سؤال أساسي يغلب فـي حالِ التقلُّب التي نحياها اليوم، وفـي لهيب التحوّلات المعرفـيّة والاقتصادية والإقليميّة، وفـي وَهج إعادة توزيع عناصر الكون، سؤال دومًا يُطرَحُ كلّما عصفت بالواقع متغيّراتٌ تهزّ ثوابته، وهو البحث عن المثقّف، أين هو المثقَّف الذي يُفتَرَضُ أنّه ضمير الأمم وبصيرتها، وأنّه المُبشِّرُ والنذير؟ هل يعيش داخل الصّراع التاريخيّ؟ أو هو يُقيم أنانيَّةً يحيا بها، ويقتاتُ من فتات النرجسيّة والتعالي على سخافة الشّعوب؟ لقد أظْهرَ التاريخُ أنّ كلَّ مُثَقَّف ينسحبُ من متغيَّرات تلحق العالم، ويدسُّ رأسه فـي التراب، ينتهي إلى الإهمال وعدم الذكر، المثقَّف هو مواقف ورؤيةٌ، ولا يُمكن أن يُعزَل عمَّا يدور حوله.
أصبح المعلِّم صورة عن الأمل الذي يجب تفاديه، أصبح كابوسًا، يبتعد عنه الحالمون حتّى فـي كوابيسهم. لا أعرف هل هذا جيِّدٌ أو هو داخلٌ فـي منطق التاريخ المتحوِّل، النّماذج القدوة اليوم، هي النماذج التي إن زارت عرضًا أو مَعرضًا أو مطعمًا تكدَّس عليها الخلْق، وإن قالت كلامًا شُوهِدت بالملايين، هي التجلِّي المنطقيِّ لما سمَّاه آلان دونو بنظام التفاهة، نظام التفاهة الذي لحق كلّ سبيلٍ فـي الكوْن، والعجيب الغريب أنّ أغلب النَّاس يُقرُّون بفساد هذا النّظام، ولكنّهم منخرطون فـيه سرًّا وعلانيّة.
مؤخَّرًا تساءلت صُحف عديدة عن دور الجامعيين فـي الغرب فـي ظلّ الاعتداءات الصَّارخة على الطلبة المُناصرين للقضيّة الفلسطينيّة، وأساتذَتُهم فـي صمتٍ مبينٍ، أو هم فـي ردودِ فعلٍ محتشمة، يُنادُون بعدم التعدّي على مكتسبات الحريّة والتعبير عن الرأي. لم يعد هنالك ثباتٌ فـي جحيم اختمار المتحوِّل العالمي، ولم تعد هنالكٌ قيمٌ متَّفَق عليها، وإنّما كلٌّ يدعو إلى مراعاة مصلحته، ومصلحة بلده التي يضعها فوق جثث الضعفاء.
ما يحدثُ اليوم فـي غزَّة مقرونًا بما فرضه ساخرا هازئا رأسُ الولايات المتَّحدة الأمريكيّة من ضرائب على بقيَّة الأقوام، هو التجلّي الفعلي لنظام الفَتْونة وهيمنة القويّ على الضّعيف، فما رأي المثقّف فـي أشلاء جثث الأطفال المبعثرة، وفـي احتراق العباد وهم أحياءُ، وفـي منع النّاس من مائهم فـي القرن الحادي والعشرين، يُمنَع النّاس من الماء والدواء، يُمنَع النّاسُ من الصُّراخ، ومن دفن موتاهم، يُمنَع النّاس من الموت دون دماء وسماء تُدَكُّ فوق رؤوسهم، أيّ تاريخ سيغفر لنا صمتنا وجبننا ودهشتنا؟ المثقَّف اليوم لا صوتَ له ولا حول له ولا بأس، هو العجز المُطلَق حتّى على الكتابة، لم نسمع أغنيةً مبكيةً، مزلزلة، ولا بيتًا من الشِّعر مُعبِّرًا عن هذا القتْل البائس اليائس لبغْلٍ هائجٍ يُباركه عتاةُ الكون، صمت الكلام، صمت الفنّ، خرس المثقّف، وإن نطق نطق كُفْرًا، أو نطق دون أذن صاخية، هو الفشل فـي نظامٍ كونيّ، متغيِّر كلَّ حينٍ، لا وجه فـيه للإنسانيَّة التي دافعنَا عنها مدى بقائنا، هو عالمٌ من سُلالة مصّاصي الدّماء ومجرمي رعاة البقر وقبائل أكَلة لحوم البشر، ودبيب عناكب سامّة، تلبيس براغيث همجيّة هائجة، يغيب المثقَّف عن هذا العالم، عن هذا النظام العالمي الذي تقدُّ الأدمغة فـيه والأهواء والأخلاق تقلُّبات عالمٍ افتراضيّ تكمن خلفه أدمغةٌ متوجّهة لقتْلِ البشر والبشريّة وإحياء «نظام التفاهة».
