لجريدة عمان:
2025-07-03@15:05:18 GMT

لكم سخافتكم ولنا ثقافتنا

تاريخ النشر: 8th, April 2025 GMT

سؤال أساسي يغلب فـي حالِ التقلُّب التي نحياها اليوم، وفـي لهيب التحوّلات المعرفـيّة والاقتصادية والإقليميّة، وفـي وَهج إعادة توزيع عناصر الكون، سؤال دومًا يُطرَحُ كلّما عصفت بالواقع متغيّراتٌ تهزّ ثوابته، وهو البحث عن المثقّف، أين هو المثقَّف الذي يُفتَرَضُ أنّه ضمير الأمم وبصيرتها، وأنّه المُبشِّرُ والنذير؟ هل يعيش داخل الصّراع التاريخيّ؟ أو هو يُقيم أنانيَّةً يحيا بها، ويقتاتُ من فتات النرجسيّة والتعالي على سخافة الشّعوب؟ لقد أظْهرَ التاريخُ أنّ كلَّ مُثَقَّف ينسحبُ من متغيَّرات تلحق العالم، ويدسُّ رأسه فـي التراب، ينتهي إلى الإهمال وعدم الذكر، المثقَّف هو مواقف ورؤيةٌ، ولا يُمكن أن يُعزَل عمَّا يدور حوله.

ولقد انبنت فلسفاتٌ ونقود هامَّة على بيان دور المثقّف وعلى بيان ماهيته ووظيفته وأدواره، غير أنّنا نرى فـي هذا الزَّمن الذي لا نُدرِكُ له جوْهَرًا ولا وجْهًا انحسَارًا لإيمان العامَّة والخاصّة برأي المثقَّف، نظرًا إلى تراكمٍ همَّش من أدائه، وسفَّه من آرائه، وحطَّ من منزلته. المثقَّف اليوم ليس قُدوةً، وليس ممثِّلاً لسبيل يرومه النَّاس ويقتدي به الشّبابُ والشِّيبُ. أصبح المُثَقَّف صُورةً من الفقْرِ وعدم المزامنة والخروج عن حركيَّة التّاريخ.

أصبح المعلِّم صورة عن الأمل الذي يجب تفاديه، أصبح كابوسًا، يبتعد عنه الحالمون حتّى فـي كوابيسهم. لا أعرف هل هذا جيِّدٌ أو هو داخلٌ فـي منطق التاريخ المتحوِّل، النّماذج القدوة اليوم، هي النماذج التي إن زارت عرضًا أو مَعرضًا أو مطعمًا تكدَّس عليها الخلْق، وإن قالت كلامًا شُوهِدت بالملايين، هي التجلِّي المنطقيِّ لما سمَّاه آلان دونو بنظام التفاهة، نظام التفاهة الذي لحق كلّ سبيلٍ فـي الكوْن، والعجيب الغريب أنّ أغلب النَّاس يُقرُّون بفساد هذا النّظام، ولكنّهم منخرطون فـيه سرًّا وعلانيّة.

مؤخَّرًا تساءلت صُحف عديدة عن دور الجامعيين فـي الغرب فـي ظلّ الاعتداءات الصَّارخة على الطلبة المُناصرين للقضيّة الفلسطينيّة، وأساتذَتُهم فـي صمتٍ مبينٍ، أو هم فـي ردودِ فعلٍ محتشمة، يُنادُون بعدم التعدّي على مكتسبات الحريّة والتعبير عن الرأي. لم يعد هنالك ثباتٌ فـي جحيم اختمار المتحوِّل العالمي، ولم تعد هنالكٌ قيمٌ متَّفَق عليها، وإنّما كلٌّ يدعو إلى مراعاة مصلحته، ومصلحة بلده التي يضعها فوق جثث الضعفاء.

