أفورقي والبرهان يبحثان الأوضاع في السودان
تاريخ النشر: 11th, April 2025 GMT
التقى الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أمس الخميس في أسمرا. حيث بحثا العلاقات الثنائية، والأزمات السودانية والقضايا الإقليمية والدولية.
وفي الاجتماع، قال الرئيس الإريتري إن "الدعم الذي تقدمه حكومة وشعب إريتريا للشعب السوداني الشقيق نابع من مبادئ راسخة والتزامات أخلاقية".
ودعا أفورقي "شعوب المنطقة إلى الوقوف بجانب الشعب السوداني من أجل التوصل إلى حل سلمي دائم للأزمة بعيدا عن التدخلات الخارجية التي تعقد الوضع وتزيده تأزما".
وفي تصريح لوكالة الأنباء الإريترية، أوضح البرهان أن زيارته التي استغرقت يوما واحدا إلى أسمرا "جاءت لإطلاع القيادة الإريترية على آخر مستجدات النزاع في السودان" معربا عن تقديره "للدعم الكبير والمتواصل الذي تقدمه حكومة وشعب إريتريا لشعب السودان".
إلى أنطالياوفي وقت لاحق اليوم، وصل البرهان إلى مدينة أنطاليا التركية، للمشاركة في فعاليات "منتدى أنطاليا الدبلوماسي" في نسخته الرابعة، بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبحضور عدد من رؤساء وزعماء الدول والمنظمات الإقليمية والدولية.
ومن المقرر أن يبحث البرهان وأردوغان، مسار العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها وتطويرها وتقويتها في مختلف المجالات وآفاق الارتقاء بالتعاون المشترك بين البلدين، بجانب القضايا ذات الاهتمام المشترك.
إعلانويرافق البرهان في زيارته وزير الخارجية السوداني علي يوسف، ومدير جهاز المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، ومدير منظومة الصناعات الدفاعية الفريق أول ميرغني إدريس.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أسياس أفورقي
إقرأ أيضاً:
أين ذهب الرفاق؟ تأملات في فكر وتجربة اليسار السوداني (1)
د. ناهد محمد الحسن
هناك شيء مُحيِّر في التاريخ الإنساني: أجمل الأفكار تسقط حين تغادر الكتب. لا يهم إن كان اسمها الماركسية، أو الإسلام السياسي، أو الليبرالية، أو النسوية الراديكالية، أو حتى الحركات الروحية والصوفية. تبدأ الفكرة نيِّرة، مشتعلة بالعدل والحرية والخير، ثم ما تلبث أن تتعثّر، أو تتخشّب، أو تتحوّل إلى شيء آخر تمامًا.
لماذا يحدث هذا؟
لا أعتقد أن البشر سيئون بطبعهم، ولا أن النظريات خاطئة بالكامل، بل لعلّ السبب أن أي نظرية—مهما بلغت نقاوتها—تحمل داخلها بذور أزمة مستقبلية. وحين تتوسّع وتُطبَّق، تبدأ تناقضاتها الداخلية في الظهور، كما تكشف الممارسة حدودها الواقعية. هذه ليست قضية ماركسية فقط، بل قضية الأفكار حين تتحوّل إلى مؤسسات.
السودان، بتنوّعه وتعقيده، كان ساحة نادرة كشفت هذه التوترات بوضوح. فالنظرية شيء، والتجربة الإنسانية شيء آخر. النظرية تحاول أن تشرح العالم ببضع معادلات أو قوانين، لكن الإنسان لا يمكن اختزاله في معادلة. الإنسان يحمل خوفه وطموحه، إيمانه وتاريخه، ولاءاته وتعقيداته النفسية، علاقاته العائلية والجندرية، هويته الإثنية والروحية. وهذا التعقيد يتجاوز قدرة أي إطار نظري واحد.
يشير شارلز تايلور إلى أن محاولات اختزال التجربة الإنسانية في مبادئ كلية “تحرم الذات من عمقها الأخلاقي”.[i] ويذكّرنا برونو ليتور بأن النظريات، حين تحاول الإمساك بالواقع، تكتشف أن الواقع “أكثر حياةً وتناقضًا” [ii]مما يسمح به أي نظام فكري. هنا يبدأ الشقاق: النظرية تصف عالمًا مستقيمًا، بينما البشر يعيشون في عالم دائري ومعقّد.