لا صوتَ يُسْمَع للفـيلسوف ولا للشّاعر ولا للمسرحيّ ولا للرسّام ولا للروائيّ ولا للجامعيّ ولا للعالم، وإنَّما هو ثُغاء البشر، وبقاءُ الزَّبد، ودوام رغوة الفقاع. ما يُؤلمنا فـي هذا العالم الجديد، ليس قتْل النّاس، يُذَبَّحون على هيكل سليمان، ولا أصوات العربيّات المسلمات النائحات عن معتصَم لم يُوجَد، ولا كوابيس الأطفال، وهم يمدّون الأيادي المكلومة، من بين أشلاء البشر المخلوطة بالإسمنت والحجارة وأجزاء الأسقف السّاقطة فوقهم، المضرَّجة بدماء العجز والمقت والهزيمة، ولا موت الشيخ على قارعة طريقٍ مهزوزٍ بقنابل أنْفقت عليها آلاف الأوراق النقديّة، لتمزِّق هدْأة الكوْن، وهو يستغيثُ شربةَ ماءٍ ولا يُغَاثُ، ولا بذاءة الإسرائيليّ الشّارب لدماء ثور يلحق به شبيهه فـي قريبٍ عاجل، ما يؤلمني حقًّا، أنّني أشهد نهاية الإنسانيَّة، وأنّي وجيلي، بذلْنا من العمر جميله فـي حلمٍ عشناه، أن تسود العدالة، أن يَغلِبَ الإنسانُ الحيوانَ، فإذا فـي الإنسانُ ما لا حيوان اجتباه ولا وحش أتاه، فـيه الرَّغبة فـي شُرب الدّماء دون علَّة أو سببٍ، وإذا ذلك فـي الإنسان مغروس مركوز، منذ أوَّل البشر، منذ قتَّل قابيل هابيل، وقد يصبح القاتل مقتولاً فـي الصياغة الإسرائيليّة للعلاقات العدائيَّة والحربيّة، وقد يتحوّل صاحب الدّار إلى نكرةٍ يجب أن يُطرَد. المُخيف فـي هذا العالم أنّ الفلسفة تخلّت عن نظريّة الإنسان الأسمى، أو الإنسان الأقوى، غير أنَّ أصحاب المال والنفوذ تلقّفوا الفكرة، وهاهم يُجسّدونها، ولا يعنيهم فـي الكون إلاّ الأقوياء، أمَّا الضِّعاف، فالعجْنُ أولى بهم، هل ما زلتم تتحدّثون عن نظرةٍ إباديَّة، نازيّة، عنصريّة، آريَّة لهتلر؟! خلاصَةُ هذا التكسُّر الذي يعيشه المثقَّف الكونيّ لا العربيّ (العربيّ أشدُّ وطْأةَ التّابع) فحسب، أنّ ثقافةً هزيلةً بديلة قد تطمس الثقافة التقليديّة، مسْرَحًا وقصصًا وموسيقى ووعْيًا بمشاغل الإنسان، إلى ثقافةٍ قائمة على عارضين افتراضيين فـي مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، هي القُدوة لأجيالٍ قادمة، الأجيال القادمة متذبذبة بين سطوتنا المُفقرة وترسانة القِيَم التي نُريد أن ننقلها إلى جيلٍ له ثقافته ووسائل حلمه، ورغوة الزَّبد التي تَعِد بالثروة والإجلال والتقدير. سيفٌ يخز صدري عندما أرى الفاعلات والفاعلين عبر مواقع التواصل يُحتَفى بهم فـي معارض الكتاب، ويقولون قولاً فـي العلم والفنّ، فأرجوكم، دعونا، ودعوا لنا مقابرنَا، وكتبنا، وهرِّجوا مع جيلكم عبر مواقعكم، فلكم سخافتكم ولنا ثقافتنا.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هم فـی
إقرأ أيضاً:
حرية الاختيار: بين بناء الذات ومواجهة الضرورة
مقدمة:
هل كان السبب في وجودنا على الأرض وخروج أبوانا من جنة عدن هو اختيار آدم وزوجه أن يأكلا من التفاحة؟ فقُضي عليهما أن يهبطا إلى الأرض، في مشهد يذكّر بسقوط الملائكة في فيلم City of Angels، حين قرر الملاك، الذي لعب دوره نيكولاس كيج، أن يتخلى عن نورانيته ليهبط إلى عالم البشر، يتألم ويحب، ويلاحق الموجات بفرحة طفل. تلك اللحظة لم تكن سقوطًا فقط، بل كانت بداية وعي جديد، وشرارة لتجربة إنسانية كاملة، مبنية على التردد، والشغف، والخسارة، والرغبة في المعنى. يعيش الإنسان منذ ذلك الحين جدلية مستمرة: هل هو مسيّر لا يملك من أمره شيئًا، أم أنه يملك حقّ الاختيار بين النور والظلام، بين طريق الهدى وطريق التيه؟ وهل ما يفعله هو حرية حقيقية أم مجرد تحقق لما كُتب عليه في علم الله.
