بغداد اليوم -  كردستان

في كل أزمة يمر بها أي بلد، ثمة من ينهار وثمة من يصعد. في كردستان العراق، حيث تتقاطع الأزمات المالية بالسياسية، وتتداخل المصالح الحزبية بالاقتصادية، باتت هذه القاعدة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.

فبينما يغرق الإقليم في دوامة تأخير الرواتب، وتراجع الاستثمارات، وتآكل الثقة بين المواطن والمؤسسة، خرجت من رحم هذه الفوضى طبقة من الأثرياء الجدد، بعضهم يملك الآن ثروات بمليارات الدولارات، دون أن يمتلكوا تاريخًا اقتصاديًا معروفًا، سوى أنهم أحسنوا استغلال لحظات الانهيار.

مَن هم هؤلاء؟ وكيف استطاعوا تحويل الأزمات إلى فرص؟ ولماذا غابت المحاسبة؟ أسئلة تتصاعد مع كل أزمة جديدة تمر على الإقليم، لتكشف عن اقتصاد مشلول من جهة، وشبكة نفوذ محصّنة من جهة أخرى.


أزمات بوابة للثروة... حين تتحوّل السياسة إلى رأس مال

يؤكد أستاذ الاقتصاد في جامعة حلبجة، خالد صابر، أن "الأزمات التي تضرب إقليم كردستان منذ سنوات لم تخلق فقط آثارًا سلبية على الواقع المعيشي، بل كشفت عن مسارات موازية لصعود غير مبرر لطبقات مالية جديدة، معظمها تدين بنجاحها للنفوذ السياسي والحزبي أكثر مما تستند إلى مهارات اقتصادية أو مشروعات إنتاجية حقيقية".

وقال صابر، في حديثه لـ"بغداد اليوم"، إن "من المعروف في كل أزمة تظهر في بلد معين، أن هناك من يطلق عليهم (تجار الأزمات)، وهؤلاء يسعون إلى تعظيم أرباحهم في ظل الفوضى، وهذا ما حصل فعلًا في كردستان خلال السنوات الأخيرة".

ويضيف: "الإقليم شهد أزمات متداخلة، من تأخر دفع الرواتب، إلى تراجع الدعم الاتحادي، ثم تداعيات كورونا، والأزمات السياسية مع بغداد، وكل ذلك سمح لفئة من السياسيين والمتنفذين والمقربين من السلطة باستغلال الوضع، واحتكار السوق لصالحهم".


أسواق مغلقة بوجه المنافسة... ومفتوحة لتهريب الثروات

بحسب صابر، فإن أبرز أدوات تلك الفئة تمثلت في "التهرب من الضرائب، والتحكم الكامل بتدفق السلع والبضائع، والتعامل مع الأسواق على أنها إقطاعيات خاصة"، مشيرًا إلى أن "الكثير منهم يتعاملون بالتهريب المنظم، خصوصًا في قطاعات السيارات، السكن، الأجهزة الكهربائية، وحتى المواد الغذائية".

ويلفت إلى أن "التلاعب بالأسعار أصبح سياسة متفق عليها بين هذه الدوائر التجارية، ويتم التنسيق أحيانًا فيما بينها، ما أفقد السوق تنافسيته الطبيعية، وساهم في تعميق أزمة المواطن الذي يدفع الثمن من قوته اليومي".

ولم يقتصر الأمر على التجارة الملموسة فقط، إذ يشير صابر إلى أن "تجارة العملة نفسها أصبحت جزءًا من هذا التلاعب، حيث تجري مضاربات منظمة بعيدة عن الرقابة الحكومية، بما يحقق أرباحًا خيالية للمتنفذين، ويخلق فجوات مالية تهدد استقرار السوق".


الحكومة غائبة... أم مغلوبة على أمرها؟

أحد أبرز محاور الإشكال يكمن في غياب المحاسبة، أو بالأحرى، في انعدام الإرادة السياسية للمحاسبة. إذ يبيّن صابر أن "السلطات في الإقليم تعرف هؤلاء بالأسماء، لكن لا يمكن الاقتراب منهم لأنهم محميون بحصانات حزبية وعلاقات سياسية مع مراكز القرار".