وما إن يتبنّى الناس فكرة، حتى تتحوّل إلى نظارة ينظرون بها إلى العالم، وإلى هوية ينتمون لها، وحدٍّ فاصل بين “نحن” و”هم”. لا يختلف هذا كثيرًا عن الحركات الدينية أو الطائفية. وكما يلاحظ طلال أسد، يمكن لأي منظومة فكرية أن تتحوّل إلى “تقاليد خطابية” تُعيد إنتاج ذاتها باستمرار.[iii] عند هذه النقطة، لا تعود الممارسة مجرّد تطبيق للفكرة، بل دفاعًا عنها بوصفها هوية. يصبح النقد تهديدًا، والاعتراف بالخطأ مساسًا بالذات، ويتقدّم خطاب “الصفاء” و“النقاء” داخل الجماعة.
في السودان، رأينا هذا النمط لا داخل اليسار وحده، بل داخل الإسلاميين، والطرق الصوفية، وحتى بعض الحركات الشبابية الحديثة. ما إن تتحوّل الفكرة إلى هوية، حتى تبدأ في التخشّب.
هناك مشكلات خارجية، سياقية، تُضعف النظريات أو تعيق تطبيقها، مثل اختلاف التاريخ، فقر المعلومات، البنية الطبقية والثقافية، سلطة الدولة، والاستعمار. هذه يسهل رصدها. لكن الأخطر هو المشكلات الداخلية البنيوية، لأنها أقل وضوحًا. وهي فخاخ كامنة في بعض افتراضات النظرية حين تتحوّل إلى ممارسة مؤسسية: ادعاء امتلاك الحقيقة العلمية، احتكار النخبة للمعرفة، وجود قيادة “طليعية”، النظر إلى الجماهير بوصفها قاصرة، مركزية التنظيم، تصور طبقي جامد، وإقصاء الجندر والثقافة والدين من التحليل، إلى جانب ميل غير واعٍ إلى الوعظ الأخلاقي.
هذه السمات لا تظهر دائمًا مجتمعة، ولا في كل السياقات، لكنها تتكرر تاريخيًا حين تُعاد إنتاج المعرفة والسلطة داخل التنظيمات، كما يشير ميشيل فوكو[iv].
لماذا يتكرّر الفشل في كثير من الحركات؟
لأن النظرية حين تتحوّل إلى مؤسسة، تتغيّر وظيفتها. في الكتب، تهدف النظرية إلى تفسير العالم. أمّا حين تصبح مؤسسة، فتتحوّل وظيفتها إلى مهام تنظيمية: الحفاظ على الكيان، حماية الهوية، فرز الداخل والخارج، ضبط السلوك، فرض الانسجام، وصيانة الهيبة. هكذا تتحوّل الفكرة، دون قصد، من مشروع للتحرّر إلى مشروع للضبط، ومن أفق للتغيير إلى آلية للصيانة، ومن سؤال مفتوح إلى إجابة نهائية. يصف روبرت ميشيلز هذا المسار فيما سمّاه “قانون الأوليغاركية الحديدي”[v]، الذي يرى أن كل تنظيم—حتى التقدمي منه—يميل بمرور الوقت إلى إنتاج نخبة ضيقة تُعيد إنتاج علاقات السلطة داخله.
السودان: مختبر لفهم تعثّر النظريات
السودان مجتمع متعدّد القوميات والثقافات والأديان. المسلمون فيه، في جزء كبير منهم، متديّنون بطبعهم، والمجتمع ريفي في جوهره، لغاته وثقافاته متعددة، السلطة فيه موزعة، والنساء يلعبن أدوارًا اجتماعية لا تلتقطها النظريات الكلاسيكية، مع نزعة أناركية أصيلة في العلاقة مع الدولة. كل ذلك يجعل السودان مستعصيًا على أي نظرية موحّدة. ولهذا تعثّرت فيه مشاريع الأسلمة، والتعريب، واليسار الكلاسيكي، والدولة الحديثة، وحتى مشاريع التحديث التنموي. ليس لأن هذه المشاريع سيئة بالضرورة، بل لأنها لم تستطع استيعاب تعددية المجتمع وتعقيده.