رغم هذا التوتر بين الجبر والاختيار، فإن التجربة الإنسانية تقوم على لحظة حرّة، مهما كانت محدودة، لحظة يُقرّر فيها الإنسان من يكون. ولهذا كان “الاختيار” جوهر الكينونة الإنسانية، لأنه يعكس وعي الإنسان بمسؤوليته الأخلاقية، وكرامته ككائن قادر على قول “لا” في وجه الغريزة أو القطيع أو حتى القدر. ليس الاختيار مجرد حرية ساذجة، بل هو تعبير عن الشجاعة والهوية والتجربة. بين قابيل الذي اختار أن يرتكب الجريمة الأولى، وعيسى عليه السلام الذي اختار أن يواجه الصليب، تمتد المسافة التي تعرّف فيها الإنسانية ذاتها. وفي هذه المسافة تتشكل القيم، ويولد المعنى، ويُكتب التاريخ البشري.
المحور الأول: الاختيار كفعل داخلي يعيد تعريف العناية بالذات
ألم يلفتك مشهد الأستوديو الصباحي لأحد البرامج الجماهيرية؟ حيث تُنتقى ألوان الجدران، وملابس المذيعة، وأحمر الشفاه، وفنجان قهوتها. هل لاحظت كيف تُضخَّم انفعالاتها لتمنحك جرعة من المشاعر الإيجابية، تقنعك أن تؤجل همومك أو تقارن حياتك بتلك الصورة المصقولة، فيتسلل الإحباط إليك قبل أن يبدأ يومك؟ هون عليك، فإن لنفسك عليك حق الرعاية، كما تعتني بطفلك. ولا تسمح لسمّية البعض أن تتسرّب إليك.
مقالات ذات صلة زيارة ترمب للخليج ..”أنفاسها” لم تصل غزة.. 2025/05/18في مقالها “هذا هو المعنى الحقيقي للعناية بالذات”، تؤكد بريانا ويست أن التحديات التي نواجهها ليست عراقيل خارجية، بل جبالًا في داخلنا تنتظر أن تتسلقها. وتنتقد التصور السطحي للعناية بالذات، الذي يحصرها في الحمّامات الدافئة والحلويات، بينما هي في حقيقتها ليست هروبًا من الألم، بل مواجهته بشجاعة.
العناية بالذات تكمن في اتخاذ قرارات صعبة: سداد الديون، إنهاء العلاقات السامة، بناء روتين صحي، والاعتراف بالخيبات لتصحيح المسار. إنها ليست رفاهية، بل ممارسة ناضجة تشبه “تربية النفس” وبناء بيئة نفسية متزنة على المدى البعيد.
ويست تطرح تساؤلات حول كيف حوّل النظام الرأسمالي العناية بالذات إلى سلعة تُشترى وتُباع، وتدعو لبناء حياة لا نحتاج أن نهرب منها، بل نعيشها بوعي، حتى وإن لم تكن مثالية. أن تكون بطل حياتك لا ضحيتها هو اختيار يتكرر كل صباح: أن تواجه لا أن تتهرب، أن تصدق لا أن تنكر، أن تبني لا أن تُستنزف.
المحور الثاني: الاختيار في مواجهة الواقع والغموض
قد تبدو الحياة هادئة، بلا اضطراب على السطح، والسفينة تسير بسلام قرب الشاطئ، فلا تفكر في الإبحار نحو العمق، حيث الموج العالي والظلمة والأعاصير. كثيرون تأسرهم العادة ويقيّدهم المألوف، فيغفلون عن التساؤل عمّا يختبئ خلف التلة، مقنعين أنفسهم بأنها “قسمة ونصيب”.