ويتابع: "في ظل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن سوق حر أو منافسة عادلة أو حتى ضرائب ترفد الخزينة العامة، لأن شبكات النفوذ تسيطر على مفاصل الاقتصاد وتتحكم به وفق مصالحها".


ضريبة المواطن.. عندما يتحوّل الشعب إلى وقود لتراكم الثروات

النتيجة النهائية، كما يراها صابر، هي "تفاقم معاناة المواطن، الذي يدفع الضريبة على شكل غلاء أسعار، وفقدان للثقة بالسوق، وتراجع في القدرة الشرائية، بل وحتى انسداد في آفاق العمل، بسبب احتكار الفرص من قبل جهات بعينها".

ويؤكد أن "ما يحصل اليوم في كردستان لا يختلف كثيرًا عن نماذج شهدتها دول تعاني من اقتصاد ريعي أو فساد هيكلي، حيث تنمو الثروات في يد قلة، وتتسع الهوة بين الطبقات، وتنهار قواعد العدالة الاقتصادية".


تحليل بياني: من يملك الثروة في كردستان؟

يكشف توزيع الدخل في إقليم كردستان عن فجوة طبقية صارخة، تُظهر حجم التفاوت بين طبقة صغيرة تسيطر على الاقتصاد وبين غالبية تكافح لتأمين لقمة العيش.

وبحسب تقديرات تقريبية مستندة إلى بيانات مراقبة السوق المحلية، فإن:

نحو 15% من السكان يعيشون في فقر مدقع، دون دخل يكفي لتغطية الأساسيات.

أكثر من 35% ينتمون إلى فئة الدخل المنخفض، وهم الأكثر تضررًا من تقلبات الأسعار واحتكار السوق.

30% يمثلون الطبقة المتوسطة، لكنهم معرضون للانزلاق إلى الفقر بسبب الأزمات المتكررة.

حوالي 15% يتمتعون بدخل مرتفع نسبيًا.

فيما تتركز الثروة الحقيقية بيد 5% فقط من السكان، يشكّلون ما يمكن تسميته بـ"نخبة الأزمة"، وهم من ازدهرت أرصدتهم في ظل الانهيارات الاقتصادية.

هذا التوزيع لا يعكس فقط أرقامًا باردة، بل يُترجم إلى واقع اجتماعي هشّ، تضعف فيه الطبقة الوسطى، وتتسع فيه الفجوة بين الغني والفقير، ما يُنذر بتحولات اجتماعية خطيرة إذا لم يُعاد النظر في السياسات الاقتصادية ويفعَّل مبدأ العدالة والرقابة.


فجوة الثروة... تهديد صامت للاستقرار الاجتماعي والأمني

لا يقف التفاوت الطبقي في كردستان عند حدوده الاقتصادية، بل يمتد ليشكّل تهديدًا صامتًا لاستقرار المجتمع ككل. فحين تتكدّس الثروة بيد قلة نافذة، وتُترك الأغلبية تصارع من أجل البقاء، تتآكل الثقة العامة بالمؤسسات، ويولد شعور جماعي بالتهميش والإقصاء.

هذا الخلل يُنتج بيئة خصبة للاحتقان، تتغلغل فيها مشاعر الغضب، وتنهار فيها منظومة القيم التي تقوم على العدالة والتكافؤ. ويُحذّر خبراء اجتماعيون من أن استمرار هذا الوضع قد يُفضي إلى اضطرابات اجتماعية، سواء على شكل احتجاجات، أو عزوف عن المشاركة السياسية، أو حتى انجراف فئات شبابية نحو خيارات أكثر راديكالية.

كما أن اختلال التوازن في توزيع الموارد يُضعف هيبة الدولة، ويُرسّخ قناعة بأن السلطة ليست سوى أداة بيد طبقة متنفذة لحماية مصالحها، وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي الهشّ أصلًا في الإقليم، خاصة مع تنامي البطالة وتراجع الخدمات الأساسية.

في هذا السياق، تبدو الحاجة ملحّة أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة جذرية للنموذج الاقتصادي في كردستان، ووضع سياسات واضحة لكسر احتكار السوق، واستعادة التوازن المفقود بين السلطة والثروة، قبل أن يتحوّل التفاوت الطبقي إلى أزمة تفوق كل الأزمات السابقة.