يشير جيمس سكوت إلى أن المشاريع الاجتماعية الكبرى تنهار حين تتجاهل المعرفة المحلية وتعقيد الحياة اليومية[vi]. وقد انتبه الشهيد عبد الخالق محجوب مبكرًا إلى هذا المأزق، في ورقته المقدّمة للمؤتمر الثالث للحزب الشيوعي عام 1963، حين دعا إلى تحويل الفكر الثوري إلى “اللغة التي يفهمها شعبنا”، مؤكدًا أن المسألة ليست لغوية فحسب، بل تتعلق بكيفية تجسيد النظرية داخل شروط اجتماعية واقعية. هذا الوعي المبكر يعكس رؤية ثاقبة وفهمًا متقدمًا لتحديات الماركسية، ويقودني إلى التساؤل: كيف كان سيواجه هذا العقل الكبير، واقع عجز النظرية عن الإجابة على كل الفخاخ التي أشار إليها لاحقًا في ورقته “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير”؟
كيف نفهم الفكرة حين تتعثر؟
ربما نحتاج إلى أدوات بسيطة تعيد ترتيب علاقتنا بالأفكار. أن نرى النظرية كأداة لا كهوية، كخريطة لا كأرض. أن نميّز بين العدالة بوصفها قيمة، والأدوات التي نستخدمها لتحقيقها. فالغاية النبيلة لا تبرّر احتكار المعرفة، ولا الوصاية، ولا قمع الاختلاف. وأن نعترف بأن الإنسان أكثر تعقيدًا من أي إطار شامل، وأن أي مشروع تحرري حقيقي يجب أن يبدأ من التجربة اليومية: من اللغة الحية، والثقافة، والجندر، والدين، والخوف والأمل، والعلاقات، وتناقضات البشر، لا من نصوص كبرى تُفرض على الواقع.
كان عبد الخالق محجوب مدركًا لأهمية التعلّم من الجماهير، إذ أكّد أن الجماهير ليست “تلاميذ ينتظرون التوجيه”، ولا “أدوات دعائية”، بل مصدر الشرعية ذاته، وأن العلاقة يجب أن تقوم على المشاركة والثقة والفعل المشترك. كانت رسالته ماركسية، لكن أرضه كانت السودان، وسؤاله كان بسيطًا وعميقًا: “لماذا لا نصل إلى الناس؟”
يبقى السؤال مفتوحًا: إلى أي حد كانت ستُسعفه النظرية نفسها؟
في هذه السلسلة، سنحاول تقليب دفاتر الماركسية وتجربة اليسار السوداني، لا لنُدينها، بل لنفهمها: أين تنجح النظرية؟ وأين تخفق؟ ولماذا، رغم وعي مبكر بهذه المآزق، تعثّرت الممارسة، وانزلقت أحيانًا إلى الوصاية والوعظ؟ لماذا تكرّرت الانقسامات، وغادر الرفاق؟ ولماذا ظلّ اليسار يواجه صعوبة في فهم الدين والجندر والثقافة؟
سنرى أن هذه ليست “أخطاء أشخاص”، بل فخاخ تظهر حين تتحوّل الأفكار إلى مؤسسات. وهذا لا يُنقص من قيمة الفكرة الأصلية، بل يعيدها إلى حجمها الإنساني، ويجعلها أكثر تواضعًا… وربما أكثر قدرة على الحياة.
[i] Charles Taylor, Sources of the Self, 1989.
[ii] Bruno Latour, Reassembling the Social, 2005.
[iii] Talal Asad, Genealogies of Religion, 1993.
[iv] Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge, 1969.
[v] Robert Michels, Political Parties: A Sociological Study of the Oligarchical Tendencies of Modern Democracy, 1911.
[vi] James C. Scott, Seeing Like a State, 1998.
الوسومد. ناهد محمد الحسن