة العالمية ونموذجا فريدا من التعايش بين ثقافة القارة السمراء والفكر الغربي.
وُلد ليوبولد سيدار سنغور في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1906 بمدينة جوال الصغيرة بالسنغال، ونشأ في بيئة مسيحية كاثوليكية ضمن مجتمع يغلب عليه الطابع الإسلامي، مما عزز لديه منذ الصغر حس الانفتاح والتعددية الثقافية.
تلقى تعليمه الأولي في السنغال، وأظهر نبوغا مبكرا مكنه من الحصول على منحة دراسية لمتابعة دراسته الثانوية في مدرسة فان فولان بدكار، والتي كانت من أبرز المؤسسات التعليمية في غرب أفريقيا الفرنسية آنذاك.
رحلة علمية نحو فرنساسافر سنغور إلى فرنسا عام 1928 لمواصلة دراسته في جامعة السوربون، لكنه التحق فيما بعد بمدرسة لويس لو غران المرموقة، والتقى بالمفكر المارتينيكي إيمي سيزير الذي أصبح شريكه الفكري في بلورة مفهوم "الزنوجة".
إعلانواصل سنغور تفوقه الأكاديمي حتى نال شهادة التبريز في الآداب عام 1935، ليكون أول أفريقي من غرب أفريقيا الفرنسية يحقق هذا الإنجاز، مما فتح أمامه أبواب التدريس في فرنسا.
خلال الحرب العالمية الثانية انضم سنغور إلى الجيش الفرنسي، لكنه وقع في الأسر عام 1940 وأُرسل إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا.
لم تمنعه ظروف الاعتقال من الكتابة، بل ألهمته لتأليف بعض من أهم قصائده التي عكست معاناته ورؤيته للعالم، وبعد إطلاق سراحه عام 1942 عاد إلى فرنسا واستأنف نشاطه الأكاديمي والسياسي.
انتُخب سنغور نائبا في الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1945، ليبدأ مسيرته السياسية الفعلية.
عمل على تعزيز حقوق المستعمرات الأفريقية داخل النظام الفرنسي، وساهم في تطوير سياسات منح الحكم الذاتي، مما مهد الطريق لاستقلال العديد من الدول الأفريقية.
وبعد استقلال السنغال عام 1960 أصبح أول رئيس للجمهورية، وظل في منصبه حتى 1980، وركز على بناء دولة حديثة تجمع بين التقاليد الأفريقية والإدارة العصرية، مع إيلاء اهتمام خاص بالتعليم والثقافة، ورفض الانغلاق الأيديولوجي، إيمانا بأهمية التعاون بين أفريقيا وفرنسا.
الزنوجة والهوية الأفريقيةيعد سنغور أحد المؤسسين الرئيسيين لحركة "الزنوجة" التي ظهرت ردّ فعل على سياسات الاستعمار الفرنسي التي حاولت طمس الهويات الأفريقية وفرض الهيمنة الثقافية الأوروبية.
ودعا هذا المفهوم إلى استعادة الاعتزاز بالثقافة الأفريقية والتعبير عنها بحرية في الأدب والفنون والفكر السياسي.
وفي كتاباته سعى سنغور إلى إبراز القيم الجمالية والفلسفية للحضارة الأفريقية، رافضا النظرة الاستعمارية التي صورت أفريقيا قارة متخلفة تحتاج إلى الإنقاذ الأوروبي.
وأصبحت "الزنوجة" مرجعا ثقافيا وسياسيا لحركات التحرر الأفريقية والكاريبية، وأسهمت في تشكيل هوية أفريقية حديثة متصالحة مع إرثها وتطلعاتها المستقبلية.