ما يحدثُ اليوم فـي غزَّة مقرونًا بما فرضه ساخرا هازئا رأسُ الولايات المتَّحدة الأمريكيّة من ضرائب على بقيَّة الأقوام، هو التجلّي الفعلي لنظام الفَتْونة وهيمنة القويّ على الضّعيف، فما رأي المثقّف فـي أشلاء جثث الأطفال المبعثرة، وفـي احتراق العباد وهم أحياءُ، وفـي منع النّاس من مائهم فـي القرن الحادي والعشرين، يُمنَع النّاس من الماء والدواء، يُمنَع النّاسُ من الصُّراخ، ومن دفن موتاهم، يُمنَع النّاس من الموت دون دماء وسماء تُدَكُّ فوق رؤوسهم، أيّ تاريخ سيغفر لنا صمتنا وجبننا ودهشتنا؟ المثقَّف اليوم لا صوتَ له ولا حول له ولا بأس، هو العجز المُطلَق حتّى على الكتابة، لم نسمع أغنيةً مبكيةً، مزلزلة، ولا بيتًا من الشِّعر مُعبِّرًا عن هذا القتْل البائس اليائس لبغْلٍ هائجٍ يُباركه عتاةُ الكون، صمت الكلام، صمت الفنّ، خرس المثقّف، وإن نطق نطق كُفْرًا، أو نطق دون أذن صاخية، هو الفشل فـي نظامٍ كونيّ، متغيِّر كلَّ حينٍ، لا وجه فـيه للإنسانيَّة التي دافعنَا عنها مدى بقائنا، هو عالمٌ من سُلالة مصّاصي الدّماء ومجرمي رعاة البقر وقبائل أكَلة لحوم البشر، ودبيب عناكب سامّة، تلبيس براغيث همجيّة هائجة، يغيب المثقَّف عن هذا العالم، عن هذا النظام العالمي الذي تقدُّ الأدمغة فـيه والأهواء والأخلاق تقلُّبات عالمٍ افتراضيّ تكمن خلفه أدمغةٌ متوجّهة لقتْلِ البشر والبشريّة وإحياء «نظام التفاهة».

لا صوتَ يُسْمَع للفـيلسوف ولا للشّاعر ولا للمسرحيّ ولا للرسّام ولا للروائيّ ولا للجامعيّ ولا للعالم، وإنَّما هو ثُغاء البشر، وبقاءُ الزَّبد، ودوام رغوة الفقاع. ما يُؤلمنا فـي هذا العالم الجديد، ليس قتْل النّاس، يُذَبَّحون على هيكل سليمان، ولا أصوات العربيّات المسلمات النائحات عن معتصَم لم يُوجَد، ولا كوابيس الأطفال، وهم يمدّون الأيادي المكلومة، من بين أشلاء البشر المخلوطة بالإسمنت والحجارة وأجزاء الأسقف السّاقطة فوقهم، المضرَّجة بدماء العجز والمقت والهزيمة، ولا موت الشيخ على قارعة طريقٍ مهزوزٍ بقنابل أنْفقت عليها آلاف الأوراق النقديّة، لتمزِّق هدْأة الكوْن، وهو يستغيثُ شربةَ ماءٍ ولا يُغَاثُ، ولا بذاءة الإسرائيليّ الشّارب لدماء ثور يلحق به شبيهه فـي قريبٍ عاجل، ما يؤلمني حقًّا، أنّني أشهد نهاية الإنسانيَّة، وأنّي وجيلي، بذلْنا من العمر جميله فـي حلمٍ عشناه، أن تسود العدالة، أن يَغلِبَ الإنسانُ الحيوانَ، فإذا فـي الإنسانُ ما لا حيوان اجتباه ولا وحش أتاه، فـيه الرَّغبة فـي شُرب الدّماء دون علَّة أو سببٍ، وإذا ذلك فـي الإنسان مغروس مركوز، منذ أوَّل البشر، منذ قتَّل قابيل هابيل، وقد يصبح القاتل مقتولاً فـي الصياغة الإسرائيليّة للعلاقات العدائيَّة والحربيّة، وقد يتحوّل صاحب الدّار إلى نكرةٍ يجب أن يُطرَد. المُخيف فـي هذا العالم أنّ الفلسفة تخلّت عن نظريّة الإنسان الأسمى، أو الإنسان الأقوى، غير أنَّ أصحاب المال والنفوذ تلقّفوا الفكرة، وهاهم يُجسّدونها، ولا يعنيهم فـي الكون إلاّ الأقوياء، أمَّا الضِّعاف، فالعجْنُ أولى بهم، هل ما زلتم تتحدّثون عن نظرةٍ إباديَّة، نازيّة، عنصريّة، آريَّة لهتلر؟! خلاصَةُ هذا التكسُّر الذي يعيشه المثقَّف الكونيّ لا العربيّ (العربيّ أشدُّ وطْأةَ التّابع) فحسب، أنّ ثقافةً هزيلةً بديلة قد تطمس الثقافة التقليديّة، مسْرَحًا وقصصًا وموسيقى ووعْيًا بمشاغل الإنسان، إلى ثقافةٍ قائمة على عارضين افتراضيين فـي مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، هي القُدوة لأجيالٍ قادمة، الأجيال القادمة متذبذبة بين سطوتنا المُفقرة وترسانة القِيَم التي نُريد أن ننقلها إلى جيلٍ له ثقافته ووسائل حلمه، ورغوة الزَّبد التي تَعِد بالثروة والإجلال والتقدير. سيفٌ يخز صدري عندما أرى الفاعلات والفاعلين عبر مواقع التواصل يُحتَفى بهم فـي معارض الكتاب، ويقولون قولاً فـي العلم والفنّ، فأرجوكم، دعونا، ودعوا لنا مقابرنَا، وكتبنا، وهرِّجوا مع جيلكم عبر مواقعكم، فلكم سخافتكم ولنا ثقافتنا.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هم فـی

إقرأ أيضاً:

ستيفن سبيلبرغ الطفل الذي رفض أن ينكسر وصنع أحلام العالم بالسينما

وُلد سبيلبرغ في ولاية أوهايو بعد الحرب العالمية الثانية لعائلة تنتمي لمهاجرين يهود، وقضى طفولته في التنقل المستمر بين المدن تبعًا لعمل والده، مما جعله غير مستقر نفسيًا وعرضة للتنمر في المدرسة.

وسلطت حلقة (2025/7/1) من برنامج "عن السينما" الضوء على معاناة سبيلبرغ من الوحدة الشديدة لدرجة أنه كان تمنى أن يكون له صديق مختلف عن الجميع يشبهه، فكان يتخيل أحيانًا أن صديقه كائن فضائي، وهو ما ظهر لاحقًا في فيلمه الأيقوني "إي تي" الذي حكى قصة صداقة بين طفل وكائن فضائي.

ووجد سبيلبرغ في الكاميرا صديقته التي خففت عنه الوحدة، فكان يصور كل شيء من رحلات التخييم إلى سيارة العائلة وقطاراته وألعابه.

وفي بداياته كهاوٍ، صور سبيلبرغ فيلمًا بعنوان "فايرلايت" عام 1964 عن حوادث اختطاف تتم عبر كائنات فضائية، وفاز عنه بالجائزة الأولى لأفلام الهواة، لكن النسخة ضاعت لاحقا.

وفي سن الـ14، حدث الانفصال بين والديه فانتقل مع والده إلى كاليفورنيا، وهو ما وصفه بأنه الوقت الأكثر تعاسة في حياته، ولم يغفر لوالده تخليه عن العائلة.

وشكلت هذه التجارب المؤلمة أساسًا لمعظم أفلام سبيلبرغ اللاحقة، حيث تتجسد شخصية الطفل الوحيد دائمًا والأب الغائب أو العلاقة المضطربة بين الأب والابن.

ولكن الحياة في كاليفورنيا، مركز صناعة السينما في العالم، جعلته أقرب لتحقيق أحلامه، فلم يكن مهتما بالمخدرات أو الكحول أو الرياضة أو السياسة، بل كان كل ما يهمه هو السينما وصناعة الأفلام.

وبدأ نجاح سبيلبرغ الحقيقي مع فيلم "جوز" عام 1975، الذي حكى قصة قرش قاتل يثير الرعب في مدينة ساحلية صغيرة.

وكانت تجربة التصوير صعبة ومعقدة، حيث أصر سبيلبرغ على التصوير في المحيط من أجل المصداقية، وتضاعفت الميزانية 3 مرات واستغرق التصوير 159 يوما بدلًا من 55.

ولكن عند عرض الفيلم، حقق نجاحًا جماهيريًا غير مسبوق بإيرادات وصلت إلى 470 مليون دولار عالميًا مقابل تكلفة إنتاج 9 ملايين فقط.

إعلان

سينما الخيال العلمي

ووضع هذا النجاح سبيلبرغ في المكان الذي كان يحلم به، فصنع أحد أكثر أفلامه ذاتية في سينما الخيال العلمي بعنوان "لقاءات قريبة من النوع الثالث"، المستوحى من فيلمه المفقود "فايرلايت".

وقرر سبيلبرغ ألا يكون هناك أشرار في الفيلم، فجعل الكائنات الفضائية زوارًا مسالمين وأذكياء، مستلهمًا ذلك من ذكريات طفولته عندما أخذه والده لرؤية وابل من النيازك في السماء.

وبعد سلسلة من النجاحات التجارية، واجه سبيلبرغ انتقادات قاسية من النقاد الذين وصفوا أفلامه بأنها مسلية لكنها سطحية وليست سينما حقيقية، ورد سبيلبرغ على هذا الهجوم بفيلم "اللون الأرجواني" الذي اعتبره أول أفلامه الجادة، وأثبت قدرته على صناعة السينما الدرامية العميقة.

وجاءت ذروة إنجازات سبيلبرغ في عام 1993 عندما شاهد الجمهور فيلمي "جوراسيك بارك" و"قائمة شندلر" في نفس العام.

وحقق الأول إيرادات اقتربت من المليار دولار وأحدث ثورة في المؤثرات البصرية، بينما فاز الفيلم الثاني بـ7 جوائز أوسكار وحصل سبيلبرغ أخيرًا على جائزة أفضل مخرج.

وكان فيلم "قائمة شندلر" تجربة مؤلمة شخصيًا لسبيلبرغ، حيث واجه فيه هويته الدينية اليهودية التي كان يخجل منها، وحكى قصة حقيقية عن رجل أعمال ألماني أنقذ اليهود من "محارق الهولوكوست".

واستمر سبيلبرغ في تقديم مشاريع متنوعة على مدار العقود التالية، من الأفلام التاريخية مثل "إنقاذ الجندي رايان" إلى أفلام الخيال العلمي التي تتنبأ بمستقبل سوداوي للبشرية مثل "تقرير الأقلية".

ورغم تجاوزه 75 عاما، ما زال سبيلبرغ يقدم حكايات ساحرة تنقل المشاهدين من الواقع إلى عالم أكثر جمالًا، مؤكدًا أن قصة عشقه مع السينما لم تنته بعد.

الصادق البديري1/7/2025-|آخر تحديث: 16:22 (توقيت مكة)

مقالات مشابهة

  • شجون الهاجري بعد خروجها: الحمد لله الذي نجّانا دون أن نعلم
  • أول شهداء الواجب الذي استهدفته عصابة حنتوس صورة
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!
  • نيويورك تايمز: ما الذي تتوقعه واشنطن من حكومة الشرع في سوريا؟
  • هكذا يبدو منزل المغنية التركية غوكتشه كيرغيز في أوسكودار الذي تصدّر الترند! (صور)
  • ستيفن سبيلبرغ الطفل الذي رفض أن ينكسر وصنع أحلام العالم بالسينما
  • محمد الموجي.. مهندس الألحان الذي غيّر وجه الموسيقى العربية
  • تألق المونديال.. هذا المبلغ الذي حصل عليه الهلال حتى الآن
  • ما الذي يحدث في اتحاد كتاب مصر؟
  • أوقفوا صناعة الوهم: من الذي انتصر حقاً؟