لكن الإسلام لا يختزل الإنسان في الاستسلام، بل يمنحه حرية الاختيار ضمن علم الله الشامل: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف: 29)، ويذكّره بأن مشيئته لا تنفصل عن مشيئة الله: “وما تشاؤون إلا أن يشاء الله” (الإنسان: 30). والمجهول، في نظر الإيمان، ليس تهديدًا بل امتحانًا للصبر والتوكل: “وبشر الصابرين…” (البقرة: 155–156).
رغم تباين المرجعيات، يتفق كثير منها على مسؤولية الإنسان تجاه الغموض. ترى باما تشودرون، الراهبة البوذية، أننا نملك خيارًا: أن نعاني لأننا لا نحتمل ما هو كائن، أو أن نتصالح مع انفتاح الحالة الإنسانية، بما تحمله من عدم ثبات. لكن هذا التصالح لا يحدث دفعة واحدة، بل عبر التزام يومي: الامتناع عن الإيذاء، اعتبار الألم فرصة للتعلّم، والانفتاح على الواقع بلا قتال أو شروط.
بهذا، لا ننجو فقط من القلق، بل نتعلم أن نحيا في قلبه برفق وجرأة، كما لو أننا نقف وسط العاصفة، بلا ساتر، لكن أيضًا بلا خوف.
أما سارتر، فيؤكد في محاضرته “الوجودية نزعة إنسانية” أن الإنسان “محكوم عليه بالحرية”، مسؤول عن اختياراته حتى حين يغيب الدليل.
وهكذا، بين التوكل والتساؤل، بين وحي سماوي وتأمل روحي ونقد فلسفي، يبقى الإنسان فاعلًا في مواجهة الغموض، لا متلقيًا سلبيًا، ولكل رؤية مفهومها الخاص للحرية: تكليف إلهي، أو يقظة روحية، أو عبء وجودي.
المحور الثالث: الصراع بين الإرادة والقدر
يتجلى هذا الصراع حين تصطدم الإرادة الفردية بضرورات قاسية لا ترحم. الحرب كثيرًا ما تنتهي بخسارة شاملة تبتلع الجميع، ويقف الإنسان متسائلًا: لماذا يُسحق الحلم تحت وقع الحديد والنار؟
في حرب طروادة، تحوّل الشغف والانتقام إلى وقود لحصار دموي دام عقدًا، وبرغم نصر اليونانيين، لم يربح أحد سوى الخراب. صوّر هوميروس في الإلياذة هذه الحقيقة المؤلمة: حين يُسحق الإنسان، يُسحق جسدًا وروحًا وأخلاقًا.
في القرن العشرين، كتبت سيمون فايل “الإلياذة أو قصيدة القوة”، حذّرت فيها من أن القوة، متى استُدعيت، تفتك بالجميع وتطمس المعنى الأخلاقي. القوة لا تقتل فحسب، بل تغيّر طبيعة الإنسان وتجرّده من ملامحه.
وأحيانًا يبدو ما نعدّه خيارًا حرًا مجرد خطوة قدرية، تعيد الضرورة تشكيل الأولويات. كأن تجهّز أندروماكي الحمّام لزوجها هكتور، بينما هو ممدد قتيلًا خارج الأسوار، بإرادة الآلهة وذراع أخيل. مشهد يكشف هشاشة الإرادة أمام قدرٍ لا يعرف العدالة.
ها هي ألمانيا النازية تجتاح فرنسا. فيليب بيتان، بطل الحرب الأولى، يعلن الاستسلام، سعيًا لحماية ما تبقى. مقامرًا بإرثه، لكنه وُصم بالخيانة. في المقابل، أعلن ديغول التمرد من لندن، مؤسسًا حكومته المؤقتة. وبين استسلام وتمرد، بدت المصائر وكأنها تُساق دون مشورة من أصحابها.
أما سيمون فايل، فانضمت لحكومة ديغول، وماتت شابة بعدما امتنعت عن الطعام تضامنًا مع الجياع.
وفي معسكر نازي، احتمى فيكتور فرانكل بعقله، يؤلف كتابه في ذاكرته: البحث عن معنى. ففي صمت الجائع، وفي اختيار صغير يرفض النسيان، تتشابك الإرادة مع القدر.
المحور الرابع: الاختيار كتحرر سياسي وأخلاقي
في عالم تتكاثر فيه الأصوات المطالِبة بالقيادة، يذكّرنا هنري ميللر بأن لا أحد، مهما بلغ من الحكمة أو الكاريزما، يستحق أن يُسلَّم له مصير الإنسان. القيادة الحقيقية ليست في فرض التبعية، بل في إيقاظ الإيمان الداخلي، وتحفيز الآخرين على استعادة ثقتهم بقدرتهم على توجيه حياتهم.
فعل الاختيار ليس مجرد قرار عابر، بل هو تعبير أخلاقي عن الذات، لحظة ينهض فيها الإنسان من تحت ركام التلقين والخوف، ليقول: أنا المسؤول عن حياتي. يقول سبينوزا إن وظيفة الحُكم ليست تقييد الحرية بل صيانتها، وإن الإنسان لا يكون مواطنًا صالحًا إلا حين يشعر بأنه حرٌّ ومسؤول في آن.
لكن، هل الاختيار دائمًا طريق مفتوح؟ أم أن هناك لافتات تحذيرية تقول: “احذر، هنا منزلق خطر”؟ في “مفهومان للحرية”، يوضح إيزايا برلين أن الحرية السلبية تعني غياب العوائق الخارجية، أما الإيجابية فهي قدرة الإنسان على تحقيق ذاته. وقد تؤدي المبالغة في تأكيد الحرية الإيجابية إلى تسويغ تدخلات باسم “مصلحة الفرد”، تُفضي إلى قمعه من حيث لا يدري.
في هذا السياق، يصبح الوعي بالاختيار هو المعيار: متى يكون حقيقيًا؟ ومتى يكون مفروضًا باسم الخلاص؟ إن الدفاع عن الحق في الاختيار لا يعني رفض التوجيه، بل رفض أن يُختزل الإنسان إلى تابع لا صوت له.
الاختيار ليس رفاهية، بل مقاومة يومية ضد التشييء، ومساحة يُستعاد فيها كيان الفرد. ومن يَختر، يَخلق.
المحور الخامس: العلاقات والاختيار الحر
نمر في حياتنا بكثير من الصداقات، منذ الطفولة حتى الكبر. لعبنا وضحكنا وتقاسمنا المغامرات، فبدت الصداقة آنذاك وجهًا من وجوه الفرح. لكن مع الوقت، نكتشف أن الأصدقاء الحقيقيين ليسوا من يشاركوننا الضحك فقط، بل من يختارون البقاء حين تشتد الظروف. كما يُقال: “الصديق هو من يقف معك تحت المطر، مع أنه يستطيع البقاء جافًا” — وفاء لا تمليه مصلحة، بل ينبع من حرية القلب.
يرتبط هذا بما يُعرف في علم النفس العاطفي بـ”نظرية الاختيار الحر في الالتزام”، التي ترى أن الالتزام لا يكون صادقًا إلا إذا انطلق من قرار واعٍ، لا من ضغط أو خوف. حين يختار الفرد البقاء رغم التعب والتحدي، يتولد شعور بالمسؤولية والانتماء، ويشعر بدعم يخفف القلق ويعزز جودة الحياة.
وهذا لا يقتصر على الحب الرومانسي، بل يشمل كل علاقة تنمو بالرعاية والنية الصافية.
تؤكد بيل هوكس في “كل شيء عن الحب” أن الحب ليس مجرد شعور، بل فعلٌ حر يتطلب التزامًا ووعيًا. وترى أن حب الذات شرط أساسي لحب الآخرين: فمن لا يُنصت لحاجاته بصدق، لن يُصغي بصدق لمن يحبهم.
هكذا، يصبح الحب والوفاء مواقف نابعة من الحرية الداخلية، لا من الواجب. وتتحول العلاقات إلى فضاءات للعدل والنمو والدفء. وكما في السياسة والدين، كذلك في الحب: لا تزهر العلاقة إلا حين تُروى بحرية، لا بسلطة العادة أو الخوف.
خاتمة:
تُعدّ حرية الاختيار أساسًا جوهريًا للفضيلة، إذ لا يمكن للفضيلة أن تُفهم أو تُمارس بمعزل عن القدرة على اتخاذ قرارات واعية. فاختياراتنا في الأفكار والمشاعر والمواقف تُجسّد هويتنا، وتشكل ملامحنا الأخلاقية ومسار حياتنا.
بهذه الحرية نصبح فاعلين في صياغة ذواتنا، وتغدو الفضيلة تعبيرًا صادقًا عن إرادة واعية، لا مجرد استجابة للعرف أو الخوف. ففي نهاية المطاف، لا يكمن جوهر الفضيلة في المعرفة أو النية وحدهما، بل في الشجاعة اليومية لاختيار الخير، رغم الإغراءات والضباب.
الفضيلة ليست نورًا يُمنح، بل شعلة يشعلها كل إنسان في قلبه، كلما قرر أن يكون إنسانًا، حتى وسط العتمة.