بين ثروة السلطة وسلطة الأزمة... أي مستقبل ينتظر كردستان؟

إن ما يجري في إقليم كردستان لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق السياسي الذي أفرز هذه الطبقة الاقتصادية الجديدة. فالثروة لم تكن وليدة الاستثمار أو التخطيط طويل الأمد، بل نتاج شبكة من المصالح الحزبية والمراكز النافذة التي تعاملت مع الأزمات كفرص لإعادة توزيع السوق وفق منطق القوة لا العدالة.

وحين تُصبح الثروة حكرًا على من يملك النفوذ السياسي، تتحوّل المؤسسات الاقتصادية إلى واجهات شكلية، ويصبح الاقتصاد محكومًا بقرارات غير مرئية تصدر من غرف مغلقة. في هذه اللحظة، لا يعود المواطن جزءًا من معادلة التنمية، بل يتحوّل إلى مجرد "أثر جانبي" لأزمة يتقاسم نتائجها وحده.

وما لم تُكسر هذه الحلقة الجهنمية التي تربط السلطة بالمال، وتُستعاد قواعد الشفافية والمحاسبة، فإن الإقليم يتجه نحو مزيد من التفكك الاجتماعي والتدهور الاقتصادي والانغلاق السياسي، ما قد يعمّق من عزلة كردستان عن بغداد وعن بيئته الإقليمية أيضًا.

الطريق إلى الإصلاح يبدأ من الاعتراف بعمق الاختلال، ومن ثم الشروع بخطوات عملية تعيد رسم ملامح اقتصاد يخدم الناس، لا الطبقات. وإلا فإن الثمن سيكون باهظًا... ولن يدفعه سوى أولئك الذين لم يملكوا يومًا سلطةً ولا ثروة.

المصدر: بغداد اليوم+ وكالات

المصدر: وكالة بغداد اليوم

كلمات دلالية: فی کردستان

إقرأ أيضاً:

نواب يطالبون بضبط الأسواق وتشديد الرقابة على المجازر: لا لتجار الأزمات في عيد الأضحى

نواب البرلمان عن ضبط الأسواق وتشديد الرقابة:التوسع في المعروض لمنع الاحتكار وضبط الأسعارتشديد الرقابة على المجازر وعمليات نحر اللحوم خلال عيد الأضحىضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لضمان استقرار الأسواق ومنع الاحتكار

تزامنا مع عيد الأضحى المبارك، تتصاعد المخاوف من تكرار مشاهد الفوضى في أسعار السلع الغذائية واللحوم، وسط محاولات بعض التجار استغلال أجواء الأعياد لرفع الأسعار دون مبرر.

وفي هذا السياق، شدد عدد من أعضاء مجلس النواب على أهمية التدخل السريع من الجهات الرقابية لضبط الأسواق، وتشديد الرقابة على المجازر وعمليات نحر اللحوم، وحماية المواطنين من جشع تجار الأزمات.

مستشفى بدر الجامعي التابعة لطب حلوان ترفع درجة الاستعداد القصوى بالتزامن مع عيد الأضحىالتسول في عيد الأضحى| الحبس 5 سنوات وغرامة 200 ألف جنيهوزيرة التنمية المحلية تتابع تطورات الوضع في المحافظات خلال أول أيام عيد الأضحىغدا.. قصور الثقافة تطلق احتفالات عيد الأضحى بالطور وشرم الشيخ

وأكد النواب في تصريحات خاصة لـ"صدى البلد"، أن حماية المستهلك تبدأ من رقابة صارمة، وتوسع في المعروض، وحزم في مواجهة التجاوزات، مطالبين الحكومة باتخاذ إجراءات عاجلة لضمان استقرار الأسواق ومنع الاحتكار خلال موسم العيد الذي يُعد من أكبر مواسم استهلاك اللحوم في مصر.

طالبت النائبة إيفلين متي، عضو مجلس النواب، بإحكام السيطرة والرقابة المشددة على المجازر وعمليات نحر اللحوم خلال فترة عيد الأضحى المبارك، لضمان تطبيق الشروط والأحكام التي تضمن الحفاظ على صحة وسلامة المواطنين.

وأكدت “متي” في تصريح خاص لـ"صدى البلد"، على ضرورة تشديد الرقابة على الأسواق بجانب تفعيل دور جهاز حماية المستهلك من خلال تفعيل الخطوط الساخنة للإبلاغ عن بعض المخالفات، بالإضافة إلى شن مجموعة من الحملات المفاجئة، وتفعيل دور وسائل الإعلام للتوعية بهذا الأمر.

وقالت إن خطورة عدم وضع حد لهذا الانفلات الملاحظ في الأيام الماضية بأسعار السلع، في احتمالية انتشار أكبر للسرقات الفردية ومخاطر حدوث بعض الاضطرابات الأمنية.

وطالبت الحكومة بسرعة التحرك بأدواتها الكاملة لضبط عمليات التسعير التي يشوبها الفوضى وإعادة مراجعة مخصصات الحماية الاجتماعية بشكل عاجل وسريع بما يتناسب مع المتغيرات الآنية.

وبدورها، أكدت النائبة مرفت الكسان، عضو لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، أهمية التوسع في المعروض من السلع الغذائية الأساسية خلال فترة عيد الأضحى المبارك، وذلك لمنع الاحتكار وضبط الأسعار.

وأشارت في تصريح خاص لـ"صدي البلد"، إلى أن تراجع أسعار اللحوم بالأسواق جاء نتيجة الإفراجات الجمركية عن البضائع في الجمارك وبعد قرار البنك المركزي بتحرير سعر الصرف.

وأضافت أن وزارة الزراعة قامت ببيع كيلو اللحوم في منافذها بـ300 جنيه لمجابهة التجار الذين لم يقوموا بدورهم في تخفيض أسعار اللحوم في الأسواق.

وأشارت إلى أن هناك تحركًا من جانب الحكومة من خلال الاتفاق مع الغرف التجارية واتحاد الصناعات لتخفيض الأسعار، حتى يشعر المواطن بوجود انخفاض في أسعار السلع.

ومن جانبها، طالبت النائبة إيفلين متي، عضو مجلس النواب، بإحكام السيطرة والرقابة المشددة على المجازر وعمليات نحر اللحوم خلال فترة عيد الأضحى المبارك، لضمان تطبيق الشروط والأحكام التي تضمن الحفاظ على صحة وسلامة المواطنين.

وأكدت “متي” في تصريح خاص لـ"صدى البلد"، على ضرورة تشديد الرقابة على الأسواق بجانب تفعيل دور جهاز حماية المستهلك من خلال تفعيل الخطوط الساخنة للإبلاغ عن بعض المخالفات، بالإضافة إلى شن مجموعة من الحملات المفاجئة، وتفعيل دور وسائل الإعلام للتوعية بهذا الأمر.

وقالت إن خطورة عدم وضع حد لهذا الانفلات الملاحظ في الأيام الماضية بأسعار السلع، في احتمالية انتشار أكبر للسرقات الفردية ومخاطر حدوث بعض الاضطرابات الأمنية.

وطالبت الحكومة بسرعة التحرك بأدواتها الكاملة لضبط عمليات التسعير التي يشوبها الفوضى وإعادة مراجعة مخصصات الحماية الاجتماعية بشكل عاجل وسريع بما يتناسب مع المتغيرات الآنية.

طباعة شارك عيد الأضحى المبارك نواب البرلمان ضبط الأسواق تشديد الرقابة ضبط الأسعار منع الاحتكار

مقالات مشابهة

  • «العمل الدولية» تدعو لمجتمعات أكثر عدلاً
  • مهيب عبد الهادي : محمود صابر يقرب من الزمالك .. تفاصيل
  • خطر “التريبورتورات” يواصل حصد أرواح المغاربة.. 7 قتلى في ثاني أيام العيد بقلعة السراغنة
  • تفاصيل حفلات عمر خيرت في دار الأوبرا خلال يونيو
  • الغلاء وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بعدن تسرق فرحة الناس بالعيد
  • أمطار الخير تهطل على المنطقة الوسطى بالشارقة
  • العقاب الجماعي في العقيدة النازية: قصة معاشات تُصادر في كردستان
  • حزب العدل الكردستاني يحمل حكومة مسرور أزمة روانب الإقليم
  • مواطنو كردستان يعانون و حفيد البارزاني يستعرض ثروته في موناكو بسيارة لامبورغيني
  • نواب يطالبون بضبط الأسواق وتشديد الرقابة على المجازر: لا لتجار الأزمات في عيد الأضحى