لم يكن سنغور مجرد رجل سياسة، بل كان قبل كل شيء شاعرا ومفكرا، امتزجت أشعاره بالروح الصوفية والتعبير العاطفي العميق، إذ استخدم الكلمات أداة للنضال الفكري والدفاع عن الهوية الأفريقية، وترك إرثا أدبيا غنيا، ومن أبرز أعماله:
إعلان "أغاني الظل" (1945): ديوان شعري يعكس تجربته في الحرب ومعاناته خلال الأسر. "إثيوبيا وأسوان" (1956): عمل أدبي يصور رؤيته للهوية الأفريقية وعلاقتها بالحضارة العالمية. "رسالة إلى الصديق الفرنسي": نص يعكس حوارا بين الثقافتين الأفريقية والفرنسية.آمن سنغور بأن الشعر ليس مجرد كلمات، بل قوة تحررية قادرة على إحداث تغيير عميق في المجتمعات عبر التأثير العاطفي والفكري.
السنوات الأخيرة والإرث الثقافيبعد تقاعده من السياسة عام 1980 انتقل سنغور إلى فرنسا، حيث واصل الكتابة والبحث الفكري، وفي عام 1983 انتُخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية، ليكون أول أفريقي يحظى بهذا الشرف، وهو اعتراف بدوره البارز في الأدب الفرنكوفوني.
توفي في 20 ديسمبر/كانون الأول 2001 عن عمر ناهز 95 عاما، لكنه ترك إرثا فكريا وسياسيا خالدا، ولا يزال تأثيره حاضرا في السنغال والعالم، إذ يُحتفى به باعتباره رائدا في الفكر الأفريقي ومدافعا عن التعددية الثقافية ورمزا للمصالحة بين الهوية الأفريقية والانتماء العالمي.
أثبت سنغور أن الأدب والسياسة يمكن أن يلتقيا في مشروع حضاري واحد، وأن الهوية الأفريقية ليست نقيضا للحداثة، بل هي جزء أصيل منها، وكما قال ذات مرة "الثقافة هي روح الأمة، وبدونها لا يمكن أن يكون هناك مستقبل".
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
القصة القصيرة جدًا: إشكالية المفهوم والخصائص
يقول الرافعي: لم أكتب في القصة إلا قليلا إذا أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الاسم ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها هي قصة هذا العقل الذي في رأسي وهذا القلب الذي بين جنبي.
فالقصة مدرسة لها قانون، وطريقة ممحصة، وغاية معينة لا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ الذين تثيرها مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة.
من نافلة القول: إن فعل القص والحكي في عمومه فعل إنساني، ومحور معيشي قار بين الإنسان ومحيطه: العام والخاص. ترغبا فيما يعتلي النفس من هموم وأفكار وعاطفة وما يشكله ذلك الفعل الإنساني الراسخ: كشفا وحضورا وإقبالا لدورة الزمن وتقلباته، وممكناته، وتساميه بين الحركة والسكون والترحال والبقاء: في اللسان والعاطفة والإيحاء، والدلالة.
وقد استدعت الذاكرة الإنسانية الإبداعية لدى مختلف الشعوب حركة إدراكية وحوارا قصصيا له مدركاته وفنونه وعناصره التي تطورت وانتهجت صورة تكونت على مختلف الأزمنة والعصور. وتمايزت بين أنواعها ومسارها الحكائي، وأردفت مقصدها وهدفها وواكبت في ظرفها العام وفي دلالتها الحضارية والتاريخية والسياقية. وقدمت مادة مرجعية لها مكانتها وأفكارها ومنطلقها. وفي اتصال بين مختلف تلك الأنواع السردية تأتي القصة بكل أنواعها ومن بينها ما يسمى بالقصة القصيرة جدا.
إن ما يمكن ملاحظته حين النظر إلى أدب القصة القصير جدا ذلك الاهتمام الذي يوليه الكثير لهذا الفن الذي نجده حاضرا من خلال الدراسات النقدية النوعية التي تتبعت هذا الأدب ومثلته في خصائصه ومميزاته، ومن تلك الدراسات التي حظي بها الدرس النقدي:
الدراسة التي قامت بها غنية الشبيبي حول التعاليات النصية في مجموعتي عزيزة الطائي. ظلال العزلة وموج خارج البحر.
ودراسة الدكتور عزية الطائي ضمن كتابها: ودراستها حول الخطاب السردي العماني: الأنواع والخصائص 1939-2010.
دراسة الدكتور خالد المعمري لمجموعة محمد الرحبي «أنواع».
والدراسة التي قام بها الدكتور إحسان صادق اللواتي لدراسة ظاهرة التكثيف في القصة القصيرة جدا وقد اختار ثلاثة من القصاص العمانيين: عبدالعزيز الفارسي والخطاب المزروعي ووليد النبهاني.
والدراسة التي قامت به الدكتورة: جميلة بنت سالم الجعدية
والدراسة التي قام بها الدكتور سلطان الفزاري التي جاءت بعنوان جماليات تشكيل القفلة في القصة العمانية القصيرة جدا.
يقول الدكتور أحمد السماوي في كتابه «الأدب العربي الحديث» دراسة أجناسية»:
«إن الأقصوصة لدى العرب جنس أدبي دخيل عرفوه في لحظة تاليه للرواية»(1).
ويوكد ما قاله في ضوء تتبعه ودراسته وبحثه التاريخي المخصص للوصف لفن القص وما أطلق عليه «الأقصوصة» وهو يعني أدب القصة عموما، وارتباطه بالرواية واختلافه في الخصائص والبنية والنظم. وكانت الريادة التي مثلها محمود تيمور بعد عودته من الغرب التي شهدت تطور هذا الفن عبر مختلف المستويات والدراسات والمدارس الفكرية منذ القرن الثاني والثالث الميلاديين والتي ربط نشأتها بالحكاية الشعبية المنظومة، وقد كان حضورها الحقيقي في القرن التاسع عشر خلال هيمنة الرومنطيقية. وقد بدأ محمود تيمور بمجموعته (السفور) التي يعود تاريخ تأليفها إلى عام 1919م. ومن ثم بدأ جملة من الرواد العرب كتابة هذا النوع الأدبي.
في خاتمة قوله: «والمهم في الأمر أن هذا الجنس المستحدث قد تجاوز بيسر صراع الأضداد بين تأصيل في التراث القديم، وانفتاح على الغربي الحديث»(2).
وفي حقيقة الأمر أن هذا الفن الذي قد مثّل حضورا في كافة المستويات وعلى مختلف الفئات والتوجهات السياقية والحياتية؛ فصارت دوافع القول قصة، وواقعا له مكانته وطرقه ورغباته المتصلة بكهوف التكوين وراصدة ديمومة الإنسان في حاضره وماضيه ومستقبله، وغدت صورة كاشفة لمقتضى التداعيات النفسية والمعيشية الواقعية منها والتاريخية.
ففي قول ابن رشيق: «وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيدا محفوظا؛ وأن الشعر أقل، وأكثر جيدا محفوظا؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور «وأما عن أسبقية النثر وأهميته فقد قال أبو حيان التوحيدي: «النثر أصل الكلام والنظم فرعه والأصل أشرف من الفرع».
لقد كانت القصة القصيرة جدا حضورا في الساحة الكبرى، يتبارى فيها عديد الثقافات، وبها يركن الكتّاب، فحكاية القصة وقولها ركن قار له مساراته ومكوناته، وله دوافعه الكامنة خلف جسور الإبداع والفنية.
وهو ما يؤكده تلك القصة التي نسبت إلى (أرنست هيمنجواي): (للبيع حذاء طفل، لم يرتده أحد) ...
تاريخا وتوجها وتأسيسا. على جملة من الأقوال والتكهنات.
هذا الانتشار الذي أحدثته القصة القصيرة جدا في حضورها وتركيبها وبعدها السردي رغم صغر حجمها: فالوحدة السردية والتكثيف والاندهاش والترميز والبعدية والقصد. هو ما يحرك أبعاد الفعل الحكي، ويقدم مستواه الحكائي.
إن ما يمكن الوقوف عليه، وتكوين التساؤلات حوله فيما يخص أدب القصة القصيرة جدا في سلطنة عمان أمران هما:
التسمية والتأصيل:
إن ما يمكن التكهن به فيما يخصّ هذا النوع السردي المنتمي في أصله إلى تلك الأنواع القصصية المتفاوتة الطويل قصرا وطولا: الرواية والقصة القصيرة. وهذه الأنواع كما هو معروف يعود انتسابها إلى الأدب الغربي وتأصيلها يرجع إلى ذلك العالم الثقافي الكبير. على اعتبار أن ما تحمله القصة القصيرة جدا من خصائص وصفات تؤكده تلك الأعمال، وتنبني عليه قبولا وتقابلا؛ فالانتساب إلى الأصل العربي له ما يحده ويقف ضده على فرضية مفادها: أن هذا النوع -وإن تشابه في تركيبه مع بعض الأعمال السردية القديمة- الطرفة والنادرة والمثل وغيرها، ورغم هذا فقد حملت تلك الأنواع القولية النثرية مسمياتها، وأعطت جوانبها الحكائية: تمثلا وتكوينا في المحتوى والدلالة، وبالتالي؛ فتقابلها مع أدب القصة القصيرة جدا له أبعاده ومدلولاته ومفارقاته.
وأما ما يخصّ التسمية؛ فإن تلك المسميات التي أشكلت على البعض قد استدعت نقاط الاختلاف والتباعد والمسايرة والتشكك.
لقد أخذ الخطاب الحكائي وجهته من خلال عملية السرد. والسرد هو فعل الحكي: أي طريقة حكي الحكاية والوسيلة التي يقوم بها الراوي: بحيث يتمكن من بث الحكي (المروي) مفترضا مرويا له.
«إن الرواية والقصة سواء محكيتان أو مرويتان يمران عبر القناة التالية: الراوي: -القصة- المروي له.
وأن السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق القناة نفسها وما تخضع له من مؤثرات بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها»(3).
بينما يمضي بول ريكور في بيان وظيفة السرد السردية «التي هي قابلة للتحول لن يصل إلى حد الموت؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل ما سيؤول إليه حال الثقافة عندما لا يوجد من يعرف أن تروى الأشياء»(4).
«كلّ أدب جديد هو عدائيّ».
من الأمور التي تُثار حول أدب القصة القصيرة جدا هو انتمائها إلى الدرس الغربي؛ فقد مهد القول: إن هذا الأدب منشأه الغرب من خلال بيانات تنساق في هذا المجال. رغبة في التماهي والتوسع والتمكين لهذا الأدب. على اعتبار أن كل شيء يحمل بعدية التفريق والبعدية يقبل به أن يكون تماهيا ليس لشيء إلا لحضوره من جوانب التخلص أو عدم الاهتمام. أو لقلة المباحث ومحدودية المصادر.
ما يمكن ملاحظته أن هذا النوع له ما يقابل جذوره التكوينية في الأدب العربي القديم؛ فالنظرة المكونة في هذا المجال تستوجب مكانة القصة والحكاية في سيرة الأدب العربي منذ القدم. وهو ما يقدمه القدماء في دراستهم وكتبهم ويكفينا ما قاله الجاحظ «إن النثر الذي خلفه العرب يفوق ما خلفوه من الشعر». والعربي بطبعه حكاء في محله وسفره في وحضوره وغيابه: رغبة في التسلية، وتحاورا، وإعطاء فسحة اللقاء والتعارف ووجوب المعرفة والقبول: وهذا ما تؤكده أيضا عبارات من قبيل: «جبت علوم أو أخبار»؟.
لكن ما يمكن قوله إن أدب السرد الحديث بعناصره الجديدة، ومختلف أنواعه: الرواية والسيرة الذاتية والقصة القصيرة ... هذا كله مرجعيته (الأدب الغربي) وقوامه الشكل الواضح والقائم ورغم أن هذا محورا له ما يناقضه وما يقف أمامه. وله تطوره من الفنون القصصية القصة القصيرة والرواية.
في حين يورد معظم الباحثين اسم «ناتالي ساروت» الكاتبة الفرنسية على أنّها أوّل من كتب القصّة القصيرة جدًا عام 1932م، ولكنَّ ثمَّة كتّاب آخرون كتبوا في هذا الفنّ، إلّا أنّهم لم يذكروا مصطلح قصّة قصيرة مباشرة»: وقد وردت أسماء لكتّاب آخرين قبل ساروت بثلاثة عقود أكثر أمثال: أليكس فينون Alex Vinon وإدغار آلن بو Edor Allan poe، ولكنّهم ما أسموا قصصهم بقصص قصيرة جدا، وحتى ساروت نفسها أسمتها (انفعالات،) ولكن فتحي العشري عندما ترجمها في مستهل سبعينيات القرن الماضي أسماها قصصا قصيرة جدّا)، وبذلك تذهب الرّيادة إلى ساروت (5).
أركان وخصائص القصّة القصيرة
يقول الدكتور أحمد جاسم الحسين: إنَّ بناء القصّة القصيرة جدًّا تتألّفُ من أربعة أركان رئيسة هي: «القصصيّة – الجرأة – وحدة الفكر والموضوع – التكثيف»(6). أمّا الدّكتور يوسف حطينيي: فيحدّد عناصر القصّة القصيرة جدّا بـ: «الحكائيّة – الوحدة – التّكثيف – المفارقة – فعليّة الجملة»(7).
تقدم ما تحمله الأيام والأعوام من أجزاء ومكونات عمر القصة القصيرة جدا كنوع حديث ومغاير عن مسار الأدب العربي، فالحديث عن هذا المفهوم حضور ومنافسة ومكانة يستوجب إبعاد التوجه إليه. فتلك الدراسات القليلة التي عبرت إلى هذا النوع السردي قد مررت إسناده في أول أمره إلى المهتمين به. والحوار الحكائي القصير قد صار مرآة لمختلف التوجهات الفنية والإبداعية التي حددت جانبها إيجابا أو سلبا وقد لا تعطي جوانب الفصل أو التحديد قولا فصليا وفعلا ثابتا.
تناول النقد الأدبي خصائص القصة القصيرة جدا تحاورا وتحليلا وتركيزا على سماته الفنية المميزة له بحيث مضى ذلك التأكيد مسايرا ومحققا أهمية القصة القصيرة جدا معترفا بتكوينها وسياقها الحكائي بشكل خاص.
تبدو الأمثلة الناجحة لهذا المجال السردي عالميا وعربيا منساقة والسياق النقدي الذي توجه إليها؛ فكل هذا يمكنه أن يقدم جدية في الحضور مما قد يتناول بالنقد والتحليل.
في تسطير القصة القصيرة جدا
القصة القصيرة جدا، كنوع كتابي محايث تترسم حوله جملة من التساؤلات والتكهنات وهي كما مر على جملة الأعمال السردية الأخرى؛ على اعتبار أن كل نوع جديد، كما يقول يوجين أونيسكو، هو عدائي. «العدائية التي تتناقض مع الأصل، وتقف ضده، ويتوقف عليها المتلقي كثيرا معتبرا إياها خارج حدود معرفته واهتمامه.
يرى الدكتور حسين المناصرة، أنها «الكتابة العليا إلى حد ما في المجال السردي، ... وأن كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية التي تتسع لعالم شاسع من اللغات والأصوات والأحداث، وأصعب من القصة القصيرة التي قد تقبل التطويل والاستطراد والحوارات. أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة لتجربة سردية لا بد وأن يسبقها باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية، مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فن السرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها».
نجد من النماذج الناجحة، يمكنها أن تؤكد وجود هذا النوع من الكتابة، كمحمود شقير وزكريا تامر،
المؤكد في الأمر أن أدب القصة القصيرة جدا قد استدعى حضوره من الأدب الغربي لكننا وفي العديد من الدراسات قد توجهت إلى وجود هذا النوع الأدبي في جذور التراث العربي القديم وله نماذج من كتابات عدة.
ورغم ما يمكن أن يعتري هذا الخط القولي الكثير من الإضمار النقدي القائل بصعوبة تعريف كل فن أدبي ورغم هذا فلا بد أن تكون هناك تكهنات ومسيرات تستوجب القول والذكر:
بعض تلك الأقوال القائلة: «بسهولة الحكي حيث يمضي إلى هدفه بكلمات قصيرة» أو بنية سردية محدودة الكلمات لها خاتمة صادمة، لا تقبل التوضيح.
تفترق القصة القصيرة جدا مع القصة عموما من حيث الطول ومن حيث القصدية الحكائية.
بين القصة والقصة القصيرة جدا جوانب مشتركة من خلال المكونات والعناصر ومن خلال التكوين السردي وتسلسل حدثها وتأزمها.
تقوم القصة /الحكاية. ولكونها في صورتها المكتنزة في حدثها ترتكز على شخصية وفعل وحدث. غارقة في الإيجاز والهدم والمباغتة. والاندهاش:
يقول زكريا تامر في قصة «مختصر ما حدث»:
«حكم على خليل حاوي بالإعدام، فحدَّق إلى السماء متعجبا من لونها الأزرق الذي لم يتحول لونا أسود، وشنق ثلاث مرات، فكان الحبل في كلّ مرة يتمزّق على الرغم من أن جسمه هزيل وعنقه نحيل، ووقف مشدود القامة مغمورا بضياء الشمس بينما كان سبعة رجال يسددون فوهات بنادقهم نحوه، ويطلقون النار عليه، فلا تمسسه أية رصاصة كأنهم كانوا عميانا أو كأنه كان يبعد عنهم أميالا، وقذف إلى نار قادرة على إحراق مدينة بكاملها، وانتظرت عيونهم الشامتة رؤية رماده؛ ولكنه خرج من النار سليما يسعل سعال من دخّن سيجارة من نوع رديء، ولم يجد مهربا من الانتحار حتى يثبت أنه الناجح وهم المخفقون».
وفي كونها قصيرة جدا صفة القصر؛ فالإيحاء هو الهدف أو المقصد الذي ينوي الكاتب الوصول إليه من خلال التركيز على ذلك الحدث. وكانت تلك الوسيلة قد استحضرت القارئ...والشخصية. والنهاية وهو الجانب الأهم في القصة القصيرة جدا؛ لأنها تكون مباغتة أو مدهشة.
يقدم الدكتور إحسان في دراسته للقصة القصيرة جدا في عمان أمثلة تطبيقية حول بعض نماذج القصة القصيرة جدا في عمان؛ فهو في رأيه أنها ليست مستثناة عن غيرها في مختلف الدول العربية السابقة في هذا الشأن. ويذكر بعض النماذج القصصية؛ لبعض الكتّاب العمانيين نذكر مثلا: «قصة هم»: لعبدالعزيز الفارسي: «يضحكون، يلعبون، يحتفلون، أحقا لا ترونهم؟ يملؤون الهواء. ها هم ينظرون إليّ بغضب. يا ويلي، يتقدمون نحوي».
وقصة أخرى «انقلاب»: «ثارت النجوم على استئثاره بالجمال. حاصرته. أسقط القمر، فعلت الأهازيج واستمرت رقصات النصر طويلا. على حين غرة. أطلت الشمس وأحرقت المشهد»
وهي جملة تختص بالسرد الذي يقوم به مبنى الحكاية (8).
«القصة الومضة» (Flash Fiction).
في تلك الصدمة التي يوجهها القارئ هي قيمة نفسية وفنية هي مكونات التواصل والتقبل والحضور بكل جوانب الحكي والمكون في القصة القصيرة جدا له مكانته وقيمته. «العوالم التخيلية هي طفيليات داخل العالم الواقعي»، كما يعبر إيكو.. ولكن هذه الطفيليات البسيطة تسمح لنا بالانغماس في عالم آخر منتهٍ لا يشبه عالمنا الواقعي. وهذا ما يمكننا أن نقوله عن عالم القصة القصيرة جدا: فذلك الجزء الصغير من القول الذي لا يتجاوز عدة كلمات قد يحوي عالما تخيليا لا منتهٍ وليس له حدود، يجعلنا نعيش في متاهة كبرى.
فالمقابلات الفنية التي تصل إلى محاورها بين تكوين الخلق وخروجا عن التوقع، حيث يشكل الحدث بؤرة القصة والمتواليات تبقى في ذهن القارئ. وعليه كانت اكتمال الصورة وملئ الفراغات. وقد رصد التحولات والدلالات. فظهر ذلك من خلال الترميز والإيحاء والتقابل، والتكثيف.
إن التركيب اللغوي والأسلوبي في القصة القصيرة جدا يكون في صورته الجمالية والفنية بحيث تكون اللغة استعارية ومجازية وبلاغية تقوم على جمالية الحذف والتركيب والبناء. والتوقع.
وتمثل «القفلة أو الخاتمة أهم عناصر كتابة القصة القصيرة جدا، فتلك المخاتلة في أنصبة الحكاية تسطح القول للمتلقي؛ فترصد حركته، وعاطفته، وتوضح مجاله وقد وردت أفعاله فيما تبنيه الحكاية (النص) تواصلا مع مكونه الأساس.
ومن هذه القفلة التي كانت موضوعا لدراسة الدكتور سلطان الفزاري حول جمالية تشكيل القفلة في القصة العمانية القصيرة جدا. أقفل هذا الموضوع بعد أن أوجزت نتائجه عن القصة القصيرة جدا في عمان والتي أختار منها الآتي:
1-لم يستقر النقاد والدارسون على تعريف نهائي للقصة القصيرة جدا. وبقي مصطلح القصة القصيرة جدا هو الأكثر دلالة للتعبير عن هذه الكتابة الإبداعية.
2-أن القصة القصيرة جدا تقوم على جملة من الأركان والثوابت المعيارية وهي: القصصية والحجم والدهشة والتكثيف والمفارقة والوحدة والقفلة المتوهجة واللغة الشعرية. (9).
فهرس المصادر والمراجع:
(1) أحمد السماوي، الأدب العربي الحديث، دراسة أجناسية، مركز النشر الجامعي، تونس،2002،ص77.
(2) السابق،ص83.
3ـ حميد لحمداني، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1 ،1991م، ص45.
4-بول ريكور، الزمان والسرد، التصوير في السرد القصصي، ترجمة فلاح رحيم، الجزء الثاني، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان،2006م، ص60.
5-أوجين يونيسكو 26 نوفمبر 1909-29 مارس 1994 هو مؤلف مسرحي روماني – فرنسي يعد من أبرز مسرحيي مسرح اللامعقول، بالإضافة الى السخرية من عبثية أوضاع الحياة فإن مسرحيات يونسكو تصف وحدة الإنسان وانعدام الغاية في الوجود الإنساني.
6 ـ حطيني، يوسف، نظرية القصة القصيرة جدًا، arabik-microfiction- asociation.blogspot. com إبريل-7-2013
7 ـ حمداوي، جميل، أركان القصة القصيرة جدًا ومكوناتها الداخلية، ملف المرأة والمجتمع الطموحات والقابليات، صحيفة المثقفwww.almothaqad.com..
8-»إحسان صادق التكثيف في القصة القصيرة جدا في سلطنة عمان، جامعة السلطان قابوس،2018، ص83.
9-سلطان الفزاري، جمالية تشكيل القفلة في القصة العمانية القصيرة جدا، دراسة في نماذج مختارة، المجلة العلمية لكلية الآداب، مج 13،ع3 ،2024، ص39.
ثاني جمعة الحمداني كاتب